جنوب أفريقيا استثناء فريد في قارة غابت عن خارطة العالم للعقارات

30.1% عائد الاستثمار

TT

تغيب أفريقيا عادة عن خارطة الأسواق العقارية في العالم، باستثناء 3 بلدان ناشئة وهي المغرب وكينيا وجنوب أفريقيا. وشهدت أسعار العقارات في جنوب أفريقيا خلال السنوات الثلاث الماضية طفرة كبيرة فاقت توقعات المتتبعين للأسواق العقارية الناشئة، الأمر الذي جعل مجلة «ذي إكونوميست» الشهيرة تضع جنوب أفريقيا على رأس قائمة أفضل أسواق العقارات أداء في العالم لسنة 2005. كما أوضحت إحصاءات «بنك المعلومات للاستثمار العقاري» (IPD) الدولي أن عائد الاستثمار في عقارات جنوب أفريقيا بلغ العام الماضي 30.1% من رأس المال المستثمر، أي أكثر من ضعف متوسط العوائد في 4 دول غربية، وهي: بريطانيا التي حققت عائداً سنوياً نسبته 19.1%، ثم كندا التي بلغ عائدها 18.7%، والسويد 12.7% وأخيراً هولندا 10.2%.

ومن مفارقات القدر أن مدينة جوهانسبيرغ، التي ترتبط في ذهن العالم بالمظاهرات والعنف والفقر إبان عهد التفرقة العنصرية، تحولت الآن الى أهم الأسواق العقارية في جنوب أفريقيا. وحسب دراسة أعدها بنك «فيرست ناشونال» الجنوب أفريقي فإن 7 مستثمرين يتنافسون على شراء أي منزل يُعرض في السوق للبيع في مدينة جوهانسبيرغ، خصوصاً في الأحياء التي يقطنها السود ـ وأشهرها وأكبرها حي «سويتو» الذي شهد كثيراً من أحداث العنف والمقاومة للنظام السابق. وتأكيداً لهذا الواقع فقد موّل بنك «فيرست ناشونال» مشروعاً عقارياً ضخماً عبارة عن مجمع سكني يقع على أطراف حي «سويتو» ويلقى إقبالاً كبيراً من المشترين المقتدرين المحليين (من أبناء الطبقة المتوسطة والمهنيين) ومن المستثمرين الأجانب أيضاً.

وليس غريباً أن يشّكل البريطانيون الجزء الأكبر من المستثمرين الأجانب الذين يقبلون على شراء العقارات في جنوب أفريقيا الناشئة بسرعة. فالعلاقة التاريخية والروابط الثقافية قوية بين البلدين. ويفضل البريطانيون مدينة «كاب تاون» التي تشهد أيضاً إقبالاً مماثلاً لجوهانسبيرغ، بل في بعض الأحيان يصل متوسط عدد المتنافسين على شراء نفس العقار إلى 8 مستثمرين. وبالطبع فقد كانت النتيجة الطبيعية لهذا الإقبال والتنافس أن ارتفعت الأسعار إلى أعلى من قدرة السكان المحليين الذين راحوا يبيعون منازلهم القديمة (بقيمة الأرض فقط) للمستثمرين الأثرياء الذين يقومون بدورهم بتشييد عقارات حديثة لتحل محل المنازل القديمة. وقد بلغ إقبال المستثمرين الأجانب على جنوب أفريقيا حداً جعل رئيس البلاد تابو مابيكي يكوّن لجنة للنظر في العلاقة بين الهجمة الأجنبية وارتفاع أسعار العقارات. غير أن بعض الاقتصاديين الأجانب يعتقدون أن ظهور طبقة متوسطة جديدة من المهنيين والمستثمرين السود هي الدافع الحقيقي وراء ارتفاع أسعار العقارات في جنوب أفريقيا، وأن الإقبال الأجنبي لما كان أن يحدث أصلاً لولا الأرباح التي راحت تحققها العقارات بفعل الاقبال المحلي. ويستدل هؤلاء بأن نسبة الصفقات العقارية التي تمت لصالح الأجانب لم تتعد واحداً في المئة من جملة المبيعات والمشتريات في سوق العقارات العام الماضي، لكن هذه النسبة بلغت 7% في مدينة «كاب تاون» حيث تضاعفت أسعار العقارات خلال 4 سنوات فقط.

