آسيا تنتزع اللقب من أميركا.. ودبي تهزم الجميع عام 2008

سباق عالمي لبناء ناطحات السحاب

TT

في الماضي، كانت المدن تعرف بأبراجها مثل برج إيفل في باريس وبرج بيزا المائل، ولكنها في العصر الحديث أضحت تعرف بناطحاتها. والبداية كانت في نيويورك حيث ظلت الناطحة «إمباير ستيت بلدينغ» تحمل اللقب العالمي لأعلى ناطحة سحاب في العالم لأكثر من اربعين عاما، ولكنها فقدت هذا اللقب لتايوان منذ عدة سنوات. والمعالم المرموقة للمدن لا تحمل بالضرورة ارقاما قياسية، فهناك مثلا فندق «برج العرب» الذي تعرف به دبي و«برج المملكة» الذي تعرف به الرياض وناطحة «بتروناس» المزدوجة التي تعرف بها مدينة كوالالمبور عاصمة ماليزيا، والتي فقدت لقبها منذ عدة سنوات.

وتقول وثائق لجنة «إمبوريس» القياسية التي تسجل كل مباني العالم التي تزيد في ارتفاعها عن 35 مترا، ان الولايات المتحدة التي ولدت فيها فكرة ناطحات السحاب، تقع الآن في المركز الثاني بعد آسيا، فالأرقام تقول ان المباني الشاهقة الارتفاع في آسيا بلغ عددها هذا العام اكثر من 36 ألف مبنى مقابل 26 الف مبنى مرتفع في الولايات المتحدة. ولا يمثل الولايات المتحدة الان سوى اربع ناطحات سحاب من بين أعلى 20 ناطحة سحاب في العالم. وبنيت الناطحات الاخرى جميعها في العشر سنوات الاخيرة.

وتتسابق مدن العالم، بعضها سرا والاخرى علنا، على بناء ناطحات السحاب وانتزاع لقب اعلى ناطحة سحاب في العالم. وهي ليست مشروعات موجهة نحو «البريستيج» كأبراج الماضي، وانما هي استثمارات نابعة من حاجة حقيقية ولمحة للمزيد من المساحات في المدن المكدسة التي لم يعد فيها مجال للتوسع الافقي فكان التوسع الرأسي هو البديل الواضح. كما انها من وجهة النظر العقارية تعتبر استثمارا ذا عوائد مكثفة نابعا من استغلال الارض الى الحد الاقصى.

وفي خلال عشر سنوات من الآن سوف تزداد الكثافة المعيشية في مدن العالم الرئيسية الى حوالي 65 من اجمالي التعداد. ويحتاج هذا العدد المتزايد ليس فقط لاماكن معيشية وانما مساحات لمكاتب العمل ايضا. وفي لندن، يقول بيتر وين ريس الذي يعمل في التخطيط المعماري، ان المدينة سوف تحتاج الى توفير مكاتب الى حوالي 100 الف شركة اضافية بحلول عام 2020، وهو يشير الى ندرة الاراضي المتاحة للبناء وسط العاصمة البريطانية. ويضيف ان الحل الوحيد هو الانطلاق بالعقارات لأعلى. وتعمل لندن الآن على تخطيط عشرات من ناطحات السحاب التي سوف تغير من أفق المدينة تماما خلال العقد المقبل.

ويبدو ان المنافسة بين المدن على تحقيق النجاح الاقتصادي تعبر عن نفسها الآن بعدد المنشآت عالية الارتفاع، وبتحقيق الارقام القياسية في الارتفاع. ويشعر بعض العاملين في مواقع مرتفعة عن الارض ان شركاتهم حققت الناجح الذي اوصلهم الى هذا المستوى المرتفع، وهو شعور يختلف عن هؤلاء الذين يعملون من مكاتب تقع بالقرب من سطح الارض. ويتحقق هذا الشعور بصفة خاصة في مجالات الاستثمار حيث ينظر رجال الاعمال من مكاتبهم الى المدن من مواقع عليا، كما ان الضوء يغمر هذه العقارات الشاهقة من كل ناحية، وينشر مناخا ايجابيا ومحفزا على العمل والإنجاز.

ويتفق مدير شركة المانية متخصصة في تصميم وبنائها ناطحات السحاب يدعى كريستوف انجهوفن مع التحليل القائل ان المستقبل هو لناطحات السحاب ويذكر العديد من العوامل منها الانفجار السكاني، خصوصا في آسيا، وندرة الاراضي في المدن والاعتماد على الاتصالات المكثفة داخل المدن. وهو يشعر ببعض الدهشة من سرعة بناء ناطحات السحاب في السنوات العشر الاخيرة، خصوصا في آسيا.

