خطط إنتاج السيارة العاملة بالهيدروجين تتراجع إلى المرتبة الثانية

رغم قناعة الشركات بأنه وقود المستقبل النظيف كليا

نموذج لسيارة «هوندا» تعمل بالهيدروجين
TT

يعرف الجميع أن الهيدروجين غاز لا طعم له ولا لون ولا رائحة. إنه مادة خفية لا تظهر للعين. واللافت أن ذكره أيضا يكاد أن يختفي في الآونة الأخيرة عن مداولات الباحثين ومناقشاتهم وندواتهم المتعلقة بـ«السيارات الخضراء» الصديقة للبيئة، على الرغم من أن الهيدروجين لا يلوث الجو ولا يسممه، وبالتالي لا يسبب ظاهرة الانحباس الحراري التي أصبحت مشكلة العصر الكبرى. وفيما يتحدث الجميع اليوم، من الشركات الصانعة للسيارات إلى الأفراد العاديين، مرورا بالهيئات الحكومية والمعنيين بالسيارات الكهربائية والهجينة، وتلك التي تعمل بأنواع جديدة من الوقود الأحيائي والديزل النظيف، عن متطلبات مراعاة البيئة، يتناسون الهيدروجين الذي كان يعتبر، ولا يزال، أفضل بديل للوقود الكاربوني الأحفوري.

وبالفعل يبدو أن الشركات الكبرى المنتجة للسيارات، ومعاهد الأبحاث، بدأت تقلص مشروعاتها وخططها الكبرى السابقة لتطوير سيارات تسير بوقود الهيدروجين، الذي يتميز بنظافته المطلقة بنسبة مائة في المائة، والذي يعتبر معينا لا ينضب من الطاقة المتوفرة على هذا الكوكب. «بي إم دبليو» كانت أولى الشركات التي أعلنت، في الشهر الماضي، أنها توقفت عن تطوير وتسويق سيارات تسير على الهيدروجين من «مجموعتها السابعة» التي هي أفخر طرزها. وكانت هذه الشركة الألمانية العريقة قد شنت حملة كبيرة، قبل عشر سنوات تقريبا، لتعريف العالم بالطرز النموذجية الأولية للمركبات الهيدروجينية، وأرسلت لهذه الغاية قافلة منها في جولة حول العالم مصحوبة بالمهندسين والفنيين للتعريف عليها. وكانت من بين الدول التي زارتها القافلة إمارة دبي العربية؛ حيث تسنى لـ«الشرق الأوسط» آنذاك فرصة تجربتها وقيادتها أيضا. لكن حتى في «مؤتمر المناخ العالمي»، الذي عقد في كوبنهاغن بنهاية العام الماضي، لم تصدر كلمة واحدة تشير إلى استعمال هذا الغاز في صناعة الجيل الجديد من السيارات، على الرغم من كونه أكثر مادة متوفرة في كوكبنا، مما دفع بعض الوفود إلى التساؤل عن سبب هذا التجاهل الذي لا مبرر له. وكان من المقرر أن تبدأ في لندن، في نهاية العام الحالي، تجارب تجريها مصلحة النقل العام لعشر حافلات ركاب كبيرة تسير بغاز الهيدروجين، ولكن عددها تناقص فجأة إلى خمس حافلات. ورافق ذلك إغلاق محطة الوقود الوحيدة في بريطانيا التابعة لـ«بريتش بتروليوم»، التي تؤمن مثل هذا الغاز للمركبات المتجولة على الطرقات العامة، وتقع في مقاطعة «إسيكس». وبذلك تبخرت آمال الذين كانوا يطمحون إلى فتح ما يسمى «طرق الهيدروجين السريعة»، التي كانت تؤسس لإطلاق ثورة جديدة في عالم النقل والمواصلات. وعلى الرغم من أنه جرى تشييد عدة محطات وقود هيدروجيني كمبادرة فردية خاصة، واحدة منها لتموين 150 سيارة مخصصة لنقل المشتركين في الألعاب الأولمبية في لندن عام 2012، فباستثناء ذلك أصبحت فكرة الهيدروجين من الأمور المنسية حاليا. على صعيد آخر، فمن أصل الهبة الحكومية البريطانية التي بلغت 25 مليون جنيه استرليني، المخصصة للأبحاث لتحويل بريطانيا إلى دولة خضراء، والتي رافق إطلاقها، في الصيف الماضي، الكثير من الدعايات والإعلانات، والتي تقاسمتها ثماني اتحادات (كونسورتيوم) من الشركات ومؤسسات الأبحاث، واحدة منها فقط انصرفت كليا إلى الأبحاث الهيدروجينية، فيما ركزت السبع الباقية على الكهرباء. رغم كل هذه الإحباطات ظل الأمل المعقود على الهيدروجين حيا وحاضرا، نتيجة اقتناع العلماء والباحثين أن البديل الوحيد لوقود اليوم هو الهيدروجين والكهرباء ولا شيء آخر سواهما. ويكفي ألا تصدر المركبة التي تسير على هذا الغاز السحري، أو خلية الوقود العاملة به، أي ضجة، وحتى أي عادم ضار بالبيئة، بل ماء نقيا تماما بنسبة مائة في المائة.