وكان اقبال المستثمرين الأجانب على عقارات جنوب أفريقيا قد بدأ بالأفراد لكنه سرعان ما جذب انتباه الشركات العقارية التي تحوم حول العالم باحثة عن الفرص الخام في الأسواق الناشئة. ويعتبر انجذاب إحدى هذه الشركات نحو جنوب أفريقيا دليلاً واضحاً على مستقبلها الواعد، إذ قررت أخيراً شركة «سي دي اس» البريطانية إنشاء صندوق استثماري عقاري برأسمال قيمته 100 مليون دولار لاقتحام مواقع جديدة في القارة السوداء. ورغم ان مقر الصندوق سيكون في مدينة جوهانسبيرغ فإن مديري الصندوق يعتزمون طرق بلدان جديدة في أفريقيا وعدم حصر أنفسهم في جنوب افريقيا وحدها. ومن المدن الأفريقية التي يعتزم الصندوق اقتحامها لاجوس العاصمة التجارية لنيجيريا وكمبالا عاصمة يوغندا ونيروبي عاصمة كينيا ودار السلام في تنزانيا. ومن المتوقع أن تراقب الأسواق المالية العالمية أداء هذا الصندوق عن كثب، لأنه اذا نجح فقد يفتح باباً جديداً على القارة، بحيث يصبح هذا الصندوق نقطة تحول في حظوظ القارة من الاستثمارات العقارية. وكانت مثل هذه الصناديق قد أثبتت نجاحاً خلال العقدين الماضيين في أميركا اللاتينية وآسيا وحالياً في دول شرق أوروبا. غير ان وضع جنوب أفريقيا له خصائصه بحكم التاريخ المميز للبلاد. فمن ناحية تسعى الحكومة إلى إجراء اصلاحات في قانون الأراضي وإعادة توزيع ملكية الأرض على الغالبية السوداء التي حُرمت منها طوال عهد الفصل العنصري. وهذا الأمر بالطبع قد يزعج المستثمرين الأجانب. ولكن من ناحية أخرى فالسلطات الجنوب أفريقية لا ترغب في تكرار تجربة زمبابوي المجاورة، حيث حرّضت الحكومة مؤيديها على الاستيلاء على الأراضي بالقوة من المزارعين البيض. وقد أدى هذا الاسلوب الى هروب رأس المال المحلي واحجام رأس المال الأجنبي عن الاستثمار في العقارات، التي تتطلب عادة سنوات طويلة من الاسقرار الاقتصادي والقانوني بحيث يخلق مناخاً من الطمأنينة. كما أن اسلوب زمبابوي أدى إلى خلق انطباع دولي بأن السلطات لا تحترم القانون وأن الملكية الخاصة لا تجد حماية كافية. غير أن حكومة جنوب أفريقيا أذكى من أن تلجأ إلى هذه الطريقة التي تعلم أنها ستخسرها الكثير على صعيد الاستثمارات والانتعاش الاقتصادي. وفي محاولة للتوفيق بين الرغبة في إعادة توزيع الأرض واحترام القانون وحقوق الملكية الخاصة، فربما تلجأ اللجنة التي شكلتها الحكومة إلى الحد من «الملكية الحرة» للأجانب والعمل بنظام استئجار الأرض لعقود طويلة تخضع للتجديد بانتهاء فترة العقد. كما وجه الرئيس مابيكي وزير الأراضي تاهوكو ديديزا بدراسة النماذج والتجارب المختلفة للدول التي أجرت برامج لإعادة توزيع الأرض، مؤكداً في الوقت ذاته أن حكومته ستحترم القانون في كل الأحوال وستلتزم بالمعايير والممارسات الدولية. ويبدو أن برنامج الاصلاح للأراضي في جنوب أفريقيا لم يخف المستثمرين الأجانب، ربما لعلمهم بأن الحكومة تلتزم بالقانون وبمبدأ التراضي في عمليات بيع وشراء الأرض، فضلا عن درجة عالية من استقلال القضاء الذي يمكن أن تحتكم إليه أي منازعات حول العقار والأرض.

كما يشير سماسرة العقارات إلى أن انتعاش أسواق العقارات لا يتأتى عادة دون الاستناد إلى انتعاش اقتصادي مستديم. وهذا ما يبدو أنه يدعم الطفرة العقارية في جنوب أفريقيا، إذ أنها نجحت في تخفيض معدل التضخم إلى 3.7% وحققت نمواً في إجمالي الناتج المحلي بنسبة 4.2% في العام الماضي، وهي تتوقع تحقيق نسبة 6% هذا العام. وأوضح تقرير صدر مؤخراً عن البنك الدولي أن سعر صرف العملة المحلية «راند» قد استقر خلال النصف الثاني من التسعينات، ثم تضاعفت قيمتها مقابل الدولار منذ عام 2001. وأوضح التقرير أيضا أن انتاجية العامل في جنوب أفريقيا أعلى من نظيره في دول ناجحة اقتصادياً مثل البرازيل وبولندا وماليزيا، مشيراً إلى أن التوقعات الاقتصادية تتجه نحو اقتصاد أقوى وأكثر استقراراً في جنوب أفريقيا. ومع الاستقرار والنمو الاقتصادي يُتوقع أن يتواصل الانتعاش في سوق العقارات، خصوصاً وأن أراضي واسعة لا تزال إما غير مستغلة أو تتطلب إعادة تعميرٍ وتحديث. وقد تعهدت الحكومة بتوفير البنية التحتية لهذه المشاريع عبر تخصيص أكثر من 66 مليار دولار للإنفاق خلال السنوات الخمس المقبلة على الطرق والصرف الصحي والكهرباء وغيرها من الخدمات الأساسية لإحياء المدن.