وفي مجال الارقام القياسية، فاجأت ماليزيا العالم عام 1999 بأنها استطاعت بناء أعلى ناطحة سحاب بارتفاع 452 مترا عن سطح الارض، لتنهي بذلك الاحتكار الاميركي. ولكنها ما لبثت ان فقدت اللقب بعد ذلك بخمس سنوات فقط حيث اعلنت تايوان انها سجلت ارتفاع 509 امتار في مبنى مركز تايبيه المالي المعروف باسم «تايبي 101». ومع ذلك لن يستمر رقم تايبيه القياسي طويلا حيث تستعد دبي لانتزاع اللقب في نهاية عام 2008 بناطحة السحاب العملاقة «برج دبي».

وفي دبي الآن، التي تعمل بها نسبة 20 في المائة من رافعات البناء في العالم، يتغير افق المدينة شهريا بالمزيد من العقارات الشاهقة بكل الاحجام والتصميمات. وكان من لمسات الذكاء ان احتفظت دبي بالارتفاع النهائي لـ«برج دبي» سرا حتى تحتفظ باللقب لأطول فترة ممكنة.

وما زالت دبي هي المدينة الاسرع نموا عمرانيا في العالم على الرغم من ان مساحتها لا تتخطى 4114 كيلومترا مربعا ولا يقطنها سوى 1.6 مليون نسمة. والى جانب برج دبي، يجري العمل ايضا على ناطحة سحاب عملاقة اخرى في دبي اسمها «البرج» ترتفع الى نحو 750 مترا وتكتمل عام 2010. وكان يمكن للبرج ان يحقق الرقم القياسي العالمي في الارتفاع إلا ان «برج دبي» سوف يكون قد اكتمل قبله، وحقق هذا اللقب بالفعل. ومن المعتقد ان برج دبي سوف يفوق حاجز 800 متر ارتفاعا. وهناك ثلاث ناطحات عملاقة اخرى في العالم يجري العمل على بنائها حاليا في موسكو وكوريا الجنوبية وشيكاغو. ولكن على الرغم من انها جميعا تتفوق على 600 متر ارتفاعا (وتزيد 90 مترا في الأقل عن «برج تايبيه» الحائز اللقب)، الا انها لن تحصل على اية القاب قياسية مع اكتمال «برج دبي».

وكما ظلت ناطحات سحاب اميركية مثل «إمبايرستيت» في نيويورك و«سيرز تاور» في شيكاغو معالم سياحية يصعدها الزوار في طوابير لا تنقطع يوميا، فان العقارات الجديدة اللافتة للنظر يمكنها ان تحول مسار المدن اقتصاديا نحو الافضل. ولعل مدينة مالمو السويدية هي افضل مثال على هذا، ففي الاصقاع الشمالية ارتفعت ناطحة السحاب «تورسو» متواضعة الارتفاع، حيث لا يتخطى ارتفاعها 190 مترا. ولكن تصميمها الغريب المكون من عدة مكعبات متراصة فوق بعضها البعض بزوايا مختلفة، جعلت منها محط الاعلام الاوروبي. وتحول المبنى الى معلم سياحي في السويد، خصوصا انه اعلى مبنى فيها. وبفضل هذا المبنى اصبحت مالمو مدينة سياحية وشجع هذا على بناء المزيد من الافكار المعمارية المبتكرة في مدن سويدية أخرى.

هذا النشاط المعماري الآسيوي والنجاح السويدي لفت انظار المدن الاوروبية الرئيسية ايضا مثل لندن وباريس وفيينا. ويجري الآن بناء 15 ناطحة سحاب في حي السيتي اللندني، كما تجري مشاريع مماثلة في حي لاديفانس الباريسي. من هذه العقارات الشاهقة مبنى لوفير على مشارف باريس، الذي يتخطى ارتفاعه 300 متر. وتخطط باريس لبناء 71 عقارا عملاقا يوفر مساحة مكاتب قدرها ثلاثة ملايين متر مربع.

وحتى المدينة التقليدية فيينا تشرع في بناء مركز مدينة جديد لها شرق نهر الدانوب يحتوي على ثماني ناطحات سحاب. ويجري الآن تنفيذ مشروع «برج دي سي» المزدوج الذي تصممه شركة فرنسية لكي يكون اعلى مبنى في فيينا بطول يصل الى 220 مترا ويكتمل عام 2010. وسوف يتخطى هذا البرج اعلى مبنى في فيينا الآن وهو «برج الالفية»، او «ميلنيوم»، بأكثر من 17 مترا.

