المغرب: إقبال المستثمرين يخرج حي «ملاح الصويرة» من حالته الكارثية

المشروع سيحول بيوته القديمة الخربة إلى كنوز عقارية

TT

في حي الملاح، الحي اليهودي العتيق، بمدينة الصويرة المغربية تقاس السنوات العشر الأخيرة بالنسبة للسكان بملايين الدراهم. ففي منتصف التسعينات كان حيهم يعتبر كارثة اجتماعية بسبب حالة بيوته القديمة المتردية والآيلة للسقوط، وكانت السلطات تنظر إليه كعبء ثقيل يتطلب حلا مستعجلا، خصوصا بعد انهيار بعض البيوت في الجانب المطل على البحر.

أما الآن فإن البيوت الخربة لحي الملاح تباع بعشرات الآلاف من الدراهم لمستثمرين من جنسيات مختلفة، الذين يحولونها بعد ترميمها إلى إقامات ثانوية لقضاء عطلهم أو إلى منشآت سياحية ذات طابع متميز.

ويقول محمد شهبون أحد سكان الملاح «كان بعض جيراننا يعمدون إلى تخريب بيوتهم التي كانت في حالة جيدة لكي يستفيدوا من البرنامج الاستعجالي لإعادة الإسكان الذي وضعته السلطات لفائدة سكان البيوت المهددة بالإنهيار، فقد كانت السلطات تمنحهم قطع أرض صغيرة ومبلغ 10 ألف درهم (1200 دولار) كمساعدة لبناء منازل جديد. أما اليوم فقد أصبح هؤلاء الذين تعمدوا تخريب بيوتهم يعضون الأصابع ندما على ذلك».

فخلال السنوات الأخيرة حققت مدينة الصويرة نجاحا كبيرا كوجهة سياحية، خاصة بفضل مهرجاناتها الثقافية المتنوعة والإشعاع الدولي لجامعتها التي تنظمها دوريا جمعية «الصويرة موغادور»، التي تضم من بين أعضائها النشطين أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي. بالإضافة إلى ذيوع شهرة الصويرة باجتذابها لعشاق رياضة الركمجة (ركوب الأمواج) الذين أصبحوا يحجون إليها من مختلف أنحاء العالم للاستمتاع برياحها وأمواجها المتميزة.

وفي هذا السياق، جاء اهتمام المستثمرين بالبيوت القديمة في مدينة الصويرة، وتركز هذا الاهتمام في البداية على البيوت التاريخية في قصبة المدينة، المعروفة بـ«الرياض»، والتي كان يسكنها في الماضي أفراد النخبة الإدارية المسلمة وقناصل الدول الأجنبية خلال العصر الذهبي لمدينة الصويرة، عندما كانت تلعب دور العاصمة الاقتصادية للمغرب، في الفترة ما بين القرن 17 وبداية القرن 20. لكن سرعان ما اكتشف المستثمرون بأن خلف الأبواب الصغيرة الزرقاء في الأزقة الضيقة لحي الملاح، وهو الحي اليهودي العتيق للمدينة، تختفي بيوت لا تقل روعة عن «رياض» الأعيان المسلمين في وسط المدينة العتيقة. فبعض هذه البيوت يتجاوز عدد غرفها العشرين، وتضم باحاتها المفتوحة نافورات جميلة، وبها أقواس وقباب ذات طراز معماري أصيل عالي الجودة.

وإذا كانت موضة شراء «رياض» من طرف المستثمرين قد انطلقت من مراكش وامتدت إلى باقي المدن المغربية ضمنها الصويرة، فإن اكتشاف الملاح بدأ من الصويرة ليمتد إلى باقي المدن التاريخية المغربية، إذ بدأ المستثمرون يستكشفون القدرات التي تزخر بها «ملاحات» سلا ومكناس وفاس ومراكش، وبدأت أثمان بيوت الملاح ترتفع إلى مستويات تنافس «الرياض».

وخلافا للإعتقاد السائد بأن السبب في غلاء البيوت القديمة لملاح الصويرة يرجع لعودة اليهود، فإن المالكين الجدد لهذه البيوت، والذين دفعوا أسعارا باهضة للحصول عليها وصرفوا على ترميمها واستصلاحها أموالا طائلة ينتمون، لجنسيات وديانات مختلفة، فبينهم الجزائري والمغربي والفرنسي والألماني والأسترالي والأميركي والإفريقي، وبينهم المسلم والمسيحي واليهودي.

وتكتسي ظاهرة إعادة اكتشاف الملاح هذه أبعادا تاريخية، فهي تشكل نوعا من رد الاعتبار لوضعية أهل الذمة في الغرب الإسلامي، والتي طالها كثير من التشويه على يد بعض المستشرقين المغرضين خلال القرن 18 والقرن 19، والذين حاولوا إبراز الملاح في شكل معزل عنصري ضد اليهود واستغلال هذه الصورة سياسيا للضغط على المغرب لتحقيق أغراض استعمارية. فخلافا لهذه الصورة المغرضة كان الملاح، الذي يشكل تجسيدا لوضعية أهل الذمة، عبارة عن قلعة داخل القلعة، ومدينة داخل المدينة، يتمتع بحماية مضاعفة، تحيطه أسوار وأبراج خاصة به داخل مدينة هي نفسها محصنة بأسوار وأبراج خارجية، ويقع غير بعيد عن قصور السلاطين، ويؤوي النخب الاقتصادية والإدارية اليهودية.

