«فورد» تنافس شركات السيارات الأخرى بعدد تقنييها العرب ومواقعهم

حصيلة قرن من المساهمة العربية في الشركة الأميركية

سيارة «موستناغ شيلبي» قدمتها الشركة للتجربة على المضمار أثناء الزيارة («الشرق الأوسط»)
TT

كانت دعوة شركة «فورد» الأميركية، قبل أسابيع قليلة، لمجموعة مختارة من الإعلاميين لزيارة مكاتبها ومصانعها في ديربورن، فرصة مناسبة للتعرف على عدد من الوجوه العربية التي تتبوأ مواقع رئيسية في الشركة ومحاورتهم.

وكانت مفاجأة الإعلاميين العرب السارة اكتشافهم أن من بين التقنيين العرب العاملين في شركة «فورد» خبراء في السلامة، وفي نظم إدارة المحركات، وفي مجالات التصميم والتسويق والأبحاث. وكان العامل المشترك بين كل التقنيين العرب المساهمين في نهضة «فورد» الحديثة هو شعورهم الجماعي بالانتماء إلى الشركة، فهم يعملون على مستويات تقنية عالية ينافسون فيها، كل في مجال اختصاصه، خبراء الشركات الأخرى.

من أبرز الوجوه العربية التي التقت بالإعلام العربي في مقر الشركة في ديربورن، الدكتور سعيد بارباط، خبير السلامة في الشركة، الذي يعمل في مجال تطوير وسائل الأمان في السيارات. وقد أسهم الدكتور بارباط، العراقي الجنسية، في ابتكار العديد من الاختراعات الخاصة بالسلامة في الشركة والتي حصلت لها شركة «فورد» على براءات اختراع. وقد أتاحت الشركة بعضها مجانا للتعميم على صناعة السيارات بالنظر لأهميتها في تعزيز سلامة السيارات بوجه عام.

وكان الدكتور بارباط قد تخرج في جامعة بغداد عام 1976، ثم حصل على ماجستير في الهندسة الميكانيكية من جامعة مانشستر في بريطانيا عام 1980، ومن بعدها توجه إلى الولايات المتحدة حيث حصل هناك على الدكتوراه والتحق بشركة «فورد».

وحصل الدكتور بارباط على منصبه الحالي في عام 2011 بعد خبرة 29 عاما في صناعتي السيارات والطائرات. لكن خبرته مع شركة «فورد» تمتد إلى 20 عاما، قضاها في مجال أبحاث السلامة وحماية ركاب السيارات وسائقيها. وحتى قبل تسلمه منصبه الحالي كان الدكتور بارباط يدير جهازا يضم نحو 100 مهندس يتبعون الشركة في جميع أنحاء العالم.

ويقول الدكتور بارباط إن هناك العديد من العرب من الجيلين الثاني والثالث الذين عمل آباؤهم وأجدادهم في شركة «فورد». كما لاحظ إقبالا من الفتيات العرب أيضا على الانتساب إلى برامج التدريب التي توفرها المؤسسات الأميركية، وقال إنه في بعض الدورات يتفوق عدد الفتيات على عدد الشباب من الذكور.

ومن التقنيين العرب أيضا في شركة «فورد» الدكتور عماد مكي، وهو لبناني الجنسية ويعمل في حقل أبحاث نظم إدارة المحركات في قسم الهندسة المتقدمة في الشركة. وقد انضم الدكتور مكي إلى الشركة عام 1994 كمهندس اختبارات في قسم انبعاثات الكربون. وأسهم بعد في ذلك في تأسيس أحدث وحدة صناعية لاختبارات المحركات. وقد استحق مكي وفريقه جائزة هنري فورد للتكنولوجيا، وهي أعلى جائزة تقدمها الشركة لتكريم الإنجازات التقنية. وعمل الدكتور مكي لفترة في الدوحة، بدولة قطر، أسهم خلالها في تطوير برامج أبحاث وتطوير فنية. وهو يسهم من موقعه في شركة «فورد» في إدارة العديد من المعاهد والمدارس الفنية التي تعنى بتأهيل الجيل الجديد من مهندسي الشركة.

أما التقني العربي الثالث فكان الدكتور مازن حمود، وهو لبناني الجنسية أيضا درس في فرنسا قبل أن يسافر إلى الولايات المتحدة ليتابع دراساته العليا ويعمل فيها. ويعمل الدكتور حمود اليوم في قطاع تطوير المحركات ونظم إدارتها والتحكم بها. وتشمل منجزات الدكتور حمود تطوير نظام «ايكوبوست» الذي يجمع بين الحقن المباشر للوقود والشحن التوربيني، وهو نظام يتميز بتوفير قوة دفع للمحركات ذات الاسطوانات الست تماثل دفع المحركات الأكبر من ثماني اسطوانات، لكن بتوفير ملحوظ في معدل استهلاك الوقود.

وكان مازن حمود قد حصل على دكتوراه في الهندسة الميكانيكية من جامعة ميتشغان عام 1996 بعد نيله الماجستير في التخصص نفسه من الجامعة، ثم نال بعد ذلك عام 2000 درجة ماجستير في إدارة الأعمال ووضع العديد من المؤلفات الفنية والابتكارات التي سجلت الشركة براءات اختراع لها.

