محاكاة «فينسيا» في مصر.. بين البحث عن الرواج التسويقي والمخاوف البيئية

في غياب الجندول والبينالي ومهرجانات السينما

TT

«فينسيا» المدينة الإيطالية الخلابة بطبيعتها الساحرة واحدة من أهم التجارب الإنسانية والجمالية، لذلك سعى الكثيرون لمحاكاتها، متصورين أن نقل هذه البيئة السياحية لا يحتاج إلا لشاطئ مفتوح يمكن استغلاله وتحويل المياه منه إلى أقنية داخل الأرض المفتوحة خلفه وتكوين ممرات وشوارع مائية وجزر صناعية، وبيئة مهندسة، وهو النموذج الذي يسعى لنقله إلى مصر مشروع «بورتو مارينا» الذي تقيمه شركة دلمار المحلية على ساحل البحر المتوسط. الأمر الذي يثير جدلا حادا شارك فيه معماريون وخبراء في شؤون البيئة حول جدوى استنساخ التجارب العمرانية ومحاكاة هذا النموذج، غذته في مصر الإعلانات المتكررة في الأيام الأخيرة عن مشروع «بورتو مارينا» ذي الشوارع الفينسية الجذابة ـ كما يتم الترويج له ـ، وتتمحور الاعتراضات في مخاوف تتعلق بالبيئة، والجدوى والتكلفة، وفي استسهال «المحاكاة» والنقل عن الآخرين، في حين يدافع أصحاب هذه التوجه والمحبذون له عن حق المستثمر في اختيار المشروع الذي يناسبه، وتأكيدهم على أنهم لا يلقون بأموالهم في البحر، بل ينطلقون من دراسات جدوى ترتكز على «حقائق» مؤكدة وأساليب علمية في التخطيط والتنفيذ.

مصطفى طلبة رئيس المركز الدولي للبيئة والتنمية، ومقره القاهرة حذر من أن ارتفاع درجة حرارة الأرض قد يصاحبه ارتفاع في مستوى سطح البحر مما يشكل تهديدا عاما للمشروعات من هذا النوع على المدى البعيد، وحذر طلبة من أن المناطق المنخفضة في افريقيا ـ كمثال ـ المحاطة بالمسطحات المائية تواجه خطر ارتفاع مستوى الماء إلى ما بين 25 إلى 80 سم، مما قد يؤدي إلى غرقها. ويقول المحذرون من مثل هذه المشروعات: ان أول وأنجح نموذج قريب من هذا النوع في مصر، وهو قرية «الجونة» القريبة من مدينة الغردقة على البحر الأحمر تتميز بانخفاضها عن سطح البحر بصورة ملحوظة، وأن المخاطر المستقبلية من ارتفاع مستوى المياه عليها واردة. ويحذرون من عدم أخذ هذه المخاوف في الاعتبار، وإن كانت متوقعة على المدى المتوسط (30 أو 40 عاما) وليس القريب.

ويرى الخبير في التنمية المستدامة والتخطيط الاستراتيجي عدلي حسنين ان «هذه القرى قد تعد استثمارا ناجحا بشكل عام، لكنها تتضمن إهدارا، وذلك لعدة اعتبارات، أولها أنه طبقا لدراسات منظمة الزراعة والأغذية فإننا في مصر تحت خط الاحتياج من المياه، ولو كثرت المسطحات المائية، سنفقد كمية أكبر من المياه عن طريق البخر (في حالة استخدام مياه عذبة). ويقول ان المشاريع السياحية على البحر ترفع نسبة النحر المائي (تآكل الشواطئ) وهذا يلاحظ حاليا في شواطئ البحر الأحمر والغردقة.

ويضيف حسنين «إن القنوات أو الشوارع المائية مياهها غير جارية بل راكدة، مما سيعطي فرصة أكبر للأمراض المائية والحشرات بالانتشار، بالإضافة إلى ضرورة القيام بالصيانة المستمرة والتي ترفع التكلفة على الشريحة المستهدفة» ويستدرك حسنين قوله «بالفعل توجد قواعد وقوانين تحتم الصيانة الدورية والنظافة، إلا أنه في أغلب الأحوال لا يتم تطبيق هذه القواعد». ويرى أن ما يحدث الآن مخالف لقانون البيئة، حيث يشترط هذا القانون دراسة الأثر البيئي على المنطقة وعلى السكان، في المديين القصير والطويل ويجب طرح هذه الدراسات على الرأي العام بشفافية، لإبداء الآراء في مثل تلك المشروعات». ويختتم قائلا: «لماذا أبني فينسيا صناعية في الشرق الأوسط؟، ونحن عندنا الشرق بسحره من شواطئ وصحراء... انهم حتى في فينسيا الأصلية يدفعون المليارات للمحافظة عليها من الانهيار، حيث يتم الآن بناء 78 سدا في قاع البحر، لحجز المياه في حال وقوع مد أو فيضان للماء. لكن إذا تم استغلال سحر شرقنا اقتصاديا وبيئيا سيعود علينا ذلك بشكل أكثر جدوى من النواحي الاقتصادية والبيئية والسياحية.

