عصر الأبراج يواجه مأزقا .. والأثرياء يبحثون عن مسكن الطابق الواحد

شقة واحدة في الطابق: المفتاح السحري لتسويق المساكن في مصر

TT

لم يعرف المصريون حتى نهاية السبعينيات إلا برج القاهرة، وأبراج الحمام، ولكن مع تفاقم مشكلة السكن في القاهرة، بدأ البناء الرأسي متعدد الطوابق يتزايد بشكل ملحوظ، وشرع الناس يطلقون تعبير «برج» على أي بناء يتجاوز ارتفاعه الطوابق الستة.

لكن الأبراج الحقيقية تزايدت بكثافة شديدة خلال ربع القرن الماضي، وأبرز مثال على ذلك حي المهندسين الراقي، الذي كان حتى نهاية السبعينيات هادئا للغاية لم تتجاوز فيه أية بناية الطوابق الخمسة وتتخلله المزروعات، فإذا هو الآن غابة كثيفة من الأبراج.

ومع تفاقم بناء الأبراج السكنية بدأ تدريجياً الاتجاه إلى التمايز و«الخصوصية» فظهرت الأبراج المتخصصة، أبراج ضباط الجيش والشرطة والأطباء والمهندسين والزراعيين والصعايدة والمنايفة وغيرها.

وفي هذه الأبراج أو التجمعات المكونة من عمارات متجاورة مخصصة لسكن فئات محددة تتلاقي الفوضى والارتباك الاجتماعي والتداخل غير المحكوم، بل وتحتدم النزاعات في الدور الواحد نفسه لوقوع عدد كبير من الوحدات به. ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل أن الباحثين دائماً عن التمايز والخصوصية من أصحاب المزاج الخاص وأيضاً الدخول المرتفعة سعوا إلى الخروج من «البرج» الفئوي إلى البرج الخاص.

ونشأت ظاهرة الطابق ذو الشقة الواحدة في البرج السكني فيما يشبه حنينا إلى عصر ما قبل الأبراج أو حتى العمارات المتعددة الطوابق، ولكن ما الذي أدى لبروز ظاهرة الأبراج؟ الحقيقة التي لا تقبل الجدال ان ندرة الأراضي المخصصة للبناء في مصر، لعبت دورا كبيرا في هذا الإطار، فالمصريون يعيشون على أقل من 6% من مساحة البلاد، على ذلك الشريط الضيق الملاصق لنهر النيل، وربما يكون الغرام بـ«قلب» القاهرة هو السبب في ذلك بشكل مباشر.

وربما تكون الرغبة في تعظيم الربح وربما يكون الولع بمدن وعمارة عواصم الغرب المتقدم، ولكن المؤكد أن البناء الرأسي أصبح ضرورة حتمية مع ارتفاع عدد السكان في الخمسينيات والستينيات، وارتفاع معدلات الهجرة من الريف للمدينة، ورسخت هذه الضرورة تقاعس الدولة أولا ثم الأفراد عن الخروج من المدن إلى ما حولها، ويضرب المثل في ذلك بمدينة الإسكندرية التي لم ينشأ فيها حي جديد لأكثر من نصف قرن، مما جعل البناء متعدد الطوابق «ضرورة حياة» في عروس البحر المتوسط.

اتسعت إذن وبشكل هائل رقعة الأبراج في البيئة المصرية، واقتحمت القرى أيضاً، فلم يعد مستغرباً أن نجد عمارات تتجاوز الطوابق العشرين في مناطق ما زال يطلق على سكانها فلاحين يستخدمون «الأسانسير» (المصعد) وسيلة للصعود والهبوط من مسكنهم، وكان هذا شكلاً اجتماعياً جديداً على حياة الفلاح الذي اعتاد على السكن وعائلته مفرداً. والمدهش في الأمر أنه بينما يتجه الفلاحون إلى البناء متعدد الطوابق كملجأ وحيد أمام عدم قانونية البناء على الأراضي الزراعية، بدأ سكان المدن في القاهرة وأثرياؤها في السعي للاتجاه المعاكس بالنزول من أبراجهم بحثاً عن الخصوصية والبراح والهدوء، والفضاء المفتوح في القصور والفيلات في المدن الجديدة على أطراف العاصمة. أما من لا يرغب في مفارقة القاهرة سعى إلى خصوصية في البرج، فظهرت ظاهرة الدور شقة واحدة، والتي وصل سعرها أحيانا إلى أكثر من عشرين مليون جنيه كما في البرج الشهير على نيل القاهرة جهة الجيزة.

ثم بدأ هذا النمط السكني أي اختيار عمارة يوجد بها شقة واحدة في كل طابق يجتذب أفراداً من الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة فيما يشبه بواكير ضجر قومي من نمط التزاحم السكاني السائد، ويقسم خبير التسويق وصاحب شركة «إم.تي.إم» أحمد المنشاوي عمارة، أنماط العمارات إلى فاخر جداً ومتوسط وفقير.

ويتحدد هذا التقسيم تبعاً لمساحة الشقة بالعمارة، والمنطقة التي تقع فيها، فالنوع الفاخر لا بد أن تتجاوز مساحة الشقة الـ350 متراً مربعاً حتى يكون عائدها مربحاً، أما النوع المتوسط فتتراوح مساحة الشقة من 150 إلى 250 متراً مربعاً، ويكون عدد الشقق ما بين 3 إلى 8 شقق كما في أبراج المعادي المطلة على النيل.

ويلاحظ المنشاوي أن نسبة العمارات التي بها أكثر من شقة تتجاوز الـ60% ويعتبر أن المثال الأبرز على سيادة الدور على شقتين أو ثلاث نجدها في المناطق الحديثة نسبياً منذ بداية الثمانينيات في حي فيصل والهرم.

ويؤكد المنشاوي أن الأحياء الأحدث التي تبنى على أطراف القاهرة والجيزة مثل حدائق الأهرام والتجمعات الجديدة تتميز بأنها غير مرتفعة على الاطلاق، حيث لا يتجاوز الـ90% منها الأربعة أدوار. ويلفت المنشاوي النظر إلى أن هذه البنايات توفر لساكنيها الإحساس بالخصوصية والراحة، مع لمسات جمالية في المنظر المفتوح الرحب، بالإضافة طبعاً إلى ركن خاص بالسيارات.

ويشدد المنشاوي على تعاظم شكوى سكان العمارات ذات الشقق الكثيرة الأدوار والشقق من عدم كفاءة المصاعد وكثرة أعطالها، وضعف وكثرة أعطال المرافق نتيجة كثافة الاستخدام. كما يضيف المنشاوي إلى أن الإقبال قد تراجع نسبيا مثلا على التجمعات الجديدة على أطراف المعادي المبنية من عمارات متعددة الطوابق في كل طابق منها ما بين 6 و8 شقق ولكن بالطبع فأن هناك زبائن تعتبر عملية الإنتظار حتى يتمكنوا من حيازة شقة في عمارة بها وحدة واحدة في كل طابق ترفا بالنسبة لهم. ويؤكد سمسار العقارات مجدي الأسيوطي أن الغالبية العظمى من عملائه يفضلون شقة الدور الواحد، وأنه كلما زاد عدد الشقق قل الإقبال عليها.

وفي التمليك بالذات تكون شقة الدور الواحد هي الرغبة الملحة مع بحث العميل عن المزايا الأقرب مثل «ركن» السيارات «الفيو» (المنظر الطبيعي) وسعة الشارع، ويعتبر أن الـ150 متراً مربعاً هي المساحة التي يجب ألا تقل عنها الشقة.

ويرجع الخبير الاقتصادي ومساعد مدير عام الاستثمار ببنك الاستثمار العربي الدكتور محمود حسين بروز الاتجاه إلى الأبراج العالية لندرة الأراضي المتاحة للبناء في العاصمة ومراكز المحافظات الكبرى، وارتفاع قيمتها بالتالي، لذلك سعى ملاك هذه العقارات لتعظيم الاستفادة من المتر المربع الواحد من خلال البناء الرأسي ومضاعفة المستأجرين بذلك.

ويعتبر الدكتور حسين أن هذا النموذج ما زال الطريق مفتوحاً أمامه للنمو بصورة كبيرة حيث يحقق عوائد مرتفعة من صناعة وتجارة العقارات.

ويحدد أبرز سلبيات هذا الاتجاه بما يشكله من ضغوط هائلة على المرافق العامة، فالمتر المربع الواحد يستخدم مرافقه المحددة أكثر من مستخدم مما يعجل بتهالكها، وارتفاع أجور صيانتها، بالإضافة طبعاً لما يشكو منه السكان من ضغط على الطرق والشوارع وهدير الزحام وتكدس السيارات حيث يشكل «الفوز» بمكان لإيقاف السيارة في حي مثل المهندسين نجاحاً باهراً للسكان.

وينبه الدكتور حسين إلى ضرورة تلبية مختلف الرغبات ويلاحظ أن الأغلبية العظمى من المشترين والمستأجرين للسكن في مصر هم من الشباب المقبلين على الزواج، لذلك يشكل البناء المرتفع وبه في الدور أكثر من شقة الاختيار الأمثل للطرفين البائع والمشتري على حد سواء. أما الشريحة الضئيلة للغاية الراغبة ولديها الإمكانيات في مساحة أكبر، وخصوصية أكثر، ورفاهية، وجماليات، فيجب أيضاً تلبية رغبتها وتوسيع حجم هذه الشريحة من خلال تسهيلات في السداد، والتوسع في إنشاء المدن الجديدة وربطها جيداً بمراكز المدن قبل البناء وليس بعده. ويلفت حسين الإنتباه إلى أنه وبعد أكثر من 25 عاماً من إنشاء مدينة 6 أكتوبر، ما زال بعض سكانها من الطبقة دون المتوسطة يشعرون أنهم معزولون عن العاصمة.

ويلاحظ الدكتور حسين أن اقتصادات الإسكان في مصر تواجه معضلات كثيرة من أبرزها تعقد حسابات التكلفة والعائد، إذ ان التكلفة تواجه ضغوطاً هائلة من خلال ارتفاعات مضطردة في أسعار الأراضي وندرتها بالأساس، وارتفاع تكلفة مد المرافق إلى التجمعات الجديدة خارج المدن، بالإضافة طبعاً للارتفاع المضطرد لأسعار مواد البناء والذي بات يتكرر أحياناً كثيرة وبصورة غير مبررة. ويلفت إلى أن على الدولة والمجتمع التعامل بصورة سريعة وحكيمة مع حقيقة أن هناك أكثر من 3 ملايين شقة مغلقة وغير مستفاد منها في مصر، وهي بذلك ثروة هائلة مجمدة ومهدرة.

ويؤكد الدكتور حسين أن انتشار الأبراج يبدو كضرورة لكن محاولة إيجاد بدائل مناسبة سيكون حتمياً، لأنه سيأتي وقت سيصبح التوسع الرأسي مفزعا في مناطق هامة في العاصمة والمدن الكبرى، حيث لن تتحمل المرافق ذلك وسيكون التكدس خانقاً على الرغم من كل الحلول التي يتم ابتداعها مثل «الكباري ومترو الأنفاق» لتوسيع إمكانيات المرافق. ويلفت إلى أن هناك ضرورة لتحفيز طاقات المصممين المعماريين لتلافي سلبيات الأبراج التي قد توحي لبعض ساكنيها بالوحشة والمعاناة وافتقاد الخصوصية.

ويشير خبير التسويق محمد علي مراد إلى أن عمارة الأدوار القليلة ثلاثة على الأكثر هي أيضا مطلب ملح مع عمارة الشقة الواحدة في الدور ويقول إن النمط السائد في التجمعات الجديدة على أطراف القاهرة يميل إلى ذلك غير أنه بدأت تظهر فيه تشويهات نخشى أن تعيدنا إلى المربع رقم 1 (البداية)، لافتاً إلى ارتفاع تكلفة الوحدة بالضرورة في السكن ذي الخصوصية. وحذر محمد من اختلاط الأنماط في المستقبل، كأن يلجأ الكثيرون من ملاك الأراضي في تلك التجمعات للبناء الرأسي مما يفقد السكان المزايا التي سعوا إليها من خصوصية وبراح وهدوء وترفيه.