مشاريع الخليج العقارية تتضاعف 4 مرات وتصل قيمتها الى 535 مليار دولار

خُمس رافعات البناء في العالم تتمركز على ساحل الخليج

TT

إن خُمس رافعات البناء العالية (الكرينات) في العالم تتمركز حاليا في بقعة صغيرة جداً على خريطة الكرة الأرضية يبلغ طولها 48 كيلومتراً تمتد على ساحل الخليج العربي بين مدينتي دبي وأبوظبي. وتعمل هذه الرافعات بنشاط متواصل طوال النهار لمدة 12 ساعة، ثم يأتي جيش آخر من العمال والمهندسين ليحل محل الفريق المنسحب، وتضاء الإنارة القوية لكي تبدأ الرافعات ذاتها عملها الليلي حتى شروق الشمس... وهكذا دواليك.

هذه هي الطريقة التي وصفت بها صحيفة التلغراف البريطانية الطفرة العقارية التي تشهدها إمارتا دبي وأبو ظبي وبعض مدن الخليج الأخرى. ومع هذه الدرجة من النشاط وتراكم آليات البناء الضخمة يقول المراقبون إن بناء عمارة طويلة مكوّنة من 50 طابقاً يستغرق 9 أشهر فقط، وبمجرد انتهائها تُباع شققها في لحظات. أما المشترون فهم إما من دول الخليج المجاورة التي يتمتع مواطنوها حاليا بأرباح قياسية للنفط، أو مستثمرون أوروبيون يرغبون في استثمار أموالهم بعيداً عن تحصيل الضرائب في بلدانهم، أو في الآونة الأخيرة أثرياء الإيرانيين الذين يحاولون تأمين ملجأ لهم تحوطاً لفرض حصار دولي على بلادهم أو حتى توجيه ضربة عسكرية إليها.

وتشكل العمالة الآسيوية (الهند وباكستان) غالبية الأيدي العاملة في مواقع البناء في دبي وأبو ظبي، بما في ذلك «برج دبي» الذي سيرتفع في السماء الى أكثر من 800 متر، اي أعلى بثلاث مرات من برج «كناري وورف» الشهير في العاصمة البريطانية لندن. ومن على البرج، الذي اكتمل نصف بنائه، تستطيع رؤية ناطحات السحاب في منظر يشبه منهاتن في مدينة نيويورك، ثم يمتد البصر لترى عمليات التشييد النشطة في مطار «جبل علي» الذي سيصبح «محور المحاور» في المنطقة. ويشتمل المطار على 6 مدرجات لهبوط واقلاع الطائرات و8 صالات ركاب ضخمة، وهو يتسع لـ 146 مليون مسافر في العام ـ أي ما يعادل مجموع المسافرين في مطارات «هيثرو» الانجليزي وباريس وفراكفورت، مع ملاحظة أن «هيثرو» هو أكثر مطارات العام ازدحاماً. هذا بالاضافة الى مطار دبي الحالي الذي تتم توسعته أيضا لكي يستوعب 60 مليون مسافر في العام بحلول عام 2012.

ومن جانبه قال أدموند أوسولفن، رئيس تحرير مجلة «ميد» المتخصصة في الشؤون الاقتصادية العربية، «إنني استطيع أن أرى ـ عبر النظر من نافذة غرفتي في دبي ـ الى مشاريع معمارية بقيمة 200 مليار دولار. واذا ذهبت الى السعودية أو الكويت أو قطر فستجد أنهم جميعاً يحاكون ما يحدث في دبي. ومع بلوغ اسعار النفط الخام 70 دولاراً للبرميل فإن التوقعات أن هذه الطفرة العمرانية ستتواصل لمدة خمس سنوات قادمة. أما ما سيحدث فيما بعد... فهذا سؤال كبير».

وكانت أسعار النفط في السبعينات قد ارتفعت أيضا وحققت أرباحا ضخمة للمنتجين. لكن غالبية هذه الأرباح ضاعت في شراء الرفاهيات في الدول الغربية، حيث كانت تحفظ في بنوك أوروبا والولايات المتحدة. أما هذه المرة فقد تعلمت دول الخليج أن عليها أن تستثمر أموالها محلياً في مشاريع البنية التحتية، وهذا بالضبط ما تفعله الآن غالبية دول الخليج. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تحقق دول البترول هذا العام فائضا في حسابها الجاري يقدر بنحو 480 مليار دولار، اي ثلاثة أضعاف ما تحققه الصين. ورغم أن جزءا كبيرا من هذه الثروة استُثمر في السندات الأميركية أو في شراء حصص من شركات غربية عملاقة، الا أن الجزء الأكبر من هذه الثروة استثمر في سوق العقارات الخليجية التي تشهد سيلا متواصلا من ناطحات السحاب الحديثة. فدبي مثلا انفقت أخيرا مبالغ كبيرة في شراء شركات غربية مثل «بي أند أوه» الملاحية البريطانية وكذلك «مدام توسود» وحصة كبيرة في شركة السيارات «ديملر كرايزلار». الا أنها في الوقت نفسه تغطي ساحل الخليج العربي بالبنايات التي تناطح السحاب.

* مدينة الملك عبد الله الاقتصادية

* وليس بعيدا عن دبي، فقد كشفت السعودية ايضا عن مشروع عمراني عملاق «مدينة الملك عبد الله الاقتصادية» والتي يُقدر أن تكلف 27 مليار دولار، وهي المدينة التي قد تصل الى حجم باريس وتتضمن ميناء على البحر الأحمر بحجم ميناء روتردام وتتضمن أيضا حياً مالياً بمساحة ميل مربع تقوم عليه أبراج عالية وحديثة لتصبح مقرا للمصارف والمؤسسات المالية. كما أن أبو ظبي أيضا ستنفق نحو 28 مليار دولار في بناء جزيرة السعديات التي ستتضمن 29 فندقا فاخراً بما فيها فندق سبعة نجوم، وستحتضن المدينة ايضا حياً ماليا كبيرا، وستتسع لنحو 150 ألف ساكن. أما الكويت فيبدو أنها عازمة على تخطي الآخرين، إذ إنها تخطط لمدينة الحرير «سيلك سيتي» التي تتسع لسبعمائة ألف شخص وستكلف 150مليار دولار وتتضمن برجاً بارتفاع 1000 متر (ضعف أعلى برج موجود حاليا في الخليج وأعلى من برج دبي بمائتي متر) وسيصممه المعماري البريطاني أريك كوني الذي صمم مبنى «بلو واتر» في مقاطعة «كنت» في جنوب أنجلترا. أما دولة قطر فهي بدورها تخطط لانشاء مدينة صناعية بقيمة 130 مليار دولار قرب الدوحة لتنافس بها منطقة جبل علي في دبي.

وحسب تحقيق أجرته مجلة «ميد» فإن دول الخليج تشهد حاليا مشاريع ـ غالبيتها عقارية ـ بقيمة 1000 مليار دولار، أي 4 أضعاف ما كانت عليه قبل عام ونصف العام فقط. وبينما ستنفق هذه الدول 316 مليار دولار على مشاريع تطوير النفط والغاز والبتروكيماويات، فهي ستنفق أكثر من ذلك بكثير حوالي 535 مليار دولار ـ على مشاريع عقارية ومعمارية. غير ان بعض الاقتصاديين عبر عن خشيته من أن تتعدى هذه المشاريع العمرانية عدد السكان في الخليج حيث يصل تعدادهم الكلي في الدول الست (مواطنون ومقيمون) الى 36 مليون نسمة فقط، اي نحو نصف سكان بريطانيا. وقال هؤلاء إن هناك خطراً من ألا تجد هذه المساكن والمكاتب من يشغلها، وفي الوقت نفسه تقل ايرادات النفط وترتفع اسعار الفائدة الدولية مما سيجعل هذه الاستثمارات العقارية الضخمة استثماراً خاسراً ومكلفاً. وأضافوا أن المناخ الاستثماري العالمي خلال السنوات الثلاث الماضية كان مساعداً للطفرة العقارية في الخليج، وبدرجة أقل في بعض الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لأن البنك المركزي الأميركي والبنوك المركزية الأوروبية أبقت أسعار الفائدة منخفضة (قريبة جدا من معدل التضخم) الأمر الذي وفر سيولة لدى البنوك التجارية والمستثمرين لاستغلالها في العقارات. لكنهم حذروا من أن هذا الوضع قد يتغير في المستقبل، بينما تتطلب المشاريع العقارية الضخمة التي تقام حاليا في الخليج وقتاً أطول لكي تكتمل. لذا فإن بلدا مثل دبي سعى بشدة الى التخلص من الاعتماد على النفط الذي اصبح الآن يمثل 7% فقط من إجمالي الدخل المحلي. فدبي البلد الوحيد في الخليج الذي يسمح بتملك الأجانب للعقارات، كما أنها حوّلت نفسها الى مدينة تجارية وإعلامية وسياحية فضلا عن مركز مالي ومصرفي يسعى الآن الى إدارة ثروة الخليج الضخمة من مليارات «البترو ـ دولارات». ولكي تدعم دبي مشاريعها العمرانية الهائلة وتجذب الزبائن والسكان إليها فهي قد خصصت 20 مليار دولار لمدينة الملاهي «ديزني الصحراء» التي ستتضمن قصراً على هيئة «تاج محل» الشهير في الهند وبنفس حجم القصر الحقيقي، فضلا عن أكبر مركز للتسّوق في العالم.

ويقول مايك ديريت، المستشار في مركز التجارة العالمي في دبي، إنه خلال التسعة عشر عاما التي عاشها في دبي وعمل فيها هناك لم ير مشروعاً واحداً كبيراً يفشل. لذا فهو يستبعد المخاوف من تغيّر الوضع الاقتصادي وتوقف الطفرة العقارية في المستقبل القريب، بل يرى أن ثروة البلاد الفائضة هي التي ستواصل تمويل النمو العمراني السريع. ويضيف ديريت أن دبي مدينة عربية بالاسم فقط لأنها في الواقع متعددة الجنسيات والثقافات، إذ يأتي 85% من سكانها (البالغ عددهم 1.2مليون نسمة) من مختلف أنحاء العالم.