ويختلف معه المعماري محمد سامي قديرة قائلا: «بالعكس إقامة فينسيا مصغرة في مصر، مفيد استثماريا على أن تكون على الشواطئ البكر، أما إذا فكر أحد في مثل هذه المشروعات حول القاهرة أو المدن الكبرى كما يعلن البعض فسيكون ذلك إهدارا وله مخاطر حقيقية. وينبه قديرة إلى أن على المستثمر إجراء دراسات بيئية، للحفاظ على الثروات البحرية الموجودة في المنطقة التي يتم البناء عليها، بحيث يتم منع مزاولة الرياضة البحرية داخل البحيرات الصناعية لان ممارسة مثل هذه الرياضات يسبب تلوثا ومشاكل وحوادث كثيرة. أما بالنسبة للصيانة فيؤكد أنه إذا تمت دراسة جدوى اقتصادية صحيحة، لا تكون التكلفة الاستثمارية مرتفعة، بل على العكس تدر عائدا مجزيا استثماريا واقتصاديا للمنطقة وما حولها .

ويتفق خبير التنمية الفندقية والتمويل عبد الحميد فرغلي مع قديرة مشددا على أن مثل هذه المشاريع السياحية، ذات عائد استثماري وسياحي مجز، خاصة إذا تمت دراستها اقتصاديا بشكل جيد مع اختيار الأماكن الساحلية المميزة، لافتا إلى أن مصر لم تأخذ نصيبها المستحق من المشاريع السياحية في أماكن كثيرة، على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط والأحمر وكذلك البحيرات ونهر النيل. ويضيف فرغلي «مصر في أشد الحاجة لمثل هذه المشروعات العملاقة ذات التكلفة الاستثمارية العالية لمقاومة فكرة أن مصر سياحة البلد الرخيصة»، مشيرا إلى أن التكلفة العالية موجهة لعميل محدد، موضحا أن التكلفة مرتفعة بالفعل في مثل هذه المشاريع، وهي اكثر كلفة من الفنادق في نفس المستوى بحوالي 25% ، فالغرفة في فندق 5 نجوم تتكلف 250 ألف جنيه، و 4 نجوم 200 ألف، و 3 نجوم 150ألف (الدولار=5.72 جنيه)، وذلك قبل زيادة أسعار مواد البناء، وفي بعض المشاريع ترتفع التكلفة لأكثر من 50 %. لكنه واثق من أن المشاريع التي تحاكي فينسيا وتستفيد من الشواطئ المصرية البكر في البحر الأحمر وخليج السويس والعقبة والبحر المتوسط ستكون مصدر إلهام لكثير من المستثمرين في مصر، وسيكون اتجاهها صاعدا بلا شك.

ويوافق نائب رئيس غرفة شركات السياحة عمرو صدقي على تنبؤات فرغلي قائلا: «هناك مشاريع تستوحي فكرة فينسيا مصغرة يتم دراستها حاليا»، موضحا «أن هذا شكل جديد للمدن السياحية، وهذه مشروعات استثمارية كبيرة، تستهدف شرائح، وأسواقا معينة ومحدودة. مشددا على أنه لا يجوز الحجر على أفكار المستثمرين، طالما أن الهدف تعظيم العائد على الاستثمار. ويستكمل موضحا: «انه لا يتم نقل فينسيا أو البندقية هنا كما يتصور البعض، بل ان الفكرة هي إحياء للظهير الصحراوي للمشاريع الاستثمارية، فنحن لدينا شواطئ ساحلية وعمق صحراوي، ولذا يمكن أن يتم تخطيط القرى السياحية على مستويات متدرجة، مع عمل شوارع مائية على نطاق ضيق ومصغر.

