ظاهرة «العقارات الخاوية» تجتاح دول العالم الثالث

165 مليار دولار من تحويلات المغتربين تتوجه الى الوحدات التي تبقى شاغرة معظم العام

البعض يتهم هذه الظاهرة بأنها اكبر سبب لأزمة الاسكان في الدول النامية
TT

من القاهرة الى مراكش ومن المكسيك الى الهند، تنتشر في العالم ظاهرة العقارات الخاوية التي يبنيها المغتربون في مدنهم الاصلية من عوائد عملهم في الخارج، لكنهم لا يسكنون فيها إلا فترات وجيزة لا تتجاوز عدة اسابيع كل عام. هذه الظاهرة مرشحة للزيادة في المستقبل مع استمرار الهجرة الى الدول الصناعية، ولها آثارها العميقة على أسواق العقارات واقتصادات الدول المعنية.

البعض يشير الى ايجابيات للظاهرة، بينما يتهمها البعض الآخر بأنها اكبر سبب لازمة الاسكان في الدول النامية وارتفاع أسعار العقار والتشجيع على الهجرة العشوائية.

وتم رصد هذه الظاهرة للمرة الاولى في المكسيك، لكنها تنتشر الآن في جميع انحاء العالم، خصوصا في المواقع التي تجاور فيها الدول الفقيرة دولا غنية، مثل شمال افريقيا بجوار جنوب اوروبا والدول الآسيوية التي تقع شرق منطقة الخليج وبجوار دول آسيوية أخرى ثرية. وفي المكسيك تبدو الظاهرة واضحة تماما، حيث تتجاور المنازل الأنيقة والفلل التي شيدها المهاجرون الى الولايات المتحدة، وهي عقارات شاغرة في اغلب الاحوال، مع عقارات قديمة متهالكة يملكها الاهالي ويعيشون فيها في غرف مزدحمة وأحوال معيشية متردية.

وتبدو عقارات المهاجرين الشاغرة بالمقارنة وكأنها قصور، فهي تحتوي على طابقين وغرف فسيحة وبالكونات مشمسة ودورات مياه حديثة وحدائق تحيطها أسوار وتضمن لها بعض الخصوصية من المحيط التعس حولها. وهناك من يضيف لمسات فخامة للدلالة على النجاح الذي حققه في الخارج، مثل نافورات مياه في الفناء الداخلي، واطباق لاقطة للبث الفضائي حتى يستمتع بمحطات التلفزيون المفضلة اثناء وجوده في العقار.

وأدى انتشار الظاهرة في المكسيك الى نشوء مجمعات شاغرة من العقار الفاخر المهجور في كل قرية ومدينة مكسيكية الى درجة ان بعض الاهالي اطلق عليها اسم «مناطق الاشباح» لعدم وجود سكان فيها. والغريب ان معظم اصحاب هذه العقارات شيدوها بحلم العودة للمعيشة في بلدهم الاصلي يوما ما، لكن القليلين منهم يعودون. فالمطالب المعيشية واعباء الانفاق على العقارات الفاخرة التي شيدوها تحتم عليهم البقاء في مواقع العمل من اجل المحافظة على مستوى معيشتهم. ومع استمرار انفاقهم على العقارات الفاخرة الخاوية، فإنهم يشجعون غيرهم على الهجرة ايضا وتكرار السيناريو، لكي يتكدس المزيد من العقارات الخاوية في المدن والقرى.

هذه الدائرة المفرغة من الرحيل والبقاء في الخارج وتشجيع الآخرين على السفر ايضا مستمرة بلا هوادة في معظم الدول النامية. والغريب ان المنازل التي هي رمز الاستقرار وبناء الاسر، تكون في الغالب اكبر دافع على الرحيل والهجرة من اجل بناء المزيد منها.

وتقول احصاءات البنك الدولي ان العمال المغتربين ارسلوا لبلدانهم الاصلية في عام 2006 ما لا يقل عن 165 مليار دولار. وهذا المبلغ يزيد عما تتلقاه الدول النامية من معونات، بل يزيد احيانا عن الاستثمار الاجنبي المباشر في هذه الدول. وتتلقى الدول الآسيوية حصة الاسد من هذه التحويلات، بينما تأتي اميركا اللاتينية في المركز الثاني ثم الدول الافريقية اخيرا.

وتتوجه معظم هذه الاموال الى بناء العقار كنوع من الاستثمار المضمون لأن معظم المغتربين لا يثقون في حكوماتهم ولا في النظام المصرفي في بلدانهم، كما يفتقرون الى الخبرة والمعرفة التي تمكنهم من الاستثمار في اسواق المال. وتعترف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ان الظاهرة تزداد وان لها العديد من الآثار الايجابية والسلبية.

ويقول عامل بناء بولندي في لندن، انه جاء الى لندن في عام 2004، للعمل فيها بعد مشاهدة زميل دراسة له يبني منزلا انيقا في القرية التي نشأ فيها من أموال عمله في مجال البناء في لندن. وأضاف أن هذا الزميل لم يكن الاكثر مهارة بين الطلاب، لذلك قرر ان يذهب هو الآخر للعمل في لندن لأن نجاح زميلة شجعه على تجربة حظه هو الآخر.

