سيد قرطاج الجديد

الباجي قائد السبسي يعيد تونس لحظيرة بورقيبة

TT

أكدت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية استطلاعات الرأي التي رجحت منذ مدة فوز السياسي المخضرم الباجي قائد السبسي برئاسة الجمهورية على منافسيه الـ26 ثم على الرئيس المؤقت والمعارض السابق لحكم زين العابدين بن علي المنصف المرزوقي. فمن هو «السيد الجديد» لقصر قرطاج؟

لماذا اختار غالبية الناخبين التونسيين زعيما يعيدهم إلى حضن زعيمهم الأسبق الحبيب بورقيبة بعد أكثر من ربع قرن من إزاحته عن الحكم من قبل رئيس حكومته زين العابدين بن علي، في أجواء رحبت فيها كل الأطراف السياسية وقتها بالتغيير وبإحالة «الأب الكبير» إلى التقاعد السياسي.

بصرف النظر عن تباين التقييمات للمسيرة السياسية للباجي قائد السبسي لا يختلف اثنان حول «الشبه الكبير» بين صورة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وصورة الرئيس الجديد لتونس في مخيال الكهول والشباب. بل إن إدارة الحملة الانتخابية لسيد قرطاج الجديد روجت صورا للزعيمين جنبا إلى جنب لتأكيد الشبه الطبيعي بينهما خاصة عندما يرتدي قائد السبسي نظارات شمسية تشبه نظارات بورقيبة. كما يعتبر غالبية الكهول والشيوخ في تونس قائد السبسي «الأقرب إلى بورقيبة» بفضل نجاحه في كاريزميته ومخاطبته التونسيين مباشرة - دون نصوص مكتوبة - وبلهجة شعبية يجمع فيها بين النكتة وتحريك المشاعر في اتجاهات مختلفة في وقت قياسي مع استحضار بعض الحكم والآيات القرآنية وأبيات الشعر.

* الخطاب.. والحجة

* لكن قوة الباجي قائد السبسي ليست مرتبطة فقط بفصاحته التي تذكر الناس بخطب بورقيبة «النارية»، بل بكونه حاول أن يملأ الفراغ السياسي الذي أحدثه انهيار رأس الدولة فجأة في تونس مطلع 14 يناير (كانون الثاني) 2011.

وقد حاول قائد السبسي البروز بمظهر رجل الدولة الذي انخرط في مسار الثورة وتبنى مطالب الشباب المهمش والمحبط بعد أن عجز خليفتا بن علي رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع ورئيس الحكومة محمد الغنوشي عن شد الشعب الهائج إليهما، وهما اللذان كانا حتى سقوط حكم بن علي في بيت الطاعة ومن أبرز مسؤولي الحزب الحاكم والدولة.

وقائد السبسي من مسؤولي الدولة في تونس منذ منتصف خمسينات القرن الماضي؛ حيث كان مستشارا لبورقيبة، ثم تولى كثيرا من المناصب، بينها وزارات: الداخلية، والدفاع، والخارجية، وأيضا في عهد بن علي؛ حيث كان رئيس البرلمان في سنتي 1990 و1991، وعضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم حتى 2003، وغاب لفترة عن واجهة الأحداث ليعود بعد هروب بن علي ويتولى رئاسة الحكومة في فبراير (شباط) 2011.

* ديمقراطي انشق عن بورقيبة وبن علي

* ولعل من بين نقاط القوة عند الباجي قائد السبسي بالنسبة لكثير من صناع القرار السياسي والاقتصادي في تونس أن مسيرته تراوحت بين «رجل الدولة» الذي تحمل مسؤوليات كبيرة في الحكم في عهدي بورقيبة وبن علي والديمقراطي المعتدل الذي انشق على بورقيبة عام 1971 مع ثلة من الوزراء الذين طالبوه بالديمقراطية بزعامة أحمد المستيري وحسيب بن عمار.

كما يحسب الديمقراطيون لقائد السبسي أنه كان من بين أوائل السياسيين الليبراليين الذين انسحبوا من الصدارة في عهد بن علي منذ توفي 1991 أي في المرحلة التي شهدت فيها تونس منعرجا أمنيا شمل مواجهات مع المعارضين الإسلاميين والحقوقيين وبينهم المنصف المرزوقي رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان.

