من التاريخ: معركة اليرموك

TT

وقف البطل المغوار، سيف الله المسلول، خالد بن الوليد منذ ألف وثلاثمائة وثمانية وسبعين عاما ميلاديا بالتمام في وادي اليرموك يتفقد جيوش المسلمين والقلق يساوره أمام قوة الجيوش البيزنطية المرابطة أمامه، وإن كان الأمر لا يخلو من غصة داخلية بعدما قرر الخليفة الجديد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عزل هذا القائد الفذ الذي انكسرت قوات كسرى تحت لواء عبقريته وإيمان جنوده بالله سبحانه وبقدرات قائدهم، كما أنه الرجل الذي بعث به الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الشام.. «لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد»، على حد قوله، حيث استطاع أن يلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى في معارك شهيرة بأرض الشام مثل «أجنادين» و«فحل» وفتح دمشق وغيرها.

ولكن هذا لم يكن يشغله بقدر ما كانت تشغله المسؤولية الجديدة الملقاة على عاتقه، فعلى الرغم من أن أبا عبيدة بن الجراح أو «أمين الأمة» كان الشخص الذي كُلف بقيادة جيش المسلمين وفقا لتوجيهات الخليفة، فإن المعركة كانت أكبر من القدرات العسكرية لهذا الرجل الرقيق والمقرب لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام، فما كان منه إلا أن نظر لخالد الذي لم يتأخر عن فهم النظرة، فقال له بقوة وصلابة: «ابعث لأصحاب الرايات وقل لهم يسمعون مني»، وهكذا أصبح خالد هو القائد الفعلي لجيوش المسلمين قبل بدء هذا اليوم العصيب بساعات معدودات.

خلفية هذا اليوم تكمن في أن هرقل ملك بيزنطة كان مصرا على استعادة أجزاء كبيرة من الشام من قبضة المسلمين، فأعد لهم أربعة جيوش كبيرة ليستطيع أن ينفرد بكل جيش من جيوش المسلمين المتناثرة بالشام، كل على حدة. وعندما طلب بن الجراح المشورة، أصر سيف الله على أن يتم تجميع جيوش المسلمين ليكونوا قوة واحدة ضاربة، وقد استقر الرأي على ذلك، فبعث بن الجراح إلى قادة الجيوش الإسلامية؛ وهم: عمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، للتمركز في السهل الموازي لنهر اليرموك، وسار جيش أبي عبيدة وخالد بن الوليد إلى هناك من حمص. وقد قسمت جيوش المسلمين إلى أربعة جيوش أساسية في مواجهة الجيوش الرومانية الأربعة، على نحو جديد يضم قلبين وجناحين، فعلى الميمنة كان جيش الداهية عمرو بن العاص، وفي الميسرة كانت القيادة ليزيد بن أبي سفيان ومعه كثير من بني أمية بمن فيهم والده أبو سفيان بن حرب وزوجته هند بنت عتبة، بينما تألف وسط المسلمين من جيش يقوده أبو عبيدة بن الجراح، وثان تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، وكانت القوة الإجمالية للمسلمين تصل إلى قرابة 40 ألفا، وفقا لتقديرات كثير من المؤرخين، منهم عشرة آلاف فارس.

وقد وضع سيف الله خلف جيشي الوسط «خيل الزحف» الذي تألف من قرابة أربعة آلاف فارس يمثلون خيرة فرسان المسلمين المنتقين، الذين يقودهم البطل الهمام ضرار بن الأزور الذي كان يحارب عادة عاري الصدر، وكان يفهم قائده خالدا بالنظرات. وكان هذا «الخيل» هو ما يمكن أن نصفه اليوم في العلوم العسكرية بـ«الاحتياطي الاستراتيجي»، تلك القوة التي تحتفظ بها الجيوش بوصفها آخر بديل يدفعون به لمواجهة الخصم عند التقهقر أو قبيل الانكسار.

ولكن ماذا عسى 40 ألفا أن يفعلوا أمام جحافل الروم التي قدرتها المصادر بما بين مائة وعشرين ومائة وخمسين ألفا؟ فلقد تجمعت الجيوش الأربعة وانتشرت على مساحة ممتدة تبلغ قرابة 18 كيلومترا، وكان القائد الروماني هو ماهان ملك أرمينيا وأحد المقربين من القيصر البيزنطي، الذي سيطر على القلب البيزنطي أمام جيشي أبي عبيدة ويزيد، وكانت ميسرته تتألف من جيش الصقالبة والأرمن تحت قيادة قائد ماهر هو قورين، بينما وقعت ميمنته تحت قيادة بطل آخر هو غريغوري، وفي هذه الظروف أصبحت ميسرة الجيش الإسلامي يحذوها نهر اليرموك، وهو ما حماها من أي محاولات للالتفاف من قبل العدو، بينما كانت ميمنة المسلمين بلا عائق مادي، وهنا أدرك خالد أن الميمنة هي مفتاح المناورة الحقيقي، وتفهم بعبقريته خريطة المكان كما هي عادته، وظل قليل الكلام في كل مجالس الحرب التي سبقت المعركة، مصدرا تعليماته بدقة شديدة دون الإفصاح عن خطته في أي لحظة، ولكن الثقة في نصر الله وسيفه كانت أكبر من أن يستفسر أحد عن كيفية حدوثه.

حقيقة الأمر أن المعركة كانت بكل المعايير غير متكافئة، وقد دارت بقوة شديدة خاصة عند ميمنة المسلمين، حيث أبلى عمرو بن العاص بلاء حسنا مع رجاله وتحملوا ضغوط الصقالبة والأرمن دون أن ينكسروا، ولكنهم بدأوا يتقهقرون أمام الأعداد الرومانية الممتدة، ولكنهم عادوا ليستعيدوا الأرض التي فقدوها.. وهكذا كانت حال جيوش المسلمين الأربعة وذلك على مدار الأيام الثلاثة الأول، ولكنهم عادوا لمواقعهم بعد التقهقر، والجميع ينظرون لخالد الذي لم يعبر عن أي شيء سوى مطالبته المسلمين بالصمود.

وقد كان اليومان الثالث والرابع أصعب الأيام بالنسبة للمسلمين، فلقد نزلت عليهم الجيوش البيزنطية بكل ثقلها، خاصة يزيد الذي اشتد عليه الضغط بسبب تقدم الرماة البيزنطيين، مما أدى لفقدان كثير من المسلمين أعينهم فيما عرف بـ«يوم التعوير»، فاضطر الرجل للتقهقر، ثم لصد الهجمات القاسية، ولكن جبهته انكسرت بشكل ملحوظ، فخرجت النساء خلف الفُرَّار ينهرونهم.

بعد أن اندلعت المعارك مرة أخرى، خرج المسلمون في هذا اليوم مهاجمين وليسوا مدافعين، وكان هدف خالد بن الوليد واضحا، فلقد بدأ تحركه المستتر بـ«خيل الزحف» نحو ميسرة العدو التي باتت أضعف نقاطه.

كما توقع خالد، فإن ميسرة العدو بدأ تنكمش تدريجيا وتسعى للهروب، وتلتها الجيوش الأخرى، وقد تعمد خالد أن يكون التطويق بشكل منظم ليسمح للجنود المنسحبين بالمرور من طريق واحد فقط كان يصب في هاوية جغرافية يعرفها جيدا.

وهكذا انهزم أكبر جيش بيزنطي أمام المسلمين. وتشير تقديرات المؤرخين إلى أن الهزيمة أدت إلى موت أو إصابة أو أسر ما يقرب من مائة ألف بيزنطي تقريبا، مقابل أربعة آلاف مسلم وجرح آلاف آخرين. وكانت هذه المعركة الفاصلة هي أكبر المعارك الإسلامية على الإطلاق، وكان نصرا استراتيجيا حاسما لم تستطع الإمبراطورية البيزنطية استرداد الشام بعده مرة أخرى.