ويؤكد الظاهرة عامل بلغاري ويقول: ان القصور الشاغرة في بلده حفزته على السفر الى لندن للعمل فيها ومحاولة كسب ما يتيح له بناء منزل لأسرته. وهو يشير الى ان بعض القصور البلغارية تقام احيانا بتصميمات مقلدة من افخم العقارات البريطانية، لكن على نطاق اصغر، ومع ذلك فهناك البعض الذين ما زالوا يربطون حيواناتهم في اسوار القصور التي بنوها. ويضيف المغترب انه سوف يسعى الى الاستثمار في العقار في بلده وفي الدول المجاورة للاستفادة من موجة ارتفاع الاسعار السائدة الآن شرق اوروبا، في اعتقاده، يعتبر من مناطق الاستثمار العقاري الساخنة.

الدول العربية: هذه الظاهرة تنتشر ايضا الى حد ما في الدول العربية. وفي شمال افريقيا يهتم المهاجرون من المغرب والجزائر وتونس بتحويل الجانب الاكبر من اجرهم السنوي الى بلدانهم الاصلية. وبينما يتوجه البعض الى بناء العقارات، سواء في قراهم الاصلية او في العقارات السياحية الجديدة، إلا ان الاولويات لدى الاسر المغاربية تختلف. فالانفاق على الطعام والتعليم والضرورات المعيشية يأتي قبل الاهتمام ببناء العقار الاستثماري.

وتشير احصاءات غير رسمية الى ان هناك ما يقرب من مليون عقار شاغر في القاهرة وحدها يملكها مغتربون غير مقيمين. وتنتشر الظاهرة في العديد من المدن والقرى المصرية. وتشجع هذه الظاهرة على نوعين من الهجرة، الاولى داخلية من القرى الى المدن بحثا عن فرص عمل افضل، والاخرى ظاهرة السفر الى الخارج، سواء الهجرة الدائمة الى اوروبا او الاقامة في دول الخليج. وفي كل الاحوال تذهب معظم التحويلات من الخارج الى مجال العقار، سواء كان في القرى الاصلية او في المدن التي يفضل العائدون من الخارج الاقامة فيها، او في المناطق السياحية الجديدة، سواء على الساحل الشمالي او مدن البحر الاحمر.

وتبلور الامر في مصر الى دخول شركات عقار متخصصة الى السوق بغرض بناء العقارات الفاخرة التي تتوجه بها خصيصا الى قطاع المغتربين. وتفوق اسعار هذه العقارات قدرة الاغلبية الساحقة من المصريين الذين يعتمدون على موارد دخل محلية. والمرجح ان العقارات الفاخرة، والتي تقول الشركات انها تباع في زمن قياسي، سوف تبقى هي الاخرى شاغرة معظم فترات العام، بينما يعمل مشتروها في الخارج ويحلمون بالعودة اليها يوما ما.

ويتكرر السيناريو نفسه في السودان الذي يتوجه معظم المهاجرين منه الى السعودية ودول الخليج، بينما يفضل آخرون دول اوروبا ولندن على وجه الخصوص. وفي لبنان توجد موجات هجرة تاريخية الى جميع انحاء العالم، خصوصا الى الولايات المتحدة ودول اميركا اللاتينية واستراليا وافريقيا، وايضا الى دول الخليج. وبفضل تحويلات المهاجرين ورغبتهم في شراء العقارات في بلدهم الاصلي، تصاعدت اسعار العقارات اللبنانية بنسب قياسية على رغم المتاعب السياسية وحالة اللااستقرار التي يعاني منها لبنان، التي كان من شأنها تدمير قطاع العقار في اي بلد آخر.

لكن في الدول الآسيوية تتبلور الظاهرة على نمط تقليدي، حيث يعيش ثمانية ملايين من شعب الفلبين في الخارج، يحولون فيما بينهم حوالي سبعة مليارات دولار الى بلدهم سنويا. وفي تايلاند يتكرر المشهد على نطاق اصغر ويعرف الاهالي تماما ان العقارات الفاخرة يبقى معظمها شاغرا ويملكها مغتربون في دول الخليج.

وفي الدول الآسيوية تكون الهجرة في معظم الاحوال لفترات محددة يعود بعدها المغتربون الى الحياة في بلدهم الاصلي. ويذهب المغتربون في العادة الى دول الخليج وايضا الى مناطق ثرية في آسيا مثل سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ. وهو يوجهون معظم مدخراتهم الى بناء عقاراتهم في بلدانهم الاصلية، لكنهم يعودون فعلا للسكن فيها. وتجذب المدن الآسيوية العديد من الايدي العاملة التي كانت تهاجر في الماضي الى الخارج، وفي هذه الاحوال يستقر العمال في المدن التي يعملون فيها ويحاولون شراء العقارات فيها، مع زيارات سنوية للقرى التي هاجروا منها.