من الوجوه العربية الأخرى في شركة «فورد» بسام دلالة، الذي عاش في السودان 17 عاما قبل أن ينتقل إلى لندن ومنها إلى الولايات المتحدة للدراسة والعمل. وهو يدير الآن مشروع إنتاج سيارة «فورد إيدج» في الصين، ويؤمن التواصل مع زبائن الشركة، ويتخصص في الوقت نفسه في هندسة تطوير السيارات وايجاد الحلول للعديد من متطلبات التصميم واحتياجات الركاب.

وهناك العشرات من الخبرات العربية الأخرى التي تعمل في «فورد»، ومعظمهم يبذل جهده من وراء الستار ومن دون ظهور إعلامي أميركي أو عربي. إلا أن اللافت أن العرب لعبوا دورا بارزا في شركة «فورد» منذ أوائل القرن العشرين عندما كانت الهجرة إلى منطقة ديربورن على أشدها سعيا للعمل في الشركة في أعقاب وعد هنري فورد خلال الحرب العالمية الأولى بتوفير وظائف تضمن للعاملين في الشركة دخلا مقداره (آنذاك) خمسة دولارات عن كل يوم عمل.

وتفتخر الشركة من ناحيتها بالتنوع العرقي بين العاملين فيها، وتعتبر أن هذا التنوع هو أحد مظاهر القوة فيها. ويمثل العرب نسبة كبيرة في هذا التنوع. وينتشر العرب في كل أرجاء منطقة ديربورن بحيث باتوا يمثلون في ولاية ميتشغان أكبر جالية عربية خارج منطقة الشرق الأوسط، يصل تعدادها إلى نحو نصف مليون نسمة. ويملك العرب نحو 16 ألف شركة في ديربورن ويعملون في كل المجالات. والعديد من العرب الحاليين يذكرون أن من أبرز دوافع هجرة الأجيال السابقة فرص العمل في شركة «فورد».

وتذكر دراسة ميدانية أجرتها مؤسسة «زغبي لأبحاث السوق» (عام 1998) أن النسبة الأكبر من المهاجرين العرب تعود إلى اللبنانيين الذين يصل تعدادهم إلى 147 ألف نسمة. وهناك نحو 35 ألف فلسطيني في المنطقة، و23 ألف سوري، ونحو تسعة آلاف عراقي (علما بأن الهجرة العراقية إلى المنطقة زادت بعد حرب العراق)، وأربعة آلاف مصري، و16 ألفا من جنسيات عربية أخرى. وهناك أيضا جالية إيرانية كبيرة يصل تعدادها إلى 41 ألف نسمة. وتذكر بعض الأبحاث التاريخية أن الهجرة العربية بدأت مع بدايات القرن العشرين سعيا وراء مستويات معيشة أفضل، خصوصا مع التوسع الصناعي في أميركا وازدياد الحاجة إلى الأيدي العاملة.

ولم تكن ديترويت وحدها وجهة العديد من المهاجرين العرب، لكن العديد منهم حولوا وجهتهم إليها بعد انتشار خبر عرض «فورد» لأجر يبلغ خمسة دولارات في اليوم. واستقبل هنري فورد أعدادا كبيرة من المهاجرين العرب الذي زاد عددهم بعد دعوة الأهل والأصدقاء للعمل معهم في شركة «فورد».

وكانت موجات الهجرة الأولى مكونة من اللبنانيين والسوريين الذين سكنوا في منطقة هايلاند بارك حيث بنى فورد مصنعه الأول لإنتاج سيارات «موديل تي». وتذكر الوثائق أن الجالية العربية أنشأت أول مسجد في أميركا في المنطقة في عام 1919. وتوسعت الهجرة بعد ذلك عندما بنى هنري فورد مصنع «روج»، الذي كان حينذاك أكبر مجمع صناعي في العالم. واستقبل المصنع 90 ألف عامل منهم نسبة كبيرة من اليمن ولبنان وسوريا. واستقر هؤلاء في جنوب ديربورن بالقرب من المصنع، وهي منطقة ما زالت نسبة 90 في المائة من سكانها من العرب.

وكان هدف جيل المهاجرين الأول في «فورد» تحقيق الاستقلال المالي، ولذلك سعت نسب كبيرة منهم إلى فتح متاجر وشركات صغيرة كانت تعمل فيها النساء وأحيانا الأطفال، فيما كان الرجال يعملون في شركة فورد. وكانت معظم المنافذ التجارية موجهة لخدمة عمال «فورد» من المطاعم إلى محال بيع الأحذية والمعاطف وقفازات العمل. ولذلك كانت الجاليات العربية هي الأكثر استقلالا ماليا بين جميع الجاليات التي عملت في الشركة. وفي الوقت نفسه شعر العديد من المهاجرين الأوائل بالامتنان الشديد لهنري فورد وتوجهه نحو تعيين المهاجرين والأقليات في شركته، وقد اجتهدوا كثيرا في عملهم وقدموا كل طاقتهم في خدمة الشركة التي وفرت لهم الاستقرار والمعيشة الجيدة بوظائف مضمونة.

وينظر كثيرون إلى شركة «فورد» بإعجاب لأنها حققت معادلة تعايش أبناء الجنسيات المختلفة بسلام في مجتمع منتج مصغر في الغربة. وقد تكون شركة «فورد» المؤسسة الأميركية شبه الوحيدة التي لا يشعر العرب فيها بأي تفرقة.