بريطانيا: قطاع الشقق السكنية الأكثر تضررا.. وينهار بنسبة 40%

يتيح فرصا للاستثمار في عصر الكساد العقاري

قطاع الشقق يعاني من التخمة ويتعرض أكثر من غيره لانهيار الأسعار (تصوير: حاتم عويضة)
TT

لا يعرف احد بعد إذا كانت موجة التراجع العقاري قد وصلت الى مداها، ولكن الكثير من شركات التسويق العقاري تعتبر ان التوقيت الحالي هو الأفضل لدخول السوق للمشترين الجدد خصوصا في قطاع الشقق السكنية التي يزدحم بها السوق حاليا في بريطانيا الى درجة ان أسعارها انخفضت في بعض المدن بحوالي 40 في المائة من ثمنها الأصلي. من ناحية أخرى يعتقد بعض المراقبين أن الانتظار لعدة أشهر أخرى قد يضيف إلى المكاسب مع استمرار التراجع العقاري الذي يبدو وكأنه أسوأ من سابقه الذي وقع في بداية التسعينيات. ففي نوافذ بعض شركات تسويق العقارات، وحدات معروضة للبيع عليها دعوات لتقديم عروض للشراء بأي ثمن.!! وما يزيد من تردي الأوضاع أن الآلاف من مالكي العقار يعانون من أقساط باهظة الكلفة لقروض عقارية هائلة الحجم، تزيد في بعض الأحوال على قيمة العقارات نفسها. ويتعرض هؤلاء أكثر من غيرهم إلى خطر نزع ملكية العقار منهم لبيع العقارات في المزاد تسديدا للديون المتراكمة على أصحابها. وتعتبر الأسواق أن قمة أسعار الأسواق العقارية كانت في عام 2005 وان الأسواق حافظت على قيمتها خلال العامين الماضيين قبل ان تبدأ في الانهيار هذا العام. وكانت اكبر نسبة انهيار في قطاع الشقق المشيدة في وسط المدن، حيث يزيد فيها المعروض عن المطلوب للشراء بنسبة كبيرة.

وفي العديد من المدن البريطانية تباع الشقق السكنية بتخفيضات تبلغ نحو 50 الف جنيه استرليني (حوالي 100 الف دولار) عن الأسعار التي دفعها المستثمرون فيها قبل عامين. وتباع بعض العقارات بأسعار متدنية كانت تبدو منذ عامين فقط انها ذهبت الى غير رجعة. ومن نماذج العقارات المطروحة للبيع في السوق الآن شقة جديدة بغرفة نوم واحدة كانت شركة استثمار عقاري قد باعتها في عام 2001 بمبلغ 140 الف استرليني (280 الف دولار) ولكن قيمتها الحالية لا تزيد على 88 الف استرليني. اما قيمة وحدة اخرى مكونة من غرفتي نوم كانت قد بيعت جديدة منذ عام واحد فقط بمبلغ 180 الف استرليني، ولكنها سعرها لا يزيد الآن على 128 الف استرليني.

وتحذر بعض شركات الاستثمار من ان حتى هذا المستوى المنخفض من أسعار السوق قد يكون أعلى من القيمة الحقيقية للكثير من العقارات. فما زال من الصعب مثلا تحقيق هوامش أرباح في القطاع الاستثماري الموجه الى تأجير الشقق، لان أقساط القرض العقاري تفوق في العادة قيمة الإيجار الممكن للعقارات الشاغرة. وهناك ما يشبه الاضطراب العام عن الشراء من قطاعات كبيرة من المستثمرين تعتقد ان الاسعار لم تنخفض بهوامش كافية بعد.

وقد يكون هذا الاعتقاد صحيحا لان ازمة الائتمان المصرفي حاليا تساهم في تعميق مشكلة الشراء حيث القروض أصعب منالا وأغلى كلفة من السابق. وبدلا من اختطاف أول عقار متاح للبيع في السوق، يطوف المستثمرون الآن على عشرات العقارات الشاغرة التي تبحث عن مشترين لاختيار الأفضل قيمة بينها. ويستفيد من هذا الوضع المشترون الجدد والمستثمرون بينما يواجه الخسائر هؤلاء الذين دخلوا الأسواق متأخرين. فهؤلاء مهددون بفقدان عقاراتهم لعجزهم عن دفع أقساط القروض الباهظة.

ويعم الموقف نفسه على المستثمرين الذين دخلوا السوق في ذروته وخسروا من تراجع الأسعار، فهؤلاء يواجهون خطر انتزاع الملكية منهم خصوصا في حالات العقارات الشاغرة من السكان. ويتمتع المستثمر الذي دخل السوق منذ فترة طويلة بهوامش أمان أعلى لشرائه بمعدلات أسعار اقل ولان حجم القروض العقارية المترتبة على العقار يمكن تغطيتها بسهولة حتى لو ظل العقار شاغرا عدة أشهر كل عام.

