من التاريخ: تأملات أمام القصر الشتوي الروسي

TT

وقفت قرابة الساعة أمام «القصر الشتوي» (Winter Palace) في مدينة سان بطرسبورغ في مرحلة الغسق والثلوج تساقط من حوله أمام مشهد كثير الجمال، ولكن بلمحة داكنة تزداد كل لحظة بسبب ظلمات السحب الرمادية والطبيعة القاسية من حوله، واللتين مع ذلك بدأ الليل يمحوهما من الوجود ولا يقاومه إلا الألوان الجميلة التي يضاء بها هذا القصر أمام الساحة الكبيرة في منظر مقبض يكاد يكون انعكاسا لروح التراجيديا التي انتهى بها حكم أسرة «الرومانوف» (Romanov) التي حكمت روسيا منه لقرابة مائتي عام باستثناء بضعة أعوام عادت فيها العاصمة إلى موسكو. فلقد بني هذا القصر العظيم في عام 1713م، ولكن أخذ أشكالا مختلفة مع مرور الوقت، وأعيد بناؤه أكثر من 4 مرات، بل وفي أماكن مختلفة أيضا، إلى أن استقر في مكانه اليوم بين أحضان بحر البلطيق وشريان نهر «النيفا» (Neva) العريض، فوقف شاهدا على أهم حلقات التاريخ الروسي الحديث، بل إنه يقف شاهدا على تغير عجلة التاريخ الدولي أيضا، فمن هذا القصر العظيم الشامخ نافست منه روسيا القصور الأوروبية الشاهقة إلى أن أصبح اليوم يحتضن واحدا من أهم متاحف العالم، وهو «الأرميتاج»، والذي يحتوي على ما يقرب من مليوني قطعة تاريخية وأثرية، كما أنه يمثل رمزا للتطور البشري من الفراعنة إلى العصور الحديثة بلوحاته العظيمة للفنانين العالميين من روبنز إلى بيكاسو، مرورا بليوناردو دا فينشي وفان غوخ، وغيرهم من العظماء، كما أنه يعكس تطور الفن البشري من «الباروك» إلى «الروكوكو» إلى الحداثة وما بعد الحداثة بكنوزه العظيمة بقيمتها المادية والإنسانية على حد سواء.

ومع كل ذلك، فإن ذهني لم يقف عند البعد الفني لهذا القصر في هذه اللحظة من الداخل أو الخارج، بل أطلقت العنان لذاكرتي متأملا تاريخ أسرة «الرومانوف» داخله، ففي هذا القصر العظيم عاشت «كاترينا الكبرى» بكل عظمتها السياسية والفكرية، ولكن أيضا بسلوكياتها الشخصية المشينة، كما عاش فيه ألكسندر الأول، قاهر نابيلون بونابرت، والذي انتهت حياته بمثل سلوكه النفسي غير السوي، كما عاش فيه نيكولاس الأول، أحد أقوى القياصرة، وأقلهم خزيا في سلوكياته الشخصية، كما اغتيل بالقرب منه القيصر ألكسندر الثالث، إيذانا ببدء موجة العنف السياسي الواسع في روسيا، كما شهد هذا القصر أيضا نهاية حكم «الرومانوف» أثناء حكم واحد من أضعف القياصرة وهو نيكولاس الثاني بعدما اندلعت من حوله الثورة الروسية الأولى بشرارة من «مجلس الدوما» أو البرلمان في مارس (آذار) عام 1917، لتشهد سيطرة «البلاشفة» على أيدي لينين بعد أشهر قليلة فتعود العاصمة بعدها مرة أخرى إلى موسكو وتدخل الدولة الروسية في حرب أهلية طاحنة لسنوات كثيرة حتى يستقر الحكم الاشتراكي فيها.

وقد تدافعت القراءات التاريخية والأفكار إلى نفسي وعقلي خاصة وأنا أتخيل الشخصيات سالفة الذكر ولوحاتها التي لا تفارق خيالي بعد تأملها بشكل ممتد داخل المتحف، وتذكرت بعض خصائص وسلوكيات قادة هذه الأسرة الهامة في التاريخ الدولي، ولم أجد نفسي إلا متذكرا ومضات من الجوانب الشخصية والسياسية لهذه الشخصيات أضعها على النحو التالي:

كانت أولى الشخصيات التي تذكرتها على الفور هي الإمبراطورة كاترينا الكبرى والتناقض الفج بين عظمتها وقيادتها السياسية الحكيمة للدولة وسلوكياتها الشخصية المشينة، فلقد تزوجت من القيصر بطرس الثاني قبل توليه الحكم، وكانت العلاقة بينهم سيئة للغاية منذ ليلة الزفاف، وتشير الكثير من المصادر التاريخية إلى أن الأمير الشاب لم يكن قادرا على الإنجاب، وهو ما دفعها بموافقة من أسرة الأمير نفسه على إنجاب ولي العهد من أحد أبناء الأسر النبيلة، ولكن بمجرد أن تولى زوجها العرش بدأ يعمل على التخلص منها فكان يخطط لإدخالها قسرا للدير لتهب حياتها لله، وهي الطريقة المثلى للقياصرة للتخلص من زوجاتهم بسبب رفض الكنيسة إقرار الطلاق، ولكن كاترينا بالاتفاق مع عشيقها الجديد قررت التخلص من زوجها بانقلاب سلمي تم بعدها تتويجها قيصرة لروسيا لـ43 عاما متتالية رغم كونها ألمانية، وقد قامت بالتخلص من زوجها بعد ذلك بمؤامرة أدت إلى قتله وأشيع بعدها في الأوساط السياسية أنه مات متأثرا بنوبة مرض البواسير.

لقد مررت داخل القصر الشتوي بحجراته المختلفة والتي خصصتها للاحتفالات والصالونات الثقافية وأمور الدولة ولعشاقها على حد سواء، فعلى الرغم من العظمة السياسية لهذه الشخصية، والتي جعلتها تتبوأ مكانة ثاني أعظم حكام روسيا القيصرية بعد بطرس الأكبر، فإن سلوكياتها الشخصية كانت لا تتناسب ومقتضيات الحكم أو الأخلاقيات العامة، فكان سلوكها الشخصي مسار همز ولمز في الأروقة السياسية كلها، فهي لم تتزوج أبدا وأصرت على الحياة بين أحضان العشاق الواحد تلو الآخر، منهم الكونت «أوروف» والذي دبر مؤامرة قتل زوجها، ثم بعد ذلك «بوتامكن» الشهير، والذي أصبح رئيس وزرائها بأطواره الغريبة حقا، والتي جعلته يكذب عليها في شؤون الدولة، ولكنها كانت تغفر له لحبها الشديد له.

أما الشخصية الثانية فهي ألكسندر الأول، قيصر روسيا الشهير، والذي كان مثالا مختلفا للتناقض ما بين الشخصية المهتزة نفسيا وعاطفيا في مواقف كثيرة من ناحية والشخصية الثابتة خلال فترات صعبة من تاريخ روسيا من ناحية أخرى، فتشير المصادر التاريخية إلى أن الرجل كان متأرجح المزاج، خاصة بعد ثبوت ارتباطه - ولو بالعلم - بمؤامرة قتل أبيه القيصر بولس، فلقد كان على اتصال بالمتآمرين من رجال الحرس، والذين كانوا يصرون على التخلص من أبيه لكونه شخصية سيئة المعشر كثيرة الأخطاء والأعداء على حد سواء. ويقال إن القيصر الشاب عندما أبلغوه بموت أبيه اضطرب كثيرا وأصبح يمر بحالات من التأرجح العاطفي والانفعالي، ومع ذلك فهذا الشاب حكم روسيا بقوة لا يستهان بها، فلقد كتب عليه القدر أن يخرج روسيا من ظلمات الحروب النابوليوينة ومواجهة الجيش الفرنسي الكبير، وعلى الرغم من التحالف المؤقت بينهما، فإن هذا الرجل هو الذي حمل لواء المقاومة لنابليون عندما حاول احتلال روسيا، وقد اتخذ الرجل قرارات شجاعة للغاية منها تعيين كوتوزوف قائدا عاما للقوات الروسية.

ولعل أهم ما تذكرته في هذا الصدد هو الحالة المزاجية التي سيطرت على هذا الرجل، خاصة تأرجحه بين الحكم المطلق والميول الليبرالية، والتي لم تحسم في سياساته المختلفة، وقد أثرت هذه النفسية المضطربة أيضا على نهاية حياته، سواء السياسية أو الطبيعية، فتشير بعض المصادر إلى أن الرجل لم يمت بوفاة طبيعية كما حاول أن يوهم الناس من خلال جنازة مصطنعة، وقد ساهم في نشر هذا الأمر فتح مقبرته ليجدوها خاوية تماما في العهد السوفياتي. ويقال إن الرجل آثر ترك الحكم لأخيه نيكولاس الأول ليعيش حياة بسيطة بعيدا عن متاع الحياة، بل في أحد الأديرة. ويرى آخرون أنه اعتزل الحكم ليعيش مثل باقي الشعب، ولا تزال قصة موته مفتوحة للآراء المختلفة، ولكنها تظل رمزا للتأرجح تماما مثل حياته.

حقيقة الأمر أنه لا أحد يمكن أن يتجول داخل «القصر الشتوي» ويتأمله إلا ويتذكر آخر قياصرة الرومانوف نيكولاس الثاني، والذي كان مثالا للوجود خارج العصر والمنطق ممزوج بضيق الأفق، وهو ما جعله يدفع ثمن ذلك بحياته هو وأسرته، فلقد كان واقعا تحت تأثير زوجته الألمانية التي كانت معزولة تماما عن الشعب الروسي، وشاء ضيق أفقه أن يخولها سلطات الحكم في البلاد وهو يقود الجيوش الروسية لمحاربة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وهو بغير خبرة عسكرية أيضا! غير مدرك أن نيران الثورة كانت على الأبواب وأن سياساته الفاشلة وافتقاده البصيرة السياسية سيفتح الباب على مصراعيه أمام الضغوط الداخلية لتفجر الثورة.

ومن خارج القصر الشتوي لا يمكن لأحد أن يفوت عليه تخيل ميليشيات البلاشفة اليساريين أمام الساحة يفتحون النيران على القصر من كل الاتجاهات، بل إن إحدى البوارج البحرية كانت تساعد على ذلك من البحر، فلقد قررت هذه المجموعة الصغيرة بقيادة لينين أن الوقت قد حان للتخلص من الحكومة الثورية المؤقتة التي قادها ألكسندر كيرنسكي وزملاؤه في البرلمان الروسي ضد القيصر وفرضوا عليه التنازل عن الحكم، وخارج هذا القصر سقطت هذه الحكومة المؤقتة وتولى «السوفيات» على مستوى المدن الكبرى في روسيا أول خيوط الحكم في البلاد في نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، وقد تم إلقاء القبض على الأسرة المالكة باستثناء قلة منهم، ولم يدرِ بخَلَد أحد أن أسرة «الرومانوف» كانت في طريقها إلى الزوال، فلقد تم إلقاء القبض عليهم، وتم ترحيلهم إلى عدة مواقع حتى استقروا في مدينة إيكاترينبورغ الروسية، حيث تقرر التخلص منهم حتى لا يمثلوا تهديدا للثورة الروسية، وفي يوليو (تموز) 1918 تم إنزالهم جميعا إلى قبو المنزل، حيث تم إبلاغهم بقرار المحكمة بإعدامهم، وتم قتلهم بالرصاص فيما يشبه المذبحة بلا أي رحمة أو هوادة، ليضعوا بذلك نهاية أسرة «الرومانوف»، فلم ينجُ من هذه المذبحة إلا بعض أفرادها في مأساة إنسانية حقيقية.

وبنظرة أخيرة على «القصر الشتوي» قبيل المغادرة لم أخرج إلا وأنا أتأمل كيف سيطرت أسرة بهذا الحجم بفضل عبقرية مؤسس المدينة بطرس الأكبر على مقاليد أكبر دولة في العالم لتنتهي بمقتل الأسرة الحاكمة مقتولين على أيدي عصابات «السوفيات» من «البلاشفة» في مكان ناءٍ بعيدا عن الأنظار، ولكن التاريخ يورد فصولا من هذه، والتي حدثت لغيرهم من الأسر مثل «البوربون» في فرنسا، والأموية في الشام، وغيرهما.