وفي بعض القرى الاندونيسية تسافر نسبة كبيرة من الشباب للعمل في الخارج، لكن الاغلبية الساحقة تعود مرة اخرى بعد عدة سنوات من الهجرة. وهم يستثمرون اموالهم في بناء مساكن صغيرة ذات حدائق، لكنها تقع في مناطق بدائية، حيث المساكن المحيطة ما زالت من الطين او الصفيح ولا تصل اليها الكهرباء إلا عدة ساعات كل اسبوع. لكن هذه المساكن لا تبقى شاغرة، بل تسكنها الزوجات والاطفال، وربما بعض الاقارب ايضا بينما يضطر الزوج الى السفر مرة اخرى للبحث عن موارد دخل افضل، سواء داخل اندونيسيا او في الدول الآسيوية القريبة. وينظر الرجال المغتربون الى هذه العقارات على انها منازل للتقاعد فيها.

ويقول احد هؤلاء، وهو عامل اندونيسي يعمل في ماليزيا، انه هاجر للعمل منذ 18 عاما، لكنه جمع ما يكفي من اموال لبناء عقار له في قريته كلفه نحو ستة آلاف دولار في عام 1998. وهو يعتقد ان العقار هو افضل استثمار وان معظم المغتربين يشترون عقارات كلما تجمع لديهم ما يكفي من المال. ويضيف انه تلقى عرضا لبيع عقاره بمبلغ 30 الف دولار إلا انه رفض العرض لانه لا ينوي البيع.

وبالطبع لا يشتري كل المغتربين عقارات في المدن او القرى التي هاجروا منها. فهناك اجيال كاملة من المغتربين لا تود العودة الى القرى التي نشأت فيها. وفي الدول الآسيوية يتوجه كثيرون الى المدن الكبيرة التي توفر خدمات ومعيشة وفرص تعليم افضل للمغتربين وابنائهم. كما يفضل البعض البقاء في الخارج للحفاظ على اسلوب حياتهم المتميز.

وفي اوروبا، يتوجه كثير من المغتربين الى الاستثمار في المناطق الساحلية السياحية في بلدانهم وليس بالضرورة في القرى او المدن التي نشأوا فيها. وهم ينظرون الى مثل هذا الاستثمار على انه للسياحة للسنوية وليس للاقامة الدائمة.

ويختلف الاقتصاديون في ما اذا كانت ظاهرة العقارات الشاغرة مفيدة او مضرة للمدن او القرى التي تقع فيها. فالبعض يعتقد انها كارثة، على الاقل في حالة المكسيك، لان المهاجر الذي يذهب الى الولايات المتحدة ويعود بعد عدة سنوات بسيارة رباعية الدفع ويتعاقد على بناء منزل فاخر في قريته، لا يقضي فيه سوى اسبوع في السنة، يشجع العشرات غيره على محاولة الهجرة ايضا مما يحرم المكسيك من افضل العناصر البشرية فيها.

ويتفق خبراء اقتصاديون آخرون ايضا على ظاهرة «نزيف العقول» من الدول النامية الى الدول الصناعية، ويضيفون ان العقارات الشاغرة تخلق ظاهرة التضخم في اسواق العقار المحلية وتحرم المقيمين من فرصة الحصول على العقار الجيد بالسعر الملائم للاقامة فيه، كما انها تخلق في بعض الاحيان الاحباط لدى المواطنين من عدم قدرتهم على الوفاء بمتطلبات الحياة الكريمة من عملهم المحلي الى جوار اسرهم.

لكن آخرين يختلفون مع هذا الرأي. فالمكسيك وحدها تتلقى ما يقارب من 23 مليار دولار سنويا من تحويلات المغتربين، كذلك تصل هذه التحويلات من الخارج الى ارقام كبيرة تعتمد عليها ميزانيات دول مثل مصر والمغرب ولبنان والسودان عربيا، ومعظم الدول الآسيوية الفقيرة. وهم يضيفون ان بناء العقارات الجيدة يرفع من مستوى اسر المغتربين، ويشجع صناعات البناء وخدمات العقارات المحلية، كما يشجع الحكومات ايضا على تقديم خدمات البنية التحتية للقرى والمدن النائية التي تنشأ فيها عقارات جيدة.

وهناك بعض الدول مثل المكسيك وكولومبيا، التي تعهدت فيها الحكومات بإنفاق دولارين لكل دولار من تحويلات المغتربين من اجل تحسين الخدمات المحلية ومشروعات بناء المساكن الشعبية. لذلك يرى هؤلاء ان النتيجة الاجمالية لمثل هذه التحويلات لا بد وان تكون ايجابية على اقتصادات الدول النامية. وفي كل الاحوال من المرجح ان يستمر هذا التوجه لحاجة الدول الصناعية الى المزيد من المهاجرين وحاجة الدول النامية الى المزيد من العملات الصعبة وفرص العمل.