«آش» كارتر.. «سيد البنتاغون» الجديد

عالم الفيزياء الديمقراطي في مواجهة تحدي الجمهوريين في الداخل و«داعش» في الخارج

TT

اختار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، الأسبوع الماضي، آشتون كارتر ليكون وزيرا للدفاع، خلفا لتشاك هيغل الذي قضى في منصبه عاما ونصف العام فقط. منذ البداية، ووراء الكواليس، اختلف هيغل مع أوباما، ليس فقط في الاستراتيحية العسكرية (أفغانستان، والعراق، وسوريا.. إلخ)، ولكن، أيضا، لأنه «سياسي أكثر مما يجب»، كما قال هيغل عن نفسه. بالمقارنة مع أوباما، فإن هيغل يكبر أوباما بـ15 عاما، وعندما كان هيغل نائب وزير في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان، لم يكن أوباما دخل جامعة هارفارد. لكن، يختلف وزير الدفاع الجديد عن الوزير الذاهب.

أولا: من جيل أوباما تقريبا.

ثانيا: ليس سياسيا.

كارتر واحد من وزراء دفاع قليلين هم أيضا علماء، وأول وزير دفاع عالم منذ ويليام بيري، وزير الدفاع في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، قبل 20 عاما تقريبا. منذ نصف قرن، عندما كان روبرت ماكنمارا وزيرا للدفاع، في عهد الرئيس الأسبق جون كيندي (ثم الرئيس لندون جونسون)، جاء فقط 3 وزراء دفاع علماء.

ماكنمارا نفسه درس إدارة الأعمال. وبعده، جيمس شلسنغر (مع الرئيس نيكسون) كان بيروقراطيا. وكان دونالد رامسفيلد (مع الرئيس فورد، ثم مع الرئيس بوش الابن) سياسيا، ويظل. وكان كاسبر واينبيرغر (مع الرئيس رونالد ريغان) سياسيا. وكان فرانك كارلوتشي (مع الرئيس ريغان) دبلوماسيا واستخباراتيا. وكان ديك تشيني (مع الرئيس بوش الأب) سياسيا، ويظل. وكان روبرت غيتس (مع الرئيس بوش الابن، ثم الرئيس أوباما) أكاديميا واستخباراتيا. وكان ليون بانيتا (مع الرئيس أوباما) سياسيا، ويظل.

في الجانب الآخر، نال هارولد براون (مع الرئيس جيمي كارتر) دكتواره في الفيزياء. ثم تخصص في الإشعاع النووي. ونال ويليام بيري (مع الرئيس بيل كلينتون) دكتوراه في الرياضيات، وعمل مديرا لشركات إلكترونية. وها هو كارتر، ثالث وزير دفاع عالم خلال نصف قرن. نال دكتواره في الفيزياء النظرية من جامعة أكسفورد. وأول وزير دفاع كان والده، أيضا، عالما (طبيبا في علم النفس، ومتخصصا في علم الأعصاب).

وأشاد الرئيس باراك أوباما خلال مؤتمر صحافي قبل أيام، بالخبرة الواسعة التي يتمتع بها كارتر في المجالات الأمنية والعسكرية والأكاديمية، وأشار إليه باسم التدليل «آش». وقال أوباما: «على مدى أكثر من 30 عاما كان (آش) واحدا من أبرز الباحثين والقادة في المجال الأمني، وكان إلى جواري في عدد من الاجتماعات، وأنا أعتمد على خبرته وتقييمه ومؤمن بأنه سيجلب رؤية تقنية وسيقوم بعمل هام لتحسين الأمن». وعمل كارتر مع 11 وزيرا سابقا للدفاع، كما عمل في مجال مكافحة أسلحة الدمار الشامل ولديه خبرة واسعة في البنتاغون. وتواجه كارتر عدة تحديات أهمها داخليا قضية تقليص ميزانية وزارة الدفاع، وخارجيا مواجهة التحديات في العراق وأفغانستان، والتعامل مع الأزمة في سوريا، وتقوية حلف شمال الأطلسي، والعمل مع الشركاء في آسيا والباسيفيك، والاستمرار في مكافحة مرض إيبولا مع تركيز وزارة الدفاع على التحديات المستقبلة في مكافحة التهديدات الإلكترونية، والاستثمار في الإمكانات لمواجهة التحديات المحتملة، ومواجهة الكونغرس حول سياسات الإنفاق.

وسيواجه كارتر أول تحدٍ في مجلس الشيوخ عندما يبدأ العمل بالتشكيلة الجديدة، ذات الغالبية الجمهورية، الشهر المقبل. وحينها، سيعقد المجلس جلسة للتصديق على تعيين كارتر وزيرا للدفاع، وسيحتاج كارتر إلى 51 صوتا من إجمالي 100 صوت في مجلس الشيوخ ليتم قبول ترشحيه للمنصب.

وتشير مصادر في الكونغرس إلى أن هناك حالة من القبول لاختيار أوباما، بسبب ما يحظى به كارتر من سمعة جيدة وخبرة عسكرية، لكن ذلك لن يمنع أعضاء جمهوريين في المجلس من توجيه أسئلة ساخنة إلى كارتر حول سياسات وزارة الدفاع فيما يتعلق بتنظيم داعش والملف النووي الإيراني والمضي تجاه تقليص ميزانيات الدفاع.

ويقول السيناتور الجمهوري جون ماكين الذي يفترض أن يرأس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الشهر المقبل، إن كارتر يحظى باحترام جيد داخل الكونغرس. كما أكد السيناتور الجمهوري جيم أنهوف، أن كارتر لن يواجه صعوبات في الحصول على مصادقة مجلس الشيوخ.

وفي حال المصادقة على تعيينه، سيصبح كارتر، رابع وزير للدفاع خلال عهد الرئيس أوباما، وسيقود البنتاغون خلال العامين المتبقيين من إدارة أوباما حتى عام 2016.

ولد كارتر في عام 1954 (عمره 60 عاما). وبعد أن حصل آشتون كارتر على الدكتوراه، عمل لفترة قصيرة أستاذا في جامعة أكسفورد البريطانية، ثم عاد إلى الولايات المتحدة، وعمل أستاذا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي)، ثم دخل مجال الشركات والاستثمارات التكنولوجية مع شركة «غلوبال تكنولوجي»، وشركة «متري» التكنولوجية. وكان خبيرا مع «معامل لنكون» التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي). ومع معامل «درابر»، ومع شركة «غولدمان ساخس» الاستثمارية العالمية.

لكنه، مثل الوزيرين العالميين الذين سبقاه (براون، وبيري)، جمع، في وقت لاحق من حياته، مهنتي العلم والسياسة. درس العلاقات الدولية في جامعة هارفارد. وفي الوقت الحاضر، هو واحد من قلائل أعضاء في الأكاديمية الأميركية للعلوم، وأيضا، في مجلس العلاقات الخارجية. وهو عضو في مجلس العلوم الاستشاري لتابع لوزارة الدفاع، وأيضا، المجلس الاستشاري للأمن العالمي التابع لوزارة الخارجية.

وهكذا، تدريجيا، انتقل من العلم إلى السياسة. من ولاية ماساتشوستس (هارفارد، و«إم آي تي») إلى واشنطن العاصمة (وزارة الدفاع).

في عهد الرئيس بيل كلينتون، كان مساعد وزير الدفاع للأمن العالمي، وبسبب تخصصه العلمي أشرف على برنامج التسلح النووي، وعلى المفاوضات مع روسيا (بعد سقوط الاتحاد السوفياتي) لتخفيض عدد القنابل النووية والصواريخ العابرة للقارات. والتي كان عدد كبير منها في 3 ولايات سوفياتية (الآن، جمهوريات مستقلة): كازاخستان، وأوكرانيا، وروسيا البيضاء.

كان ذلك برنامج «نان لوغار» (السيناتور الديمقراطي سام نان، والسيناتور الجمهوري رتشارد لوقار) للإسراع بالسيطرة على القنابل النووية والصواريخ العابرة للقارات، مع سقوط الاتحاد السوفياتي. وخوفا من وقوعها تحت سيطرة ولايات أو جمهوريات متطرفة أو منظمات إرهابية.

كان ذلك برنامجا عملاقا، كلف 10 مليارات دولار، وأدى إلى تحطيم وتدمير 537 صاروخا عابرا للقارات، و459 موقعا لهذه الصواريخ، و128 طائرة حاملة لأسلحة نووية، و408 غواصات، و27 غواصة نووية، و260 طن مواد نووية، و49 معملا لأسلحة بيولوجية، و35 معملا لأسلحة كيماوية.

كل ذلك كان تحت إشراف مساعد الوزير كارتر.

وخلال سنوات الرئيس بوش الابن (2000 - 2008)، عاد كارتر إلى العلوم، والأكاديميات، والاستثمارات. وفي عهد الرئيس أوباما، عاد إلى وزارة الدفاع، مساعدا لشؤون التكنولوجيا واللوجيستيات، وكان وزير الدفاع هو روبرت غيتس، الجمهوري الذي كان الرئيس بوش الابن اختاره، بعد خروج دونالد رامسفيلد (وسط توترات وتناقضات غزو واحتلال العراق). وعندما صار أوباما رئيسا، فضل أن يستمر غيتس لأنه جمهوري ومعتدل، وخوفا من أن يتهم الجمهوريون أوباما بأنه «ضعيف في الدفاع عن الوطن».

وخلال عهد أوباما، ظهر اسم كارتر في قائمة المرشحين لوزارة الدفاع مرتين، أولا: مع فوز أوباما بالرئاسة الثانية، وتقاعد غيتس. لكن، فضل أوباما سياسيا على عالم. بل فضل واحدا من أكثر السياسيين سياسة؛ ليون بانيتا، الذي كان عضوا في الكونغرس، ومساعدا للرئيس بيل كلينتون، ويعرف واشنطن مكتبا مكتبا، وشارعا شارعا (كان مدير وكالة الاستخبارات المركزية قبل وزارة الدفاع).

ثانيا: عندما قرر بانيتا ترك العمل السياسي والعودة إلى ولايته، ولاية كاليفورنيا، فضل أوباما سياسيا على عالم مرة أخرى. واختار الجمهوري تشاك هيغل، الذي كان سيناتورا، وكان نائب وزير في عهد الرئيس رونالد ريغان. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم يكن هناك تفاعل كيماوي بين الرجلين. وفي الأسبوع الماضي، وأخيرا، قرر أوباما اختيار غير سياسي (بعد 3 سياسيين) وزيرا للدفاع آشتون كارتر.

ليس كارتر سياسيا، بمعنى أن السياسة كانت وتظل مهنته، لكن، طبعا، عنده آراء سياسية، أراء خبير سياسي. وتتمثل هذه في بعض الكتب التي كتبها. كتب 11 كتابا. وبهذا، هو واحد من أكثر وزراء الدفاع، وربما أكثرهم، تأليفا للكتب (ولم يصر وزيرا بعد).

ولا بد أنه سيتفوق على ماكنمارا، الذي كتب 10 كتب. لكن، أغلبية كتب ماكنمارا عن تورطه، وتورط أميركا، في حرب فيتنام (1963 - 1973). طبعا، لا يريد كارتر أن يورط نفسه، ويورط أميركا، في حروب خارجية، لكن، لا يعرف إنسان المستقبل.

هذه عناوين كتب كارتر، وتوضح العناوين أفكاره العلمية (والسياسية): «دفاع بالصواريخ في الفضاء الخارجي»، و«دفاع الصواريخ الباليستية»، و«إدارة العمليات النووية»، و«السيطرة على أسلحة الاتحاد السوفياتي النووية بعد سقوطه»، و«التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا التجارية في عالم متغير»، و«مفهوم جديد للتعاون الأمني»، و«نزع الأسلحة النووية»، و«الدفاع الوقائي: مفهوم أمني جديد»، و«إدارة الدفاع الوطني في المستقبل».

لكن، نشر كارتر كل هذه الكتب قبل هجمات11 سبتمبر (أيلول) عام 2001.

ما أفكاره منذ الهجمات؟

كتب سلسلة آراء في دورية «فورين بوليسي» (السياسة الخارجية). وكان قال إنه يريد أن يطورها لينشرها كتبا. لكن، بعد المنصب الجديد، لا بد أن ينتظر.

وربما سيصدر عددا من الكتب التي لم يصدرها وزير دفاع، أو أي وزير، أو أي مسؤول كبير في تاريخ أميركا (حتى الآن، سجل «كارتر الآخر»، الرئيس السابق جيمي كارتر، الرقم القياسي؛ 23 كتابا.

قالت مجلة «تايم» عن آشتون كارتر إنه «صقر يحمل مسطرة»، أي يميل نحو التشدد في السياسة الخارجية، لكن، في حذر العلماء، ودقتهم، وعقلانيتهم.

مثلا: في رأي بـ«فورين بوليسي» عن الحرب ضد الإرهاب التي أعلنها الرئيس السابق بوش الابن بعد هجمات 11 سبتمبر، أيد كارتر الحرب تأييدا قويا. لكنه، فرق بين «الحرب ضد الناس»، و«الحرب ضد الأسلحة». وقال: «قال الرئيس بوش، وهو على حق، إننا يجب أن نقضي على الأسلحة الخطرة التي في أيدي ناس خطرين. لكن، حتى الآن، نحن استهدفنا الناس أكثر مما استهدفنا الأسلحة».

ودعا إلى القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي في أيدي أعداء أميركا. لكن، بعد غزو العراق عام 2003، وعدم العثور على هذه الأسلحة، قال كارتر: «تظل المشكلة هي استهداف الناس. لكن، عندما نستهدف الأسلحة، تظهر مشكلة أخرى، وهي عدم تأكدنا من مكان، وحجم، وخطورة هذه الأسلحة».

وفي عام 2005، عندما أعلنت وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) أن كوريا الشمالية تكدس المواد النووية، كتب كارتر: «صار مخزون كوريا الشمالية من البلوتونيوم أخطر مما كان صدام حسين يملك، وما كان يريد».

وفي عام 2009، انتقد الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة لأنهما «لا يبذلان جهودا كافية لمنع الإرهابيين من الحصول على أسلحة الدمار الشامل». وأعاد إلى الأذهان أن الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة «فشلا في تأييدنا عندما غزونا العراق».

لابد أنه يقصد غير ذلك، لأن دولا أوروبية، بقيادة بريطانيا، اشتركت في غزو العراق، ولأن الأمم المتحدة لم تؤيد الغزو رسميا، لكنها، بعد الغزو، اشتركت في الاحتلال (بدليل البعثة العملاقة في بغداد، والتي نسف عراقيون عمارتها، وقتلوا مديرها، و20 من مساعديه، لاشتراكهم في الاحتلال).

هكذا، يبدو أن كارتر كان، في ذلك الوقت على الأقل، يتأرجح بين «كارتر العالم» و«كارتر السياسي»:

أولا: أشرف على تدمير أسلحة الدمار الشامل التي كان يملكها الاتحاد السوفياتي بعد أن انهار الاتحاد السوفياتي.

ثانيا: للوصول إلى أسلحة الدمار الشامل التي كان يملكها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، أيد غزو العراق.

ثالثا: عندما تأكد أن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) كذبت حول أسلحة صدام حسين، انتقد الوكالة.

لكن، يظل كارتر يركز على «استهداف الأسلحة، لا استهداف الناس». ولهذا فهو متشدد جدا في دعم إسرائيل عسكريا (خاصة القبة الحديدية)، ومتشدد جدا في القضاء على أسلحة إيران النووية (من دون حرب ضد إيران).

غير أن التطورات الجديدة، مثل «داعش» واشتراك الولايات المتحدة وإيران في ضربها، وتردد تركيا، وقلق إسرائيل، لا شك ستعقد فلسفة الوزير عن «الأسلحة والناس».

وهكذا، يستمر مسلسل «حماس السياسيين وعنف العسكريين وفشل الجواسيس». ولا يبدو أن هناك موقعا مريحا لعالم عقلاني.

فماذا سيفعل كارتر؟