التصميم الجيد يحافظ على القيمة.. والأسعار الباهظة لم تعد تخدم المستثمرين

قناعات جديدة تتأسس في سوق العقار

المدن الغربية بدات الاهتمام باللمسات المعمارية التي ورثتها وتم نسيانها («الشرق الاوسط»)
TT

تتبلور بعض التغيرات الجوهرية في اسواق العقار هذه الايام، إذ ان موجة الانتعاش العقاري انتهت وبدأت موجة التصحيح. ولكن اسعار العقار لا تزال باهظة، ولا يزال الطلب يفوق العرض في بعض القطاعات. الحكومات تحاول اقناع صناعة العقار بتلبية الطلب، لكن الصناعة تهدف الى الربح بطريقتها ولا يهمها تلبية طلب فئات دون المستوى الذي تتوجه اليه بعقارها. والنتيجة هي خلل في السوق اقنع بعض مراقبيه بضرورة اعادة النظر في قناعات سوق العقار.

لم تعد اسعار العقار الخيالية ترضي اطراف السوق، ولا حتى مالكي العقار انفسهم. فالعقار استثمار من نوع خاص يقيم فيه المستثمر احيانا طوال حياته ولا يستفيد من ارتفاع ثمنه لانه مضطر الى السكن فيه. كما انه يخشى في العادة ان تنعكس احوال السوق على الجيل التالي فلا يستطيع بحال ان يدخل اسواق العقار مشتريا الا بدعم هائل من الوالدين.

الاحوال الآن في بدايات القرن 21 تشبه الى حد بعيد ما كان عليه الوضع في ستينات القرن الماضي عندما تدخل العديد من الحكومات لحل ازمة الاسكان الناتجة عن زيادة التعداد. ولكن الحلول الحكومية لم تفلح في الكثير من الاحوال ونتج عنها مساكن شعبية او مساكن جاهزة التصنيع، لا يرغب في السكن بها احد الا اضطرارا، وليست لها قيمة عقارية على المدى البعيد، ولا تصلح بعد خمسين عاما على انشائها الا الى تسويتها بالارض واعادة بنائها من جديد.

من ناحية اخرى تحاول شركات العقار ان تقدم الحلول التي تروق لها وليس الحلول التي تلائم المستهلك، فهي تبني عقارات مكعبة للمعيشة داخل مساحات محدودة باسعار باهظة. وتنتشر هذه المجمعات السكنية ذات الشقق صغيرة الحجم في العديد من المدن الى درجة ان بعضها يحتاج الى تسويق مكثف ومغريات متعددة حتى تتمكن شركات العقار من بيعها. وتعرف معظم شركات العقار ان الشقق الضيقة لن تغري احدا على الاقامة فيها، خصوصا بهذه الاسعار، ولذلك فهي تسوقها على اساس انها عقارات "استثمارية" للتأجير، وتزيد بأنها تضمن للمشتري عوائد او سنة او سنتين، بنسبة مئوية من ثمن الشراء. ولم يعد هذا الاسلوب مغريا للمستثمرين، لانه يثير التساؤل عما اذا كانت الحوافز الايجارية محسوبة ضمن الثمن الاصلي، وعما اذا كان من الممكن الحفاظ عليها في المدى المنظور بعد فترة السماح. وماذا عن اعادة بيع العقار في المستقبل والبائع في هذه الحالة لا يملك ان يقدم للمشتري الثاني اي ضمانات ايجارية.

وفي الحالة البريطانية بدأت بالفعل بعض الشركات الصغيرة تتحرك في اتجاه مغاير للسوق لكي تبحث عن حلول جديدة، اي منازل وعقارات يرغب فيها المستثمر للسكن او الاستثمار، من دون ان تكون تكلفة البناء باهظة بالضرورة.

هذه الشركات بدأت تهتم بأمور كانت تغفلها صناعة العقار من قبل وهي ضرورة التصميم الجيد ومراعاة نسبة الضوء وابعاد الغرف المعيشية واختيار مواد البناء بدقة. وهناك العديد من خبراء العقار ورجال الاعلام المتخصصين الذين يطالبون بحلول جديدة لازمة العقار المركبة. وقال بعضهم انه اكتشف ان شركات العقار الكبرى لا تكلف نفسها عناء استخدام مهندسي التصميم المعماري، لانها تقتصد في التكاليف. وبعضها يوكل المهمة الى المقاول لكي ينجز مشروعات مكررة ومطابقة لمشروعات سبق وقام بها، سواء كانت هذه المشروعات قد اعجبت المشترين ام لم تعجبهم.

وهناك بعض الشركات الكبرى التي تقدم للمشتري مجموعة من الاختيارات المحدودة التي تلتزم بها في البناء ولا تحيد عنها، وهي تهدف ايضا الى خفض التكاليف والغاء دور المهندس المعماري.