إذن ما الذي حصل؟ وما سبب هذا التجاهل الغريب لمادة سحرت الباحثين منذ أمد طويل؟ يبدو أن بعض الأسباب تعود إلى الكلفة العالية لإنتاجه، فإنتاج هذا الغاز على مستوى تجاري يكلف، على الأقل، ضعفي إنتاج الوقود العادي. وقد يصل ثمن الكيلوغرام الواحد منه إلى 6.50 جنيه استرليني، وهي كمية قادرة على تسيير السيارة مسافة قصيرة جدا مقارنة بالكلفة ذاتها في حال استخدام الوقود العادي. وإذا أخذنا بريطانيا كمثال للدول الأخرى، نرى أن هناك نحو 35 مليون مركبة تسير على طرقاتها اليوم. وهذا الواقع يتطلب وجود شبكة من محطات الطاقة الجديدة لتوليد ما يكفي من التيار الكهربائي لإنتاج غاز الهيدروجين. ويتوجب أن تكون محطات الطاقة هذه نووية لتفادي التلويث الكاربوني للجو، وإلا وقعت بريطانيا في المشكلة ذاتها التي تود أن تتجنبها. إضافة إلى كل ذلك فإن بريطانيا ستكون بحاجة إلى شبكة أخرى من محطات تخزين الهيدروجين وتوزيعه، ويبدو أنه لا الحكومة البريطانية، ولا القطاع الصناعي الخاص، مستعدان لتحمل مثل هذه التكاليف. أما الأمر الآخر الذي يعوق تطوير الوقود الهيدروجيني حاليا فهو عامل السلامة، فعلى الرغم من أن الاختبارات التي أجرتها سلطات النقل الألمانية أظهرت أن الهيدروجين أكثر أمانا من الوقود العادي في حالات وقوع حوادث اصطدام - على الرغم من قابليته السريعة للالتهاب - فقد تبين أنه يمكن تعزيز هذه السلامة بواسطة خزانات متينة لهذا الغاز بحيث تكون غير قابلة للانفجار. في أي حال، فإن حلم تصنيع سيارة تسير على هذا الغاز، وتحوله إلى وقود المستقبل، لم يمت وما زال يداعب مخيلة العلماء والباحثين، على الرغم من الاتجاه العام نحو السيارات الكهربائية. والدليل على ذلك اكتشاف شركات صغيرة قليلة العدد ما تزال تتابع هذا الأمر بجدية بالغة، رغم افتقارها إلى الدعم اللازم ماديا ومعنويا. وهي مقتنعة أن المستقبل لهذا الوقود، لا على صعيد السيارات فحسب، بل على صعيد تشغيل المرافق الأخرى الصناعية والمنزلية وغيرها أيضا.