لم يكن الملاح مجرد شكل معماري خاص باليهود داخل العواصم التاريخية للمغرب، ولكنه من خلال تجسيده لوضعية أهل الذمة كان يتمتع بالاستقلال النسبي في تسييره وإدارته وقضائه، مما يسمح لليهود بحرية ممارسة شعائرهم داخل الملاح وتنظيم حياتهم الاجتماعية وفقها.

ويعود تاريخ بناء أول ملاح بالمغرب إلى بداية القرن 13 الميلادي، مع وصول المرينيين إلى الحكم، وبناء عاصمتهم في فاس الجديد قرب فاس القديم. فقد تم آنذاك تقسيم فاس الجديد إلى 3 أحياء حول القصر الملكي، حي مسلم يضم قصور أمراء بني مرين، وحي خاص للعائلات المهاجرة من الأندلس، وحي للنخبة اليهودية وقد أطلق عليه اسم الملاح لكون الموقع الذي بني فيه كان سوقا للملح. وذلك خلافا للرواية البشعة التي روج لها الكاتب الفرنسي هنري دو لامارتينيز في بداية التغلغل الاستعماري الفرنسي في المغرب والتي تقول ان اليهود المغاربة كانوا مجبرين على العيش داخل أحياء ضيقة ووسخة محاطة بالأسوار وشبيهة بالسجون والتي يطلق عليها اسم الملاح لكون سكانها كانوا يمارسون فيها مهنة معالجة الرؤوس التي يأمر سلطان المسلمين بقطعها بالملح قبل تعليقها على أبواب المدينة. وعبر تاريخ المغرب، ارتبط بناء ملاح جديد بتشييد عاصمة جديدة. أما ملاح الصويرة فيرجع بناؤه للسلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي في نهاية القرن 16 الميلادي، والذي استقدم إليه نخبة من التجار اليهود لتنشيط مينائه التجاري، فعرف تاريخيا باسم «ملاح تجار السلطان».

وخلال القرن 17 عندما أعاد السلطان العلوي، محمد بن عبد الله (محمد الثالث) بناء مدينة الصويرة على النمط العصري بشوارعها الواسعة خلافا للمدن العتيقة بالمغرب، وبنا فيها ميناء جديدا وقاعدة عسكرية بحرية، استقدم إليها بدوره نخبة من التجار والدبلوماسيين اليهود. وتحولت الصويرة منذ ذلك الحين إلى العاصمة الاقتصادية للمغرب، واستمرت في هذا الدور حتى بداية الحماية الفرنسية التي حولت مركز ثقل الاقتصاد المغربي من الصويرة إلى الدار البيضاء.

ومع الدخول الفرنسي بدأ العصر الذهبي لليهود المغاربة في الأفول حيث عوض المعمرون الجدد النخبة اليهودية في مراكز القرار التجاري والاقتصادي. وتم استبعاد اليهود المغاربة تدريجيا والتضييق عليهم خلال فترة الحماية الفرنسية ليصل الميز ضدهم أقصى درجاته خلال حكومة فيشي الفرنسية والتي أصدرت قرارات تحد من ولوج اليهود للمهن الحرة والإدارة، مما تطلب تدخل ملك المغرب آنذاك محمد الخامس ليطالب فرنسا علنا بالتراجع عن تلك القوانين.

وبدأ رحيل اليهود المغاربة تدريجيا إلى الخارج خلال القرن الماضي، نتيجة أوضاعهم الجديدة خلال فترة الحماية الفرنسية، وارتفعت وتيرة الهجرة بشكل كبير بعد سنتي 1948 و1967. وقام العديد من يهود الصويرة ببيع منازلهم في الملاح للمسلمين.

ومع التحولات الاجتماعية للمغرب وارتفاع وتيرة الهجرة القروية تحولت بعض بيوت الملاح إلى فنادق لإيواء العمالة القادمة من القرى المجاورة. واكتظت بيوت «تجار السلطان» بالعائلات العمالية، وبدأت شيئا فشيئا تفقد تألقها وفسيفساء جدرانها وزخارفها، وبدأت جدرانها وهياكلها تتلاشى بسبب انعدام الصيانة وسوء الاستغلال. وزاد الطين بلة قربها من البحر، حتى تحولت إلى كارثة اجتماعية، تطلب إعادة إسكان جزء مهم من قاطنيها وهدم عدد من أزقتها، قبل أن يعاد اكتشاف الملاح من طرف المستثمرين الذين حولوا بيوته الخربة في أيدي ساكنيها إلى كنوز دفينة.