لندن تكشف عن أحد أسرارها العقارية عبر خطة لإنعاش الأنهر والقنوات المائية

من قبل بلدية المدينة

TT

اشتهرت العاصمة البريطانية لندن بعقاراتها الغالية والفاخرة وإقبال المشترين عليها من كل بقاع العالم. غير أن أحد أسرار المدينة الذي لم يثر الاهتمام إلا أخيرا هو أنها ملئية بالأنهر والقنوات المائية الطبيعية والصناعية بحيث أصبح مستثمرو العقارات يتسابقون على المساكن المطلة على هذه الأنهر والقنوات. وكان حب البريطانيين للمساكن المطلة على نهر التيمز، النهر الرئيسي الذي تقوم على ضفتيه المدينة، واضحاً منذ قرون. لكن المواقع الجذابة على النهر سُكنت منذ عقود بعيدة وبقي أصحابها فيها يتوارثونها جيلا بعد جيل. وفي هذه الأثناء فإن بقية المواقع النائية من النهر وفروعه الصغيرة المتعددة، فضلاً عن القنوات المائية الطبيعية والاصطناعية، بقيت جميعها مهملة مما قلل من جاذبيتها وأبعد المستثمرين عنها. لكن الجديد الآن هو أن عمدة بلدية لندن قرر إعادة تأهيل وتحديث عدد ضخم من القنوات المائية ـ الطبيعية والاصطناعية ـ بعدما كان عددٌ كبير منها مهملاً وتحيط به إما ميادين خالية تحولت إلى مجمع للأوساخ والنفايات أو تحيط به مساكن بائسة ومخازن للمصانع. ورغم أن المدينة اشتهرت عبر التاريخ باهتمامها بالحدائق العامة والتشجير، إلا أنها لم تول نفس قدر الاهتمام للأنهر والقنوات المائية. ويبدو أنها تعتزم الآن تعويض ما فاتها. وربما كان الهدف الرئيسي من تعمير الأنهر والقنوات المائية إدخالها كسبل للمواصلات بغرض تخفيف الضائقة على شوارع المدينة. غير أن سوق العقارات انتهز الفرصة ورأى فيها استثماراً كبيراً.

وبالطبع، فقد انعكس هذا الاهتمام على سوق العقارات قبل غيره من الأسواق. وسجلت الوكالات العقارية اقبالاً واضحاً من المشترين والمستثمرين الذين يطلبون مسكناً مطلاً على أحد هذه الأنهر أو القنوات رغم معرفتهم أن أسعارها ستكون أعلى من غيرها. فالمسكن المطل على منظر مائي في لندن يضرب، بالنسبة للمشترين، عصفورين بحجر واحد: السكن في مدينة كبيرة ومثيرة وفي الوقت ذاته الإطلالة على منظر مائي. كما أن الاطلال على الماء يضمن للساكنين عدم قيام مبان جديد في الواجهة تحجب عنهم الشمس والهواء.

وعلى سبيل المثال فإن مكتب السمسرة العقارية «وينكورث» عرض منزلاً فاخراً للبيع في منطقة «إزلينغتون» بشمال لندن يطل على قناة «ريجنت» الجميلة بمبلغ 1.5 مليون دولار. ويحتوي المنزل على ثلاث غرف نوم وحمامين وحديقة على السطح تطل على القناة مباشرة وحوض للسباحة. وكان سعره قبل 3 سنوات فقط يبلغ نحو مليون دولار، ما يعني أنه ارتفع في قيمته بنصف مليون دولار خلال فترة وجيزة. غير أن هذا الارتفاع لا يعكس معدل ارتفاع العقارات في لندن بشكل عام، بل يعكس فقط الإقبال الجديد على أنهر وقنوات لندن المائية المستصلحة.

وأكد مات تشابيل من وكالة «وينكورث» أن الاقبال على العقارات المطلة على الماء لم يكن في تاريخ لندن الحديث بهذا المستوى الذي هو عليه الآن. وأضاف أن عدداً كبيراً من العمارات والبنايات الجديدة راحت تقوم على الأراضي التي كانت مهملة حول الأنهر والقنوات المائية الصناعية، بل إنها تُباع أحيانا قبل أن يكتمل بناؤها. وأشار تشابيل إلى أن السكن قرب الأنهر يوفر ميزة اضافية هي توفير سبيل جديد للمواصلات عبر استخدام القوارب النهرية (أو ما يُعرف في بعض البلدان بالتاكسي النهري). وفي مدينة مكتظة بالسكان والسيارات مثل لندن تصبح هذه الميزة ذات أهمية كبيرة، فضلاً عن الاستمتاع بالمنظر المائي. كما من المزايا الأخرى أن النهر يوفر طريقاً للمشاة بمحاذاة الضفة تقوم بتعبيده البلدية، ما يوفر متنزهاً لهواة المشي أو رياضة الركض.

وخلال عقد التسعينات تحدث سوق العقارات كثيراً عن الجزء الشرقي لنهر التيمز حيث يلتقي النهر مع المحيط، وحيث قامت أشهر وأعلى ناطحات السحاب في بريطانيا «كناري وورف» واصبحت مقراً مالياً مهماً. غير أن سماسرة العقارات في لندن يقولون إن الجزء الغربي من النهر بدأ الآن يجذب اهتماماً كبيراً، خصوصاً أنه يقع أصلاً في النصف الثري من المدينة مقارنة بنصفها الشرقي. ففي غرب المدينة هناك فرعٌ صغير من نهر التيمز يمتد بين منطقتي «هامرسميث» و«تشيزيك» حيث قامت مجمعات سكنية فاخرة لا تستطيع الدخول إليها الا عبر بوابات تعمل بالـ«ريموت كنترول» كما أن ملاّك الشقق في هذا المجمع لهم مدخل خاص قبالة النهر لا يستطيع المارة العاديون استخدامه. وتفصل البنايات عن النهر حدائق جميلة يمر عبرها طريق المشاة المحاط بأحواض الزهور. ويبلغ سعر الشقة ذات الغرفة الواحدة نحو نصف مليون دولار، بينما تصل الشقة من غرفتين إلى 800 ألف دولار.

وإذا اتجهت مزيداً نحو الغرب فهناك نهر برنت، وهو أحد فروع نهر التيمز، وبالقرب منه هناك أيضاً قناة «غراند يونيون» بحيث أصبحت هذه المنطقة جاذبة لكثير من المستثمرين. وعلى سبيل المثال تعرض وكالة «كينلي فوكارد آند هايوود» فيلا صغيرة من غرفتي نوم وحوض للسباحة وحديقة مطلة على نهر برنت.. بمليون دولار. لكن الفيلا تتمتع أيضاً بما يُعرف في بريطانيا بـ«الحق الحصري لصيد السمك» في الجزء من النهر الذي يمر أمام عقارك. وهذا يعني أن كل هواة صيد السمك (وهم كُثر في بريطانيا) سيدفعون لك رسوماً مالية اذا ارادوا استخدام شريحة النهر المقابلة لعقارك.

وهناك أيضاً الأنهر والقنوات المائية الأقل شهرة، مثل نهر ليا في شرق لندن حيث يعتقد بعض سماسرة العقارات أنه من الأسرار التي لم تُكتشف بعد في لندن. فهو نهر يمر بحدائق عامة هادئة ومناخ عام يشبه الماخ الريفي. وتشتهر البنايات القليلة التي حوله بأنها تحتوي على شقق واسعة تصل مساحتها إلى ألف قدم مربع، وبلكونات تطل على النهر. على صعيد آخر، ومن شدة اليأس الذي أصاب الجزء الأفقر من سكان المدينة فقد قرر نحو 15 الف شخص العيش في قوارب أو يخوت يتم تحويلها الى مساكن لكي تصبح «عوامات» ترسي عند شواطئ أحد أنهر بريطانيا العديدة. ويقول أحد هؤلاء، كريغ لويد، البالغ من العمر 26 عاما ويعمل مهندسا للكومبيوتر، إنه وزوجته الممرضة قررا أن من الأفضل أن ينفقا مبلغ العشرين الف جنيه الذي كان بحوزتهم في شراء هذه العوامة بدلا من أن يدفعانه عربوناَ لمنزل يكلف 100 الف ولا يزيد حجمه عن حجم القارب الذي يسكناه. واضاف ان «القارب يُعتبر عنوانا رسميا في بريطانيا طالما كان مسجلاً لدى المجلس المحلي، لذا فإنك تتلقى البريد اليومي بشكل طبيعي، بل تتلقى أيضا الحليب والخبز اللذين يتم توصيلهما الى باب منزلنا كل صباح مثل بقية المنازل المجاورة. وبالطبع هناك خدمات الكهرباء والهاتف، أما غاز التدفئة والطهي فنجلبه في أنابيب مضغوطة». ويعتقد لويد وزوجته أن هذه الظاهرة ستتسع بسرعة بين الأجيال القادمة التي ستبدأ التفكير في البدائل مثل المنازل الجاهزة أو السكن في عوامات. واشار الى أن دفع 50 جنيها استرلينيا كايجار شهري لهيئة المياه والأنهر لا تسوى شيئا بالمقارنة مع سعر الأرض التي يشتريها الشخص ليبني منزلا فوقها. وأشار الى أن الارتفاع الكبير في سعر عقارات بريطانيا، وربما معظم عقارات العالم، يأتي اساسا بسبب قيمة الأرض وموقعها، وليس بنفس القدر قيمة بناء المنزل نفسه. ولكن هذا أمرٌ طبيعي وبديهي، فإن أردت السكن منعزلا في وسط الغابة أو الصحراء أو فوق جبل فلن يكلفك المنزل أكثر من سعر بنائه.

ولأن المثل يقول «إن المضطر يتحمل الصعاب» ومن هذا المنطلق راح بعض الباحثين عن سكن في بريطانيا بميزانيات محدودة، يبحثون عن مواقع ومبان مهجورة ليحوّلونها بقدراتهم الذاتية الى منازل تصلح للسكن. وعلى سبيل المثال اشترى شخص في المزاد العام محطة قطار قديمة غير مستخدمة في شمال مقاطعة يوركشير بـ 72 ألف جنيه أسترليني. ثم مكث ثلاث سنوات يعمل مع أصدقائه وعائلته على تعديل المحطة وتحويلها الى مسكن له. وبعد أن سكن في المنزل عامين قرر بيعه بأكثر من 415 ألف جنيه. لكن الأمر المهم في تحويل طبيعة المباني في بريطانيا هو الحصول مسبقاً على إذن من السلطات الهندسية المحلية (مثل هيئة تخطيط المدن) بتحويل المبنى من استخدام عام الى سكن خاص، أو من أرض زراعية الى أرض سكنية. فالحصول على هذا التصريح في حد ذاته يغير سعر العقار كثيرا.