بعض الشركات التي تنفذ مشروعات عقار متوسطة بتصميمات تقليدية وجدت ان استخدام مهندسي عقار يرفع الطلب الى الضعف ويعوض بأرباح اكثر من تكاليف استخدام المهندسين. ولا تزيد تكاليف مكاتب الهندسة في المتوسط عن مائة الف دولار في مشروعات يبلغ حجمها حوالي المليوني دولار، وهي نسبة تكاليف يمكن تعويضها بسهولة كما ان آثارها الجيدة تدوم مع العقار.

احدى هذه الشركات استخدمت فريقا معماريا لتصميم وحدات عقارية متكاملة في قرية بريطانية واكتشفت ان اساليب البناء الجديدة التي اقترحتها الشركة وفرت بالفعل في تكلفة البناء. كما قدمت شركة اخرى تصميمات جذابة في قطاع شعبي زادت من خلالها على جمال العقار وجاذبيته مع الحفاظ على التكاليف بلا تغيير. ولكن الفرص المتاحة في المجال العقاري لا ترقى الى حجم الخبرة الموجودة في السوق، ولا تقدم ما يكفي من فرص التصميم العقاري.

ومن وجهة نظر مهندسي العقار هناك ازمة مستحكمة في سوق العقار لان كبار النجوم من المعماريين يخوضون فيما بينهم سباقا ضاريا حول انجاز "ايقونات" عقارية تخلد ذكراهم. فمن ناطحات السحاب الى التصميمات المبتكرة التي تسحر الالباب، يستمر الصراع الى الجوائز والالقاب من دون ان يكون التأثير شاملا على السوق او مؤثرا فيها. من ناحية اخرى، يحتار مهندسو العقار بين شركات تغفلهم بالمرة وبين كبار الاسماء، من بينهم الذين يسعون نحو الشهرة وليس نحو التصميم العملي الجيد. ويقول احد هؤلاء وهو مهندس بريطاني حديث التخرج انه يريد تصميم منازل جيدة من الطراز التقليدي الذي يقبل عليه الناس ويشترونه لقيمته. وهي المنازل المستقلة التي تحتوي على حديقة صغيرة وثلاث او اربع غرف ذات مساحات جيدة ولمسات تصميم لتوفير الطاقة والاستمتاع بضوء الشمس وادخال المكونات الحديثة من مواد بناء وتجهيزات حديثة. ولكنه لا يجد فرصة لاثبات مهاراته لان الشركات تستخدمه احيانا لتنفيذ افكار محددة سلفا وتهدف في معظم الاحوال الى توفير المساحة، او لاعداد رسوم لا تتقيد بها الشركات بعد الحصول على تراخيص البناء.

ويرغب معظم مهندسي العقار في دخول مجال التصميم العقاري للمنازل العادية التي تقع في القطاع الشعبي، وليس بالضرورة في قطاع النخبة اوالعقارات الفاخرة. وهم يرغبون في اجراء ابحاثهم بأنفسهم وذلك بسؤال عينة من المشترين في القطاع عن اللمسات التصميمية التي يفضلونها في المنازل، وعبر تقديم حلول عصرية لمشاكل قديمة مثل اعادة تدوير المياه والنفايات وتخصيص مساحات للعب الاطفال وبوابات لتأمين العقارات من دون ان تحجب الرؤية.

هذا الوضع يتكرر عربيا وينتج عنه فجوة ملحوظة بين عشرات المشاريع السوبر الفاخرة التي تقدم للنخبة احدث تقنيات البناء ويتنافس مصمموها فيما بينهم على تقديم معالم جذابة للمدن العصرية، وبين آلاف الوحدات العقارية التي لا تستفيد من خدمات التصميم العقاري بالمرة خفضا للتكاليف او لان المقاول يبحث عن هوامش ربح اعلى بتنفيذ تصميم واحد وتكراره عشرات المرات.

ومأساة هذه الازمة انها تنعكس على بيئة مشوهة مليئة بعقارات بليدة وبلا شخصية تعيش معنا في المدن العربية لعدة اجيال قبل التخلص منها. وقد يكون الحل باشتراط معايير معينة للعقارات الجديدة من بينها العامل الجمالي، وفقا لتقييم لجنة خبراء من مهندسي العقار، قبل اصدار تراخيص البناء، والتأكد من التزام شركات العقار بالتصميمات التي حصلت من خلالها على التراخيص.

* المعهد الملكي لمهندسي العقار: الحفاظ

* على البيئة هو التحدي الجديد

* عقد المعهد الملكي لمهندسي العقار هذا الاسبوع مؤتمرا في مقره في لندن عن صناعة العقار في المستقبل، قال فيها عدد من الخبراء إن الامور التي تشغل الصناعة الآن هي الحفاظ على البيئة وتقديم تصميمات ترضي المستهلك وتلقى الاقبال الشعبي عليها.