هذا الرصيد وظفه أنصار الباجي قائد السبسي لصالح زعيمهم لإظهاره في مظهر رجل التوافق بين الموالين للزعيم بورقيبة ورموز الدولة من جهة والديمقراطيين من جهة ثانية.

وإن أطنب المؤرخون المعارضون لقائد السبسي - مثل الجامعي محمد ضيف الله - في إبراز تحمله مسؤوليات على رأس حقائب الداخلية والدفاع والخارجية في مراحل قمع بورقيبة لمعارضيه الزيتونيين واليساريين والقوميين والإسلاميين، فإن أنصاره ينفون تورطه في القمع مباشرة ويشيرون إلى أنه كان الأقرب إلى وسيلة بن عمار حرم بورقيبة التي كانت تعتبر مناصرة للانفتاح والتعددية بخلاف زوجها. كما يستدلون بعودة الباجي قائد السبسي إلى الحكومة وحزب بورقيبة ما بين 1980 و1981 بعد تعيين الليبرالي محمد مزالي رئيسا على رأس الوزارة الأولى وموافقة بورقيبة على التعددية الحزبية والانفتاح السياسي.. وكانت وسيلة وقتها تدعم بورقيبة في توجهه الانفتاحي تحت تأثير عواصم صديقة حسب شهادات بعض وزراء بورقيبة وقتها مثل الطاهر بلخوجة.

لكن قائد السبسي نشر مذكراته مع بورقيبة وحرمه وسيلة في كتاب من الحجم الكبير عام 2009 تحت عنوان «البذرة الصالحة والزؤام» نفى فيه ما سبق أن نسب إليه بكونه كان المقرب دوما إلى وسيلة وأطنب في تفسير علاقاته المباشرة بالزعيم الحبيب بورقيبة شخصيا.

وفي كل الحالات يعتبر الكاتب والإعلامي نور الدين بالطيب في هذا السياق أنه يمكن وصف الباجي قائد السبسي ببورقيبة ديمقراطي إذا سلمنا جدلا بكون العقود الأولى من حكم بورقيبة تميزت بالاستبداد إلى جانب نجاح تونس خلالها في بناء دولة حديثة خصصت ثلث موازنتها للتعليم والثقافة مثلما ورد في دراسة أعدها الباحث الجامعي والمؤرخ سعيد بحيرة عن «الهوية والدولة الوطنية في تونس».

* تلميذ بورقيبة

* ويعتبر الباحث الجامعي والمؤرخ عبد الجليل التميمي - الذي يرأس مركز دراسات جامعية أعد كتبا عن مسيرة بورقيبة الإنسان والسياسي وعن غالبية المقربين منه ووزرائه - أن من بين نقاط القوة عند الباجي قائد السبسي أنه كان تلميذا لبورقيبة منذ أن بلغ الـ16 من عمره.. أي منذ عام 1941 وقبل أن يسافر إلى جامعة السوربون في فرنسا ليدرس العلوم القانونية والحقوقية مثل بورقيبة وعدد من زعامات الحركة الوطنية التونسية وبينهم الأمين العام للحزب صالح بن يوسف ويعود من باريس محاميا مثلهم.

ويسجل الجامعي والقيادي في حزب نداء تونس المنصف عاشور - وهو من رموز اليسار التونسي سابقا - أن انتخاب قائد السبسي أعاد التونسيين إلى حضن الزعيم بورقيبة لن «سي الباجي» انتمى منذ عام 1941 إلى حركة التحرر الوطني مثل شباب جيله وتحديدا إلى «الحزب الحر الدستوري» الذي تزعم نضالات التونسيين ضد الاحتلال الأجنبي.

* البذرة الصالحة والزؤام

* لكن بعض معارضي قائد السبسي وخصومه - مثل المحامي والحقوقي العياشي الهمامي والمحامية سامية عبو - يعتبرون أن «رصيد قائد السبسي مع بورقيبة وبن علي ورقة تستخدم ضده وتؤكد تورطه في منظومة الاستبداد والفساد». ويعتبر هؤلاء أن إشراف قائد السبسي على الإدارة العامة للأمن الوطني ثم على وزارتي الداخلية والحكومة أثناء قمع بورقيبة معارضيه «ورقة إدانة ضد السبسي لأنه ينبغي التمييز بين بورقيبة الزعيم الوطني ضد المحتل وصاحب المواقف التقدمية في مجال تحرير المرأة وبورقيبة الديكتاتور».

إلا أن قياديين في حزب نداء تونس - مثل الكاتب والمفكر خالد شوكات - يعترضون على الإساءة إلى زعيمهم حاضرا وماضيا بما في ذلك فيما يتعلق بمواقفه من التعددية والديمقراطية في عهد بورقيبة ويستدلون بكونه من بين مؤسسي أولى صحف المعارضة في السبعينات مثل « الرأي» و«الديمقراطية» وكان ضمن الفريق الذي أسس نواة أول حزب معارض لبورقيبة - حزب الديمقراطيين الاشتراكيين - رغم انسحابه المبكر منه بسبب خلافات مع بعض رفاقه المؤسسين.

* العلاقات الخارجية

* في سياق متصل يعتبر الباجي قائد السبسي أن أبرز نجاحاته كانت مسيرته الدبلوماسية، لا سيما عندما تولى حقيبة الخارجية ما بين 1980 و1986 وترأس تحركات الدبلوماسية التونسية في مجلس الأمن الدولي في أكتوبر (تشرين الأول) 1985 بعد الغارة الإسرائيلية على مقر القيادة الفلسطينية بتونس. وقد اعتبر امتناع واشنطن وقتها عن استخدام حق النقض « انتصارا للدبلوماسية التونسية وللباجي قائد السبسي شخصيا»، خصوصا أن بورقيبة هدد وقتها بإغلاق السفارة الأميركية بتونس في صورة استخدام الإدارة الأميركية حق النقض.

وحاليا تعلق قيادات سياسية وشخصيات مستقلة كثيرة آمالا واسعة على شبكة العلاقات الدولية لقائد السبسي خلال رئاسته للحكومة الانتقالية من مارس (آذار) إلى ديسمبر (كانون الأول) 2011.

وكان قائد السبسي خلال تلك المرحلة شارك بصفة مراقب في قمة الدول العظمى في فرنسا والتقى بالمناسبة الرئيس الأميركي أوباما وكبار قادة العالم ودافع عن مقولة «تطابق الإسلام والفكر العربي مع التعددية والديمقراطية»، وعن «توظيف الدبلوماسية الاقتصادية في خدمة مصالح دول الجنوب وبينها تونس».

ولئن توترت علاقات تونس بالجزائر والقاهرة وبعض العواصم العربية نسبيا خلال حكم الترويكا فإن الرهان الأكبر اليوم بالنسبة لتونس في عهد قائد السبسي والحكومة الجديدة إصلاح الأخطاء القديمة وتفعيل الشراكة العربية العربية، على حد تعبير محمود بن رمضان القيادي في حزب نداء تونس، الذي أعلن أن الرئيس الجديد يراهن على توظيف الدبلوماسية التونسية في ترفيع الشراكة والاقتصادية مع الدول الخليجية والأوروبية دعما للاقتصاد التونسي الذي يواجه صعوبات حقيقية.

* الخوف من عودة الاستبداد

* في الأثناء تبدو تونس مقسمة في تقييمها بين مرحبين بعودة البلاد إلى حضن «الزعيم بورقيبة» عن طريق «الأب الكبير قائد السبسي» - مثلما أورد الإعلامي والكاتب صالح الحاجة - ومتخوفين من عودة رموز الفساد والاستبداد من مسؤولي النظام السابق الذين انخرط أغلبهم في حزب نداء تونس «ردا على تغول الإسلاميين وحلفائهم من اليساريين الراديكاليين».

لكن زعامات تيارات إسلامية كثيرة وبينها قيادات في حزب حركة النهضة - مثل رئيسه راشد الغنوشي - تعارض منذ مدة التخوفات من عودة الاستبداد مع قائد السبسي. وقد أدلى الغنوشي قبل الاقتراع العام وبعده بتصريحات مساندة سياسيا لقائد السبسي حاولت طمأنة التونسيين باستحالة العودة إلى الاستبداد في بلد مثل تونس انتخب برلمانا تعدديا وصادق على دستور توافقي وانتخب شخصية ديمقراطية توافقية مثل قائد السبسي على رأس الدولة. في هذا المناخ العام من التفاؤل يتطلع غالبية التونسيين إلى أن ينجح قائد السبسي في تحقيق وعوده ووعود حزبه الانتخابية وبينها تشكيل حكومة لا تقصي أي طرف سياسي ومعالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة في البلاد منذ أعوام.