وفي المانيا، يجري النقاش الجماعي دخل مجلس كل مدينة على حدة لكي تقرر ما تريده في مستقبل العقار فيها. وكان قرار مدينة ميونيخ ان وسط المدينة يجب ألا يحتوي على اي ناطحات سحاب وان اي مبنى في ميونيخ يجب ألا يزيد ارتفاعه عن 100 متر. وتجنح بعض المدن الاخرى لنهج مماثل بعيدا عن الناطحات، حيث اوقفت مدينة كولون مشروعا لبناء ناطحة سحاب في وسط المدينة بحجة انها سوف تحجب كاتدرائية المدينة عن الانظار. ولكن يبدو ان هامبورغ تعيد النظر في حظر الناطحات وتعمل الآن على ادارة مشاريع استشارية لدراسة اقامة ناطحة سحاب واحدة على الاقل في منطقة تعرف باسم ميدان شيكاغو.

ولا تتخلف موسكو عن الركب، كما لا تعتريها اي اعتبارات بيئية او جمالية في انشاء اعلى مبنى في اوروبا، وهو برج الفيدرالية الذي يصل ارتفاعه الى 340 مترا. ويشرف على المشروع معماري الماني يشعر ببعض الاحباط انه لا يستطيع ان ينفذ مشروعا مماثلا في بلاده. فكل المدن الالمانية العتيقة تعترض على ناطحات السحاب.

وفي بكين، يجري العمل على ناطحتي سحاب على شكل «L» تتصلان من القاعدة والقمة ويصل ارتفاعهما الى 234 مترا. ويكتمل هذا المشروع الذي يجري في هدوء، ربما لانه لا يحطم اي ارقام قياسية، عام 2008.

ومع ذلك، لا يبدو ان نموذج ناطحة السحاب يتمتع باجماع كبار المعماريين في العالم. ولعل أشهر هؤلاء؛ المعمارية العراقية زهى حديد الحاصلة على جائزة بريتزكر المعمارية التي تعادل جائزة نوبل في مجال العمارة الانشائية، فهي تقول ان نموذج ناطحات السحاب اصبح مستهلكا، وان البحث عن الجديد يجب عن يتركز على ما تسميه «ناطحات الارض» وليس ناطحات السحاب، وهي فكرة تعتمد على عقارات واسعة داخليا، وتوفر التفاعل الانساني بالعديد من الانشطة المتكاملة داخلها في مناخ يمنح المساحة الافقية التي لا توفرها ناطحات السحاب. وتشير مصادر عقارية الى ان حديد تنفذ فكرة من افكارها المعمارية الجديدة في دبي حاليا.

* الإرهاب لا يحد من طموحات ناطحات السحاب > هذه المشاريع التي تجري على قدم وساق في العديد من مدن العالم توحي بأن ارهاب الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) 2001 بدأ يتلاشى من الذاكرة الجماعية لمدن العالم. وانتهت على ما يبدو فترة الخوف والتردد التي اعقبت الحادث الارهابي، بفضل تطوير العديد من التقنيات المضادة للارهاب. فناطحات السحاب الحديثة يمكنها ان تصمد امام العديد من الهجمات الارهابية المتنوعة.

وفي تقرير عن نظرية المعمار الجديدة لمؤلفه البريطاني مايكل بولي، قال ان ناطحات السحاب الحديثة تعتبر في الواقع مأوى من حوادث الارهاب. فالحوائط تصنع فيها من الجبس بدلا من الطوب والاسمنت، بما يمنحها المزيد من المرونة ويجعلها تمتص الصدمات. كما توجد فيها العديد من المعالم المعمارية، التي يعتبر بعضها سريا، لحماية الهياكل من الانهيار والاساسات من الصدمات. واحدة من الافكار المطبقة تعتمد على فكرة جيوب هوائية، واخرى توفر ارضيات مزدوجة لكل الطوابق بحيث تتحمل الارضية الثانية سقوط الارضية التي فوقها وهكذا.

ويساهم التصميم ايضا في منح الناطحات مناعة وقوة هيكلية تختلف عن اسلوب بناء برجي التجارة في نيويورك. بالاضافة الى اجراءات الامن المعزز بوجه عام بحيث تجعل تكرار حادث نيويورك في مدينة غربية غير محتمل حتى لو بلغ الامر اضطرار السلطات إلى إسقاط الطائرة عمدا بمن فيها قبل ان تتسبب في كارثة ارهابية اخرى.