وقالت مهندسة العقار شارلوت هاريسون: ان شركتها تقوم بجهود لاستخدام مواد جديدة من مصادر متجددة في البناء وانها تنصح عملاءها بضرورة مراعاة البيئة، لأن هذا التوجه من شأنه ان يخفض تكاليف استهلاك الطاقة من ناحية وان يزيد من قيمة العقار من ناحية اخرى، خصوصا ان مبيعات العقارات البريطانية يحتاج الآن الى شهادات بيئية لكمية استهلاك الطاقة. وقدم محامون توصيات بشأن التعاقدات وضرورة اتاحة الوقت الكافي للمهندس المعماري لإكمال التعاقدات حتى لا تقع حوادث التأخير في التنفيذ.

وقدم العقاري مارك ايلتون توصيات بشأن تجديد العقار كبديل افضل من هدم العقار واعادة بنائه. وقال إن اساليب الصناعة الحديثة تجعل من عمليات تجديد العقار افضل للبيئة من حيث انبعاث الغازات الضارة. كما عرض عدد من المعماريين نماذج لعقارات لا تفرز اي عوادم ضارة بالبيئة (Zero Emission) تستخدم تقنيات نظيفة ومصادر طاقة متجددة.

ويقول رئيس المعهد "سوناند باساد": إن المعهد يقدم خدمات لأعضاء يبلغ عددهم 40.500 مهندس ومهندسة معمارية حول العالم منها التدريب والاستشارة وعقد المؤتمرات والحفاظ على معايير وحرفية المهنة. ويتعاون المعهد مع الحكومات لتحسين جوانب التصميم وتنفيذ مشاريع حكومية وتقديم جوائز سنوية.

ويضيف "باساد" أن فن العمارة يأخذ في الاعتبار العديد من العناصر مثل الكتلة والمساحة والملمس والضوء والظل والمواد والشكل الجمالي العام الذي يطلق عليه لفظ (Aesthetics). وكل هذه العناصر تخدم جوانب عملية في استخدامات العقار وتأخذ في الاعتبار ايضا التكلفة وسهولة التنفيذ.

وهو يؤكد ان من الضروري الاستعانة بالمعماريين في تنفيذ المشاريع العقارية الجديدة لانهم يعنون بالتخطيط والتصميم ويشرفون ايضا على التنفيذ. والمعماري هو الوسيط بين المقاول ويملي عليه شروط التكلفة والجدوى، وبين العميل الذي يقدم له الجوانب العملية والجمالية في تصميمه. ويعتمد عمل المعماري على العديد من العلوم مثل الرياضة والفنون والعلوم والتقنية والتاريخ.

ويتفق العديد من المعماريين ان فن العمارة من شأنه ان يضيف قيمة انسانية وحضارية لاية منشأة مهما كان حجمها وان الاصيل منها هو الذي ينجح في اختبار الزمن.

* أحدث كتب صناعة العقار * من احدث الكتب التي صدرت عن صناعة العقار في الولايات المتحدة كتاب مثير عنوانه " بنايات مهمة وميزانيات مهدرة" اصدرته جامعة شيكاغو. ويصف الكتاب مجال المعمار بأنه "الصناعة التي نسيها الزمن" لانها فشلت في ان تطور نفسها وان تعايش القرن الواحد والعشرين. ويزيد الكتاب ان 92 في المائة من الصناعة مكون من شركات صغيرة من 20 شخصا او اقل، وانها شركات منخفضة الكفاءة ولا تملك الموارد المالية التي تحسن بها احوالها واساليب عملها واستخدامها للتقنيات الحديثة. واتهم الكتاب شركات الهندسة المعمارية بانها تهدر نصف الميزانيات تقريبا على تأخير الالتزام بمواعيدها او عدم التنسيق مع جهات البناء الاخرى. ويضيف ان شركات المعمار تقدم مناقصات منخفضة للغاية لكي تفوز بتعاقدات ثم تبدأ بعد الفوز بتغيير الشروط ورفع التكاليف.

ولكن هيئة محترفي المعمار الاميركية اعترضت بشدة على الكتاب واتهمت مؤلفه باري لوباتنر بأنه يقذف بحق مهندسيها وانه ساذج اذا اعتقد ان شركات المعمار لا تتبى التقنيات الحديثة، وما عليه الا ان ينظر الى بعض المشاريع التي نفذت حديثا لكي يعرف انه على خطأ.

ولكن المؤلف اكد انه عمل في المجال طوال حياته ويعرف ادق تفاصيله ولديه من الوثائق ما يثبت صحة ما ورد في كتابه. وقال ان الصناعة تخلت عن دورها القيادي. واضاف انه يعترض على تراجع دور المهندس المعماري الى درجة انه اصبح تابعا للمقاول وليس مشرفا عليه. وطالب الصناعة بأن تلتزم بمواعيد وأسعار ثابته، وان تضبط ميزانياتها. واضاف انها لو احكمت الرقابة على المقاولين ووفرت 10 في المائة من التكاليف لكان حجم التوفير على مستوى الولايات المتحدة 120 مليار دولار.