ويختلف مع الآراء السابقة رئيس هيئة التنمية السياحية الأسبق وعضو اتحاد الغرف السياحية حسين بدران، متشككا في أن تكون مثل هذه المشروعات جاذبة للسياحة، منبها إلى ارتفاع التكلفة الاستثمارية، وهي تستهدف شرائح مرتفعة الدخول من الأجانب» ومن البديهي عند هذه الشريحة أن تذهب فينسيا «الطبيعية» وليست الصناعية. واستطرد «أشك أيضا أن تلاقي مثل هذه المشاريع في حال التوسع فيها قبولا من الشرائح المصرية أصحاب الدخول المرتفعة، معللا ذلك بأننا «أناس كلاسيكيون وتقليديون». ويتفق مع بدران، رئيس لجنة السياحة بجمعية شباب رجال الأعمال هشام شكري بادئا قوله: «من يرد فينسيا، فليذهب إليها، أما أن نقوم بعمل «فينسيا» مصغرة، فهذا يعد كسلا وفقرا في الأفكار والابتكار وقد يصل إلى حد الاستنساخ المشوه. أما رئيس لجنة العمارة بالمجلس الأعلى للثقافة صلاح حجاب فيؤكد أنه قبل مناقشة مثل هذه الأفكار «لا بد أولا من تحديد عدة عوامل» لمن؟ وأين؟ وهل هي مطلوبة ؟» فإذا تمت الإجابة على هذه الأسئلة، يتم استكمال الكلام عن الجدوى الاقتصادية من المشروع، وإذا لم نجد إجابات فهذا غش للعميل وللجهات المانحة أو الممولة. ويضيف حجاب قائلا: «أما إذا تحدثنا عن فكرة قائمة بالتحديد، فأرى أنها نقلة حضارية إلى أسفل، وان القيمة داخل المجتمع العربي بشكل عام تغيرت، فبدلا من بناء أو عمل مشروعات تستمد من تواصل الحضارات، يتم عمل أفكار مقلدة» ويعتبر حجاب أن محاكاة فينسيا «ضياع للهوية»، واستمرار لمنهج البحث عن شيء آخر غربي، واعتبار ذلك هو الأفضل، وهذا اعتقاد خاطئ».

من جهته يقول رئيس مجلس إدارة شركة إيدار العقارية باهر سلامة: «إن مثل هذه المشروعات تلقى رواجا تسويقيا، وهذا واضح من زيادة حركة الإقبال على ما تم طرحه اخيرا، ويضيف باهر «ان المسطحات المائية تنقسم إلى «البحيرات الصناعية، الشلالات، الممرات المائية»، وتعتبر مثل هذه العناصر في كثير من المشروعات جمالية، وهذا يعد إهدارا، نظرا لاحتياجها لصيانة دورية تكون غالبا مرتفعة التكلفة...أما إذا كانت القنوات والممرات المائية المهندسة لها هدف وظيفي فهي تضيف لقيمة المشروع الأصلي الذي تخدمه.

جدير بالذكر أن المحاولة الشرقية المبكرة لتقليد فينسيا تمثلت في (القرية المائية «كامبونغ آيبر») الموجودة في سلطنة بروناي وهي أكبر قرية سكنية تطفو على سطح الماء في العالم، وترسو على ضفتي نهر بروني. وخلال العقدين الأخيرين التفت رجال الأعمال العرب والمصريين إلى بعض الشواطئ الفريدة في مصر، وراحوا يحاولون محاكاة فينسيا، متجاهلين أن الطبيعة المائية الفريدة لتلك المدينة الإيطالية، المكونة من أكثر من مائة جزيرة مائية ملتصقة، وتخلو شوارعها وأزقتها الضيقة من السيارات، وتقتصر طرق التنقل في المدينة على القوارب الكلاسيكية «الجندول» بالأساس، ليست إلا أحد عناصر الجمال فيها، فـ «أسطورة» فينسيا صنعها إبداع الفنان والمهندس والبناء الإيطالي عبر جهد متواصل طوال أربعة قرون، حتى أضحت العمارة والنشاط الفني ـ مهرجان السينما، بينالي فينسيا،الحفلات الموسيقية، وغيرها ـ أهم كثيرا للسياح من الطبيعة الفريدة. كما تناسى «المحاكون» في تجاربهم «المنقولة» ان فينسيا «الأصلية» اكتسبت مكانتها في خيال الناس عبر العالم من الفن الذي كانت هي موضوعه وعشرات بل مئات، من الأفلام التي صورت فيها. والأشعار والأغاني إذ لا يمكن أن ينسى أحد قصيدة «الجندول» للشاعر المصري علي محمود طه التي يتغنى فيها بالحب في هذه المدينة الساحرة، وقد غناها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في خمسينات القرن الماضي فأبرز فتنتها عيانا بيانا كما يقولون.