من هذه الشركات واحدة صغيرة تدعى «آي تي إم باور» مقرها مدينة شيفيلد في بريطانيا. ويعمل موظفوها البالغ عددهم 55 شخصا، منذ العام 2004، على تذليل أكبر عقبة يواجهها الوقود الهيدروجيني، أي وجود شبكة عامة من محطات الوقود الخاص في جميع أنحاء بريطانيا. والمشكلة، على هذا الصعيد، تعود إلى أن هذه المحطات تتطلب بنية أساسية مختلفة عن بنية الوقود العادي، بحيث يمكن للسائق أن يعبئ سيارته بوقود الهيدروجين، تماما مثلما يفعل حاليا بالنسبة إلى البنزين ووقود الديزل. ولكن إذا أمكن إنتاج الهيدروجين في نقاط استخدامه، أمكن عند ذاك الاستغناء عن هذه البنية الأساسية الجديدة، والخزانات الكبيرة لتخزينه وحفظه على شكل غاز مضغوط جدا بدرجة حرارة منخفضة، وبالتالي شحنه ونقله إلى محطات التوزيع. فبدلا من الحاجة إلى مئات الأميال لنقله عبر البلاد، يصمم مهندسو «آي تي إم باور» وحدات صغيرة مكتفية ذاتيا لتحليل المياه كهربائيا واستخراج الهيدروجين منها، وكذلك الأوكسجين للأغراض الأخرى، وذلك في نقاط وأماكن بيعه وتعبئته في السيارات. أي بعبارة أخرى في محطات الوقود. الأمر المهم الثاني، أن معظم السيارات العادية يمكن تحويلها بسهولة لكي تعمل بالهيدروجين، بعد إضافة خزان خصوصي للسيارة لتخزين الهيدروجين المضغوط. وإذا ما نجحت هذه الخطط على المدى الطويل، فقد تنخفض الكلفة ومعها أسعار الوقود الجديد. ويفكر مصممو هذه الشركة في إقامة وحدات لإنتاج الهيدروجين في المنازل والمرائب، بحيث يقوم المستهلك بذاته بتصنيع الوقود الذي يحتاجه لسيارته، وهو لا يحتاج إلى أكثر من الماء والكهرباء والمعدات اللازمة لإنتاج الهيدروجين. ويقول الخبراء، إن تعبئة وحدة كاملة من الهيدروجين لسيارة عادية، تمكنها من قطع 300 ميل بسهولة، قبل الحاجة إلى إعادة تعبئتها ثانية. وهذا الأمر يدركه صانعو السيارات، ولكنهم مع ذلك يتجهون كليا إلى الكهرباء، معتقدين أنه يصلح كحل مؤقت قبل اعتماد الهيدروجين بشكل دائم ونهائي. وقد يجري مستقبلا اعتماد السيارات الكهربائية أيضا إلى جانب الهيدروجينية، وحالما يتم التوصل إلى حل مشكلة البطارية وتحسين قدرتها على تسيير السيارة مسافة أطول في الشحنة الواحدة يتم أيضا حل مشكلة شحن البطارية في زمن قصير لا يتعدى الدقائق القليلة.

تبقى هناك مشكلة أخرى ثانوية بالنسبة إلى السيارة الهيدروجينية، وهي خزان الوقود الكبير جدا الذي يحتل غالبية مساحة صندوق الأمتعة الخلفي، إضافة إلى أن التقنيتين الهيدروجينية والكهربائية لا تزالان بعيدتين عن الواقع العملي، ولا بد من انقضاء سنوات، قد لا تكون بالقصيرة، قبل أن تنضجا وتتبلورا تماما، لتصبحا شيئا عاديا ميسورا كتقنيات السيارات الحالية.