أزمة مانشستر: وربما تكون الأسعار في لندن كعاصمة دولية ما زالت متماسكة بعض الشيء ولكن الوضع في مانشستر يعبر عن الواقع في معظم المدن البريطانية. فخلال العقد الاخير دخلت شركات العقار للاستثمار بقوة في مركز المدينة لبناء مجمعات سكنية جذابة وعرضها للبيع للمشترين الجدد والمستثمرين الراغبين في عرضها للايجار. وفي مناخ كانت الأسعار فيه ترتفع على نحو شهري، ترك العديد من المشترين الحذر التقليدي بشراء عقارات باهظة الكلفة من على الخريطة. ولم يكن من بين هؤلاء سوى نسبة محدودة من المحظوظين الذين غطوا تكاليفهم بعد الشراء ولكن نسبة كبيرة أصيبت بخسائر كبيرة. وظهرت أعراض هذه الخسائر في قاعات المزاد في المدينة التي زادت فيها نسبة العقارات المعروضة للبيع بعد نزع ملكيتها. وتقول مؤشرات البنوك في مانشستر ان نسبة نزع الملكية تضاعفت في الأشهر الأخيرة، ومعظمها من الشقق السكنية في وسط المدينة التي زاد عددها وانهارت أسعارها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. وبالبحث عن الشقق المتاحة للبيع في مانشستر على الانترنت يمكن العثور على اكثر من 2500 شقة مكونة من غرفتين معروضة للبيع في المدينة حاليا ولكن بلا مشترين حتى الآن. ولا يعني هذا الوضع الا شيئا واحدا من الناحية الاقتصادية وهو أن الأسعار لابد وان تنخفض. ويمكن استشفاف وضع السوق من الحديث مع شركات تسويق العقار في المدينة من زاوية الشراء الاستثماري. فبدلا من تسويق العقارات من زاوية العوائد الإيجارية المرتفعة وسهولة العثور على مستأجرين والاستفادة من قيمة العقار المتزايدة، تركز شركات العقار حاليا على زوايا أخرى منها الفرص السانحة في السوق مع «تصحيح الاسعار». وتعرض معظم العقارات لدى شركات البيع مع تخفيضات كبيرة في الأسعار.

وتعترف بعض الشركات ان العديد من المستثمرين يريدون الخروج من السوق الآن بأي ثمن للحد من خسائرهم المتراكمة من عقارات شاغرة وقروض مستحقة. ويمكن مراجعة سجل العقارات الرسمي (تسجيل الاراضي) في المدينة للتعرف إلى متغيرات الأسعار، فهذا السجل يحتوي على أسعار تنخفض كثيرا عما كانت تدفع في العقارات قبل عامين.

وهناك العديد من نماذج انخفاض الأسعار في العديد من المشروعات الجديدة نسبيا في المدينة مثل مشروع «سيتي بوينت» شمال مانشستر الذي عرضت فيه شقة في مزاد لندني بسعر 80 ألف جنيه استرليني، بعد ان دفع فيها مستثمر 178 الف استرليني في عام 2004. وهناك عشرات الشقق المعروضة في المشروع بأسعار اقل من 130 الف استرليني حاليا.

وفي مشروع آخر في جنوب المدينة بيعت شقة جديدة في عام 2001 بسعر 140 ألف استرليني، ولكنها معروضة الآن بسعر 88 الف استرليني. وفي مشروع فاخر يسمى «هاسيندا» بيعت شقة مؤخرا بسعر 205 آلاف استرليني بعد ان كان ثمنها في عام 2004 نحو 261 الف استرليني. وما زال العديد من المشروعات الجديدة يدخل السوق تباعا بعضها يتم تسويقه بأسعار تبدو مرتفعة وغير منطقية في المناخ الحالي وتحتاج لإعادة نظر لتخفيضها بنسب كبيرة.

وتحاول شركات العقار في المدينة تشجيع المبيعات عن طريق تسويق قوة سوق الإيجار في المدينة، ولكن المستأجرين يؤكدون أن الاختيار واسع أمامهم، وانهم للمرة الاولى، يمكنهم عرض إيجارات اقل عن تلك المطلوبة في العقارات، وينجحون في معظم الأحوال باستئجار الوحدات بنسب مخفضة.

وتعترف شركات العقار ان معظم الخسائر في السوق كانت من نصيب المستثمرين الذين هرعوا الى السوق بلا وعي في وقت الذروة واشتروا العقارات بلا دراسات متأنية. اما المستثمرون المحليون الذين يعرفون السوق جيدا فهم ينتظرون المزيد من التراجع لاتخاذ قرار الشراء واقتناص الفرص السانحة.

ولتوضيح حجم المشكلة وتبعات التوقيت الخاطئ في دخول السوق، يمكن ذكر حالة مستثمرة ذهبت الى ندوة عقارية نظمتها شركة تسويق واستمعت إلى حوافز ومغريات الأرباح في أسواق العقار لدرجة وصولها إلى شراء سبعة عقارات دفعة واحدة، وبعد مضي عامين على هذا القرار قدرت الخسائرالاجمالية للاستثمارات بحوالي 350 الف استرليني.

حالة فردية: من الحالات التي تتحدث بها أوساط العقار البريطانية استثمارات الطبيبة البيطرية تامسين باركس التي ذهبت لحضور ندوة عقارية أقنعتها ان بإمكانها ترك عملها المهني والتحول الى الاستثمار العقاري لكي تصبح مليونيرة في غضون سنوات قليلة. ولكنها بدلا من ان تحتفل بأرباحها من سبعة عقارات كانت قيمتها منذ عامين تفوق المليون استرليني، فإنها تتوقع خسائر اجمالية بحجم يصل الى 350 الف استرليني.

وهي تشكو من بعض الاخطاء التي وقعت فيها بسبب نصائح استثمارية خاطئة تلقتها من الشركة، بعكس ما كانت تريد ان تفعله. وبلغت متاعبها حد ان الايجارات التي تحصل عليها من العقارات لم تعد تكفي لتغطية تكاليف اقساط القروض العقارية والإصلاحات الضرورية في العقارات. وبدلا من الشراء داخل بريطانيا نصحتها الشركة بعقارات اسبانية وأخرى في فلوريدا، ولقاء عمولة قدمت لها أيضا نصيحة الشراء من على الخريطة وبيع العقارات في غضون عامين من الشراء لمستثمرين آخرين قبل اكتمال العقار وتسليمه. وتقول «بروشرات» الشركة ان 90 في المائة من العقارات الجديدة يتم تبادلها بالبيع والشراء بين المستثمرين من قبل دخولها إلى السