جاذبية بيروت العقارية تطغى على متاعبها السياسية

مع زيادة الاهتمام الأجنبي والدولي بها

بيروت أثناء الغارات الاسرائلية في حرب الصيف الماضي ("الشرق الاوسط")
TT

بدأت مؤشرات اهتمام اجنبي بعقارات بيروت من شركات ومستثمرين دوليين، على رغم متاعبها السياسية المتعددة. وتمهد شركات عقارية لدخول السوق عن طريق تحديد المواقع المناسبة للاستثمار وشراء الاراضي او العقارات القديمة او المدمرة لانشاء مشاريع حديثة مكانها على غرار "سوليدير".

وربما كانت هذه التحركات هي التي اثارت مخاوف بعض الجهات اللبنانية الامر الذي دفع وزارة المال هذا الاسبوع الى التأكيد بأن موجة بيع العقارات للاجانب ما زالت دون الحدود المسموح بها قانونيا بهوامش كبيرة، وانها عملية مضبوطة قانونا ومراقبة اداريا. وكانت وسائل اعلامية لبنانية قد ذكرت ان مليوني متر مربع بيعت لاجانب خلال الستة اشهرالاخيرة، لكن بيان الوزارة اوضح ان مجموع ما بيع لا يتخطى 475 الف متر مربع فقط.

ويسمح القانون اللبناني بنسبة قصوى من بيع العقارات للاجانب لا تتخطى ثلاثة في المائة، باستثناء بيروت التي يمكن بيع 10 في المائة منها للاجانب لاسباب اقتصادية، لكن نسبة البيع للاجانب بشكل عام في لبنان لا تكاد تتخطى حاليا نسبة واحد في الالف. وتشير الاحصاءات الى ان نسبة المبيعات في عهد الحكومة الحالية لا يتخطى ربع الواحد في الالف او (0.025 في المائة) من مساحة لبنان. وكانت اكثر نسبة من المبيعات تقع في بيروت.

ويعيد هذا الوضع الى الذاكرة وضع بيروت قبل اقل من عامين، حيث شهدت في ربيع العام الماضي خطوات مشابهة لما يجري حاليا، لكن حرب الصيف، او "حرب تموز" كما تسمى لبنانيا، قضت على الطموحات العقارية والتجارية ايضا. فمن ناحية انهار الموسم السياحي واعلنت الكثير من الشركات الصغيرة افلاسها. وعانى اصحاب المشاريع الصغيرة من مطاعم وكافتيريات ونشاطات متعلقة بالسياحة من متاعب جمة بسبب الركود وعمليات النزوح وهروب السياح.

وتأثر المجال العقاري اكثر من اي مجال آخر من حرب الصيف الماضي. وبخلاف الدمار الذي الحقته الغارات الاسرائيلية المكثفة بجنوب لبنان وبعض احياء بيروت، خصوصا الضاحية الجنوبية، هجر بيروت معظم سكانها والمقيمين فيها كما غادرها الاجانب وتوقف نشاط الكثير من الشركات اللبنانية والاجنبية. وتراجع بالتالي الاقبال الايجاري على عقارات بيروت التي بقي معظمها شاغرا.

وزاد موقف اصحاب العقار سوءا نزوح عشرات الآلاف من الجنوب باتجاه بيروت، واحتل بعض هؤلاء العقارات الشاغرة والقديمة والمهدمة كملجأ واق لهم من القصف ومن العراء. واستغرق الامر شهورا طويلة حتى عاد هؤلاء الى قراهم ومناطقهم التي تركوها اثناء الحرب. وتوقفت كذلك بعض المشروعات المعمارية الكبرى مثل مشروع شركة داماك لاقامة برج سياحي اسمه "لا ريزدنس"، ومنذ يوليو (تموز) العام الماضي تقول مصادر الشركة ان المشروع مجمد الى حين اشعار آخر.

أسباب التراجع: ولم تعد بيروت الى ما كانت عليه في ربيع العام الماضي لعدة اسباب منها ان عام 2006 كان قمة مرحلة طويلة من الاستقرار بعد نهاية الحرب الاهلية في عام 1990، لم يعكر صفوها سوى حادث اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وعدد من الشخصيات العامة اللبنانية بعده، والتي بدأت معه متاعب لبنان السياسية بين الفرقاء السياسيين فيه. من الاسباب ايضا ان وسط بيروت ما زال يعاني من عملية اعتصام تهدف الى اسقاط الحكومة من الشارع، وهو اعتصام يكشف عمق الانشقاق السياسي الحاصل ويظهر جليا حتى للزائر العابر لبيروت لكي يذكره ان الاستقرار ما زال مفقودا.

ومع ذلك تعتبر بعض جهات الاستثمار العقاري ان الوقت الحاضر هو التوقيت المناسب للشراء والاستثمار في بيروت على امل ان ينعكس الحل السياسي، عندما يتحقق، في ذروة غير مسبوقة للاسعار. وحتى اذا لم يتحقق الاستقرار، فإن الطلب المحلي والمغترب والاجنبي ما زال مرتفعا وتعكسه قوة الاسعار حاليا حتى مع حال بيروت المضطربة. وهنا تبدو اهمية اختيار موقع الاستثمار بدقة لتحقيق الارباح في كافة الظروف.

ويتركز لهذا السبب معظم الاهتمام العقاري الاجنبي في بيروت في الاحياء المختلطة بعيدا عن الاحياء الشرقية المسيحية والضاحية الجنوبية الشيعية. ويبتعد الاهتمام ايضا عن مناطق الاحتكار المحلي مثل مناطق مركز بيروت التي تحتكرها "سوليدير"، ومناطق الكورنيش باهظة الثمن. ويتوجه الاهتمام في مناطق مركز المدينة وعقارات "سوليدير" الى المستثمرين الخليجيين الذين يفضلون هذه المناطق ويتحملون التكاليف الباهظة فيها. وينظر اللبنانيون الى مناطق "سوليدير" على انها معقمة بلا شخصية ولا روح شعبية كما انها باهظة الكلفة. وتتراوح الاسعار في مناطق "سوليدير" في المتوسط بين 3 و 7 الآف دولار للمتر المربع الواحد. وتصل ايجارات المنافذ التجارية الى معدلات لا تستطيعها الا الشركات العالمية ذات الفروع اللبنانية. وما زال العديد من هذه المنافذ شاغرا بلا مستأجرين، وهي شاغرة حتى من قبل اعتصام المعارضة في الشوارع. وتدفع احداث بيروت بعض الاعمال الصغيرة الى الانتقال الى مواقع ابعد من المركز، واحيانا الى خارج بيروت كلها.

الاهتمام الأجنبي: اما الاهتمام الاجنبي والمغترب فهو ينحصر حاليا في مناطق مجاورة مثل منطقة كليمنصو التي تعتبر من المناطق الواعدة حاليا. وهي تقع بمحاذاة الجامعة الاميركية ومدرسة الدراسات العليا الفرنسية ومستشفى طراد. كما يقع في قلبها مركز كليمنصو الطبي الذي رفع اسعار العقار المحيطة به عند افتتاحه بحوالي 30 في المائة. وهي منطقة سكنية هادئة نسبيا تخلو من الاندية الليلية الصاخبة، ولكنها ما زالت تعاني من الكساد، حيث معظم المنافذ التجارية فيها خاوية، كذلك العقارات التي ما زال بعضها يحمل آثار الحرب الاخيرة وبعضها الآخر عليه اثار تعود الى الحرب الاهلية بين 1975 و1990. ولكن افضل معالم المنطقة انها مختلطة ويسكنها كل اللبنانيين من الجيل الجديد بمختلف طوائفهم من الذين يعملون في مهن محترفة ويستأجرون العقارات في المنطقة للاقامة فيها. ويأمل مستثمرو العقار ان يعيد المستقبل الى بيروت رونقها لكي تعود "باريس الشرق" كما كانت في ستينات واوائل سبعينات القرن الماضي. ويركز مستثمرو العقار على المناطق المختلطة لمعرفتهم جيدا ان قوة بيروت، وبوجه عام قوة لبنان ايضا، تكمن في تنوعها العرقي والثقافي والديني والتراثي. فهذه هي الخلطة السحرية التي شكلت بيروت في الماضي وجعلتها نقطة جذب للمثقفين والزوار والاجانب من كل حدب وصوب. والمناطق المختلطة يصفها بعض الاجانب الزائرين بأنها المناطق الوحيدة التي لا تشبه "الغيتو" في انحاء بيروت.

ويجذب الماضي ايضا بعض المستثمرين الذين يكتشفون معالم ازدهار مندثر في تصميم العقارات القديمة، كما تجذب هذه الملامح ايضا العديد من المغتربين اللبنانيين الذين يستعيدون ذكريات الماضي في سكن وشراء عقارات الامس. ولكن ضغوط الارباح تدفع في معظم الاحوال الى هدم القديم، مهما كانت قيمته التراثية لبناء ناطحات سحاب او عقارات حديثة مكعبة الشكل تهدف الى تحقيق افضل قيمة ارباح سوقية لها. وهناك نماذج لبعض العقارات السوبر في مناطق ساحلية في بيروت بدأ الانشاء فيها قبل عامين باسعار لا تقل عن مليون دولار للشقة الواحدة. وهي توشك حاليا على الانتهاء ولكن بعضها يعرض للبيع بسعر مليون ونصف المليون دولار. وهذا مؤشر الى ما يمكن ان يحققه القطاع العقاري في بيروت حتى في الظروف الحالية.

لكن، الاسعار تبدو اكثر اغراء في مناطق مثل كليمنصو التي ما زال سعر المتر فيها يتراوح بين 1800 الى 2500 دولار. وكانت المنطقة من اكثر مناطق بيروت تعرضا للقصف اثناء "حرب الفنادق" في السبعينات حينما كان القناصة يتخذون من الفنادق مواقع لهم. وما زال فندق هوليداي ان، او بالاحرى ما تبقى منه من هيكل مرصع بآثار طلقات المدافع والقذائف، شاهدا على شراسة الحرب الاهلية. ويقع الفندق في شمال منطقة كليمنصو التي كانت خط التماس في الحرب الاهلية.

وبعد فترة التحسن الاخيرة جاءت حرب الصيف الاخير، لكي تعيد الاسواق الى ما كانت عليه منذ سنوات. ولكن معدلات الاسعار لم تهبط كثيرا وسرعان ما استعادت توازنها بعد شهور من نهاية الحرب، لكن بلا زيادات ملحوظة في العام الاخير. وانحصر الطلب في العام الاخير على المغتربين وصغار المشترين المحترفين من اللبنانيين. كما ساهم في استقرار الاسعار ايضا ان ملاك العقارات التاريخية والفلل العريقة يرفضون البيع رغم الاغراءات المالية التي تقدم لهم من شركات التطوير العقاري التي ترغب في بناء ناطحات سكنية مكانها. لكن هذه الممانعة قد لا تطول، خصوصا وان ايجارات بعض هذه العقارات لا تغطي تكاليف صيانتها، ولا بد لبيروت كي تحافظ على طابعها ان تبقى هذه العقارات التاريخية مصانة بالقانون، لكن في عصر لا يصان فيه الانسان، سوف يكون من الصعب المطالبة بصيانة العقار.

وقد تكون موجة الاقبال العقاري الاجنبي على بيروت مغامرة غير محسوبة، خصوصا في حالة تأزم الموقف سياسيا او عسكريا، لكن شركات تطوير العقار والمستثمرين الاجانب يعرفون ان قيمة عقارات بيروت سوف تبقى فيها وتزيد مهما كانت المتاعب السياسية في المستقبل.

وزارة المال اللبنانية تؤكد أن لبنان لا يباع للأجانب

* اصدرت وزارة المال اللبنانية بيانا هذا الاسبوع لتوضيح وضع ملكية الاجانب العقارية في لبنان بعد انتشار شائعات غير صحيحة بأن ملايين الامتار المربعة بيعت في الفترة الاخيرة لمستثمرين اجانب. وقالت الوزارة ان العملية مضبوطة قانونا ومراقبة اداريا. واضافت ان نسبة الملكية الاجنبية في لبنان ما زالت 0.106 في المائة، وهي ادنى بكثير من نسبة الثلاثة في المائة المسموح بها قانونا.

وخلال النصف الاول من العام الجاري تم بيع مساحة 475 الف متر مربع في لبنان لاجانب، وليس مليوني متر مربع كما ذكرت وسائل اعلام محلية. وبلغ اجمالي ما يملكه اجانب في لبنان حتى نهاية شهر يوليو (تموز) عام 2005 حوالي ثمانية ملايين و421 مترا مربعا، وهي كلها عمليات بيع عقاري جرت قبل عهد الحكومة الحالية. واوردت وسائل الاعلام – خطأ – رقم مبيعات العامين الاخيرين على انها جرت خلال الستة اشهر الاخيرة، مما اقتضى من وزارة المال توضيح الموقف.

واشارت الوزارة الى تعديل قانوني تم في عام 2001 لتشديد ضوابط بيع الاراضي لغير اللبنانيين بحيث جرى تخفيض نسبة التملك في كل محافظة من خمسة في المائة الى ثلاثة في المائة. هذا باستثناء محافظة بيروت التي اصبحت نسبة تملك الاجانب فيها 10 في المائة لاسباب اقتصادية وسياحية واستثمارية. واشترط القانون الا تتعدى المساحة الاجمالية المباعة لغير اللبنانيين بصفة عامة نسبة 3 في المائة، كما جرى خفض المساحة المسموح بتملكها من دون ترخيص من مجلس الوزراء من 5 الآف الى 3 الآف متر مربع في كل الاراضي اللبنانية، للشخص الطبيعي او المعنوي غير اللبناني. وجعل القانون عمليات ملكية الاجانب لاراض لبنانية شفافة وعلنية من دون تحفظ، بما في ذلك تملك اسهم في شركات عقارية.

ويعني هذا البيان ان الاقبال الاجنبي في الواقع هو دون المسموح به قانونا بهوامش كبيرة، وان بلوغ هذه النسبة غير وارد في المدى المنظور نظرا للظروف الامنية والسياسية التي يمر بها لبنان. وهو يعبر من ناحية اخرى عن حساسية الوضع السياسي، حيث يمكن لاي قضية عادية، مثل قضية تملك اجانب لعقارات واراض، ان تتحول لاداة ضغط وتشهير سياسي. وفي وضع لبنان الحالي يمكن القول ان الاجنبي الذي يستثمر في مستقبله العقاري يعبر عن درجة ثقة يفتقدها بعض اللبنانيين انفسهم، ويجب ان يقابل بالشكر والحفاوة وليس بالتشكيك.