ناطحات السحاب الفولاذية الزجاجية أصبحت سمة المعمار الحديث

لأن الفولاذ مثل الزجاج مرن التشكيل وقابل لإعادة التدوير

TT

قد يلاحظ المهتمون بقضايا المعمار والعقارات أن نمطاً حديثاً في البناء انتشر في كثير من مدن العالم بما في ذلك عدد من المدن العربية، خصوصا في دول الخليج، مثل الرياض ودبي وأبوظبي، فضلا عن دول غربية وآسيوية مثل نيويورك وهونغ كونغ وغيرهما. ويتمثل هذا النمط الحديث في استخدام الفولاذ ـ بدلاً من الأسمنت المسلح (الخرسانة) ـ في تشييد «الهيكل العظمي» للبناء، ثم كساء الوجه الخارجي بالزجاج بدلاً من الطوب والطلاء. وقد ظهر هذا الطراز المعماري أكثر وضوحاً في ناطحات السحاب والبنايات الضخمة الأخرى كالمطارات وملاعب الرياضة الدولية. وفي هذا الصدد قال لـ «الشرق الأوسط»، مايك رييد، مدير شركة «ريدماك الاستشارية المعمارية»، إن لاستخدام الفولاذ مزايا عديدة من أهمها أنه سهل التقطيع والتشكيل، الأمر الذي يمنح التصميم المعماري مرونة في الابداع والخروج عن الأشكال التقليدية والوظيفية للبناء. كما أن الفولاذ أخف وزناً من الأسمنت المسلح ويحتل مساحة أقل داخل المبنى ويستغرق وقتاً أقل كثيراً في تركيبه وتشييد البناء. وأضاف رييد أن هناك ميزتين أخريين أكثر أهمية من هاتين السابقتين وهما أولاً أن الفولاذ أقل ضرراً للبيئة من الأسمنت المسلح الذي يتسبب انتاجه في نحو 6% من ظاهرة الاحتباس الحراري، وثانياً فهو مادة قابلة لإعادة التدوير (إعادة الاستخدام) بينما يصعب تطبيق ذلك على الأسمنت المسلح»، لكن رييد أكد أن الفولاذ لا يمكن أن يحل محل الأسمنت المسلح في بناء الأساس الذي يغوص في باطن الأرض، كما أنه قد لا يكون مجدياً اقتصادياً في المباني الصغيرة التي لا تتعدى طابقين.

ويُلاحظ أن استخدام الفولاذ في المباني المرتفعة قد اقترن باستخدام الألواح الزجاجية لكساء الوجه الخارجي، بحيث أصبح تعبير Glass-and-steel (الزجاج والفولاذ) شائعاً بين المعماريين. وعن مزايا الزجاج قال رييد «إن صناعة الزجاج قد تطورت كثيراً في العقدين الماضيين بحيث أصبحت هناك أنواع عديدة من الزجاج التي تصلح لمختلف الاستخدامات والمناخات. فهناك على سبيل المثال، الزجاج المقوّى الذي يفوق في قوته كثيراً من المعادن الصلبة، وهناك أيضا الزجاج الذي يحجز الإشعاعات الضارة من الشمس بينما يسمح بمرور ضوء النهار، ثم هناك الزجاج الذي يغيّر لونه حسب قوة أشعة الشمس، وأخيراً هناك الزجاج الحراريThermal glass وهو نوعٌ من الزجاج المعالج بمواد كيماوية تدخل في تصنيعه بحيث يمّكن الزجاج من حفظ درجة الحرارة أو البرودة داخل المبنى. ويُعتبر هذا النوع الأخير نقلة مهمة في استخدام الزجاج في المباني لأن احدى مشاكل الزجاج في الماضي أنه لا يعزل الحرارة بكفاءة مثلما يفعل الطوب أو الخشب أو الأسمنت. لكن المهندسين تغلبوا على هذه المعضلة بوضع طبقتين من الزجاج بينهما فراغ هوائي يعمل كعازل للحرارة Double glazing، ومثلما هو الحال مع الفولاذ فإن الزجاج يمتاز بكونه مرن التشكيل، وهو أيضا مادة قابلة لإعادة التدوير مما يجعله خياراً مفضلاً لدى كثير من المعماريين والمهندسين الإنشائيين في الغرب الذين أصبحوا يضعون قضية الحفاظ على البيئة في قلب تصاميمهم الهندسية. ومن مزاياه الهامة أيضا أنه يسمح بدخول ضوء النهار الطبيعي إلى داخل المبنى، ومن ثم يوفر قدراً هائلاً من استخدام الكهرباء لإضاءة ناطحات السحاب، على عكس ما يحدث في المباني الأسمنتية والحجرية. لكن رييد يشير إلى أن الزجاج غالي الثمن، خصوصا الأنواع المحسّنة منه، ولا يُقبِل على استخدامه الا أصحاب الميزانيات الكبيرة. وأضاف أن كثيرا من المباني تخلط بين الزجاج والأسمنت حسب ما تسمح به ميزانيتها. فكلما كبرت الميزانية ازداد استخدام الزجاج. يذكر أن العاصمة البريطانية لندن قاومت لسنوات طويلة إغراء ناطحات السحاب الزجاجية الحديثة، وتمسكت بمبانيها الحجرية التقليدية والتي تكون عادة محدودة الارتفاع ويعود عددٌ كبير منها للعصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر حين شهدت بريطانيا طفرة معمارية ضخمة. غير أن حمى الفولاذ والزجاج تغلبت أخيراً على حي المال اللندني، إذ قام كثيرٌ من الشركات العقارية ببناء أبراج وناطحات سحاب على الطراز الزجاجي النيويوركي لكي تصبح مكاتب ومقار للمصارف الدولية والشركات المالية الكبرى التي ترغب في العمل من لندن أو فتح فروع لها في أهم سوق مالية في أوروبا. وقد اشتهر مهندسان معماريان، هما نورمان فوستر وريتشارد روجيرز، بمبانيهما الزجاجية الجذابة مثل برج «غركين» الذي صممه فوستر ومبنى «سوق لويدز للتأمين» الذي صممه روجيرز. وكلا المبنيين أصبحا من معالم لندن الرئيسية ومن أفخر تقاليدها المعمارية الحديثة. لكن الجدل بين الحداثة والتقليدية لا يزال ساخناً بين المعماريين البريطانيين. فعندما تم الكشف عن خطط بناء ناطحة السحاب «شارد» قرب منطقة «لندن بريدج» في عام 2000 انتقدت هيئة التراث الإنجليزية المبنى ووصفته بأنه أطول مبنى في أوروبا لكنه أسخف شيء في لندن. فقد زادت مثل تلك المناقشات الحادة في المدينة التي تتسارع فيها وتيرة مشاريع بناء الأبراج الشاهقة الزجاجية. فمنذ اكتمال ناطحة السحاب الزجاجية «غركين» عام 2004 التي صممها المهندس فوستر تم التخطيط لما لا يقل عن 6 أبراج شاهقة تحتوي على مساحة 375 ألف متر مربع من المكاتب ليتم بناؤها في المدينة. وقد أتت اقتراحات البناء من كل الاتجاهات بما في ذلك أكبر شركتين للعقارات في لندن وهما شركة «لاند سييكوريتيز» وشركة «بريتيش لاند». ويعود السبب في الإقبال المتزايد على المباني الفاخرة الشاهقة الارتفاع، جزئياً إلى رغبة المستأجرين في الحصول على قاعة اجتماعات مطلة على منظر خلاب في المدينة. كما يلعب القلق من المنافسة دوراً أيضاً، إذ تحبذ السلطات المحلية في مركز لندن التجاري مزيداً من المباني الشاهقة تهيباً من المراكز التجارية المنافسة والتي لم تعد تقتصر على فرانكفورت وباريس.

فقد حوّل ـ في السنوات العشر الأخيرة ـ عددٌ من المصارف الكبرى مكاتبها من مركز لندن التجاري القديم إلى مجمع «كناري وورف» للبنايات الشاهقة في شرق لندن. إلا أن السلطات المحلية لمركز لندن مصممة على منع تكرار حدوث ذلك. وعلى الرغم من أن الطلب على تأجير مكاتب منخفض في الوقت الراهن فإن السلطات تود أن تكون مستعدة عندما يبدأ السوق في النمو مرة أخرى، وذلك بواسطة قائمة جاهزة من مشاريع ناطحات السحاب. ويؤيدها في ذلك عمدة لندن كين ليفينغستون الذي يعتقد أن المباني العالية تزيد من جاذبية العاصمة. غير أن مدينة لندن الزاخرة بالتاريخ والشخصيات فمن الممكن أن يقف ذلك التاريخ في وجه تلك الخطط، إذ تتردد هيئة التراث الانجليزية من فقدان مبان معينة، وكذلك الساحات والمناطق المطلة على كاتدرائية «سانت بولز» الشهيرة الواقعة بالقرب من بوابة حي المال. وعلى الرغم من ذلك فإن المحافظين يحاولون مقاومة المد ويؤكدون أن المباني العالية الزجاجية مهما كانت فخامتها فهي سوف تحجب كاتدرائية «سانت بولز» ومباني وست مينستر» حيث مقر البرلمان العتيق وأجمل وأشهر مباني أوروبا. ويقول آدم وليكينسون من هيئة «انقذوا التراث البريطاني» إن الموجهات مضللة وسوف تؤدي المباني الجديدة إلى تغيير الخلفية المحيطة بالمواقع التاريخية من خلال طول المباني الحديثة والتي ستغير ملامح لندن لتحوّلها الى نسخة مشوهة من مدينة نيويورك. وتكمن الصعوبة الأخرى في أن العديد من المباني الشاهقة تعد غير عملية. فقد عانى مبنى «الغركين» المملوك لشركة التأمينات العملاقة «سويس آر إي» من بطء عروض الإيجار وذلك بسبب نظام التهوية الخاص به والمصمم بشكل يكفل المحافظة على البيئة، إضافة إلى أن تصميمه الخارجي الشبيه بالسيجار ينتج منظراً غير مريح. ومن جانبها تبذل سلطات مركز لندن التجاري وعمدة المدينة مجهوداً كبيراً كي لا يتكرر ما خسره المركز لصالح أبراج «كناري وورف» بسبب من الموقف المحافظ المعادي للمباني الحديثة. وسوف يعاني حي المال ووسط العاصمة البريطانية إذا لم يتم بناء الأبراج الشاهقة.