من التاريخ: «روبيسبيير» ودماء الأمة

TT

لا يختلف المؤرخون على أن التلميذ النجيب لآراء جان جاك روسو الثورية التي تناولناها في المقال السابق، هو ماكسيمليان روبيسبيير؛ أحد أهم شخصيات الثورة الفرنسية أو لعله يكون الشخصية الأساسية في فترة منها، والذي ذاع صيته ليس فقط لأن شخصيته غريبة بعض الشيء، ولكن لأنه لعب دورا مهمّا للغاية في أكبر عملية إرهاب دولة عرفتها الثورة الفرنسية، ولكنها للأسف لم تكن الأخيرة.. فلم تخل كثير من الثورات من هذا النمط نفسه من العنف تحت مبررات مختلفة، في وقت لم يكن مُبررا فيه كل هذا العنف والقتل والدمار والتشتيت. والملاحظ هنا أن هذا العنف ارتبط دائما بشخصية قوية ادعت أنها على اتصال مباشر بالمجتمع وقادرة على التعبير عنه، إما وحدها، أو أغلب الظن على رأس مجموعة مصغرة تقودها، وروبيسبيير هو التجسيد الحقيقي لهذه الشخصية الثورية.

تجمع أغلبية المصادر التاريخية على أن روبيسبيير ولد لأب محام وأنه فقد والدته في الثامنة من العمر، ولكن وفاتها على ما يبدو كان له أسوأ الأثر في حياته، وأدى لعدم اتزان نفسي واضح في سلوكه فيما بعد لم يكن خافيا على كثير ممن تعاملوا معه. وقد كان روبيسبيير متفوقا في دراسته، فاستطاع أن يحصل على المنح الدراسية لاستكمال تعليمه، وقد تخرج الرجل في كلية الحقوق، وحصل على جوائز لتفوقه في الدراسة على مدار عمره. وواقع الأمر أنه لم يكن ثوريا منذ الصغر، بل إنه جرى اختياره لينشد قصيدة الشعر التي كتبها تمجيدا في ملك فرنسا لويس السادس عشر وهو طالب، ولكن الملك لم يسمعها لأنه أمر موكبه بالإسراع بسبب هطول الأمطار، غير مدرك أن هذا الرجل هو الذي سيقوم بالإطاحة برأس ملك فرنسا بعد ذلك بأقل من 20 عاما! وتجمع المصادر التاريخية على أنه كان نحيفا للغاية، منمقا، شديد الأناقة، قليل الكلام إلا عند الضرورة، له قدرة رفيعة للغاية على التفاعل مع الجماهير، كما أنه كان مفوها وخطيبا بارعا استطاع أن يصل لقلوب المستمعين، وكان متمكنا من التاريخ، خاصة التاريخ الروماني، ولكن قبلته الفكرية في الأساس كانت نحو جان جاك روسو، الذي اعتنق منه أفكاره الخاصة بالمجتمع ومسؤوليته في إدارة الأخلاقيات والسياسة على حد سواء، كما كان مقتنعا تمام الاقتناع بمفهوم «الإرادة الجمعية» أحد الألغاز الفكرية التي طرحها روسو والتي أسند إليها مسؤولية إدارة المجتمع دون تحديد لشكلها أو هويتها، فكان روبيسبيير يرى أنه يجب على من هو قادر أو مدرك للمجتمع أن يقوده ويتحدث عن البقية، حتى دون أي تفويض من هذا المجتمع، وهكذا رأى روبيسبيير في نفسه هذا الرجل خاصة بعد اندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789.

لقد بدأ نجم روبيسبيير يسطع مع بداية الثورة الفرنسية عندما كان برلمانيا منتخبا وهو في الثلاثين من عمره على الرغم من أنه كان من الطبقة الوسطى غير الميسورة ماديا، وسرعان ما بدأ يلمع نجمه بعدما وجه جهوده لصالح الفقراء من عامة الشعب، فكان يدافع عنهم بلا مقابل في المحاكم، كما أنه بدأ يسعى للتقرب منهم من خلال الدفاع عن أساسيات حياتهم، مما دفعه مستقبلا لوضع حد لسعر رغيف الخبز لصالح الفقراء، وقد كان لهذا أثره في زيادة شعبية الرجل، خاصة بعدما بدأ يسعى لتطبيق أفكار روسو ويطالب بتحرير المجتمع من القيود المفروضة عليه. ولتنفيذ ذلك الهدف دخل روبيسبيير في تحالف مع من أطلق عليهم «اليعاقبة» Jacobins، الذين مثلوا رؤية ثورية متشددة بعض الشيء، هدفها الأساسي كان السيطرة على المجتمع داخليا وفرض مفاهيم محددة على المجتمع الثوري بدلا من حالة الفوضى المتفاقمة التي تمزق الدولة الفرنسية.

وفي المقابل كان التيار المناهض لهم هم الذين سُمّوا باسم «الجيرونديت» Girondins الذين كانوا من أنصار نشر الثورة الفرنسية ومبادئها في كل الدول الأوروبية بقوة السلاح، فضلا عن تطور قناعتهم مع مرور الوقت بضرورة السيطرة على التيارات الثورية حتى لا تتحول فرنسا إلى حالة من الفوضى. وقد تصدي روبيسبيير لفكرهم، وذلك بالتأكيد على اقتناعه بضرورة نشر مبادئ الثورة الفرنسية، ولكن «ليس اليوم»، على حد تعبيره، مطلقا جملته الشهيرة: «لا أحد يحب المبشرين في زي الجندية»، أي إنه لا يمكن نشر هذا الفكر الثوري بقوة الجيوش، كما أنه أكد على ضرورة أن يصبح المجتمع ثوريا وأكثر عنفا لتحقيق أهدافه.

وقد بدأت كفة الأحداث تميل لصالح «اليعاقبة» بعد انتشار الفوضى في البلاد وتفسخ المجتمع بين طبقات وفئات وذوى مصالح، فكان هناك الملكيون الذين يرغبون في إعادة الملكية، كما كان هناك الثوريون بكل اتجاهاتهم الذين لا تعرف لهم بوصلة موحدة، كما كان هناك المؤيدون للجمهورية، وكان لطبقة رجال الكنيسة رأيها الخاص.. فكانت الفوضى تعم في البلاد. ووسط هذا خرج «اليعاقبة» وعلى رأسهم روبيسبيير الذي بدأ يعمل تدريجيا مع شخصيات مثل دانتون وميرابو لإحكام سيطرتهم على الساحة السياسية في فرنسا، وسرعان ما طرحوا فكرة إلغاء الملكية على وجه السرعة لاقتناعهم بصعوبة استمرارها بعدما ثار الشعب عليها. وبالفعل بدأت المشاورات حول مصير الملك، وعندها رفض «اليعاقبة»، وعلى رأسهم روبيسبيير، فكرة محاكمة الملك لأن المحاكمة قد تؤدي إلى تبرئته، وهو ما سيفسر على أنه ضربة صريحة وقانونية ضد الثورة نفسها، لذلك فالثورة يجب أن تمضي تحت أي ظرف وبأي ثمن. وقد خلصت التطورات إلى إعدام الملك لويس السادس عشر، فكانت جملة روبيسبيير الشهيرة: «لويس يجب أن يموت حتى تحيا الأمة».

وعلى الرغم من أن روبيسبيير نجح في هدفه هذا، فإنه بكل تأكيد فشل فشلا ذريعا في حمل مسؤولية إدارة الدولة الفرنسية، فالتخلص من القيادة السياسية بثورة ليس معناه نجاح الإدارة القائمة على الحكم، وهذا ما أثبته التاريخ من خلال هذا الرجل، فعندما آلت السلطة السياسية في فرنسا لما عرف باسم «لجنة الأمن العام» التي ترأسها روبيسبيير بدأت فرنسا تدخل في مرحلة تطبيق فكر روسو الذي عبر عنه من خلال شخصية كاريزمية ولكن مضطربة مثل روبيسبيير، فقد كان مؤمنا إيمانا تاما بفكر روسو بضرورة «أن تُجبر المواطنين على أن يكونوا أحرارا»، وكان دائما يقول في لجنته: «فرنسا محتاجة إلى إرادة موحدة»، وفي سبيله لتنفيذ ذلك، وضع خطة محكمة للتخلص من كل من كان يخالفه في الرأي أو التوجه، فكانت نتيجة فترة حكمه التي وصلت إلى قرابة سنة مجازر لا حدود لها، فتشير التقديرات إلى أن المقصلة وحدها حصدت قرابة 20 ألفا في الميادين العامة نوعا من القربان لأفكار الحرية، ناهيك بقرابة 30 ألفا لقوا مصرعهم رميا بالرصاص من الجيوش الثورية في البلاد، وكان على رأس الضحايا كل من خالف المجموعة في الرأي السياسي.

وقد بلغ اقتناع روبيسبيير ولجنته بضرورة التخلص من نفوذ الكنيسة الكاثوليكية ورجالها باعتبارها صاحبة أكبر تمركز للملكية الزراعية في البلاد وأغنى المؤسسات على الإطلاق، فضلا عن الغنى الفاحش ناهيك بقدراتهم على التأثير في المجتمع.. بلغ حدا بعيدا، وبالتالي جاءت عملية تقليم أظافر الكنيسة ورجالها من خلال تأميم أملاكها أو فرض القسم الوطني على كل رجال الكنيسة. وقد بلغ الرجل في تطرفه أن أعلن في احتفالية كبرى عن محاولة التخلص من المفهوم المسيحي ليحل محله فكرة الإله الواحد من خلال «الكائن الأكبر» ليكون أساسا لهذا المعتقد الجديد، وقد أقيمت الاحتفالات لهذا الغرض في باريس.

حقيقة الأمر أن الرجل على الرغم من أنه كان مؤمنا بنظريات روسو، فإنه لم يكن مدركا أن الشعوب لا تتغير بالقرارات الفوقية، كما أنها لا تتغير بالعنف أو القهر، ناهيك بتغيرها بتغيير المعتقد السياسي أو حتى الديني فجأة، فلقد رفض الفرنسيون كل هذا المتغيرات المتطرفة التي فرضتها هذه الشخصية المعتلة، وكعادة الشعوب، فإنها سرعان ما تلفظ ما ليس متوائما مع ثوابتها الراسخة، فذاق الرجل المصير نفسه الذي أذاقه لضحاياه حين أدركت النخبة السياسية من البرلمانيين وغيرهم من الساسة ورجال الجيش أن الرجل لا يمكن أن يستمر هكذا، خاصة مع بزوغ آراء داخل اللجنة يقودها دايتون بأن الإسراف في القتل والدم والتطرف لن يؤدي إلى تحقيق الأهداف السياسية، فما كان من روبيسبيير إلا أن لفق له تهمة الخيانة والتآمر مع أعداء الثورة ورفعه وعددا من أتباعه على المقصلة.

وقد اعتقد روبيسبيير أن حب العامة له من شأنه أن يحميه من المعارضة، فحتى كنيته بين الشعب بأنه «غير قابل للإفساد» لم تشفع له كثيرا، فلقد سئمت العامة الدم، وتكتل الأعداء ضده بأسرع مما كان يتصور، فاجتمعت الجمعية وقررت القبض عليه والتخلص منه هو ورجال لجنته. وتختلف الآراء حول ساعاته الأخيرة، فالبعض يرى أنه حاول الانتحار فأصابت الرصاصة فكه، بينما تروي مصادر أخرى أن القوة المكلفة بالقبض عليه أصابته في الفك، وبعرضه على الجمعية في اليوم التالي تقرر إرساله للمقصلة وسط تجمع كبير من أعدائه وعامة الشعب على حد سواء. ويقال إن الرجل كان همه الأزلي هو إزالة بقع الدماء التي انسابت على قميصه بسبب إصابته، فلقد كان مهتما بأناقته ومظهره أكثر من مصيره، فيما يوحي بكل تأكيد بأن الرجل كان يعاني اختلالات نفسية واضحة على رأسها «الوسواس القهري» إضافة إلى شعور واضح «بالبارانويا»، وهو ما يبين مدى مرضه النفسي.

حقيقة الأمر أنني كلما تأملت شخصية روبيسبيير، ازداد اقتناعي الكامل بأن السلطة لم تُخلق لتكون في أيدي أمثاله، خاصة إذا ما كانوا واقعين تحت ضغط فكري مبني على مؤسسية وصياغة فكرية غير قابلة للتنفيذ كالتي تقدم بها روسو، فتكون التجربة هي أساس الانتكاسة.. فهناك أمور في السياسة يجب ألا تخضع للممارسة والتجربة، فدماء الشعوب ومقدراتها ليست لعبة في أيدي المتطرفين الآيديولوجيين، فالأمم تحيا بمؤسساتها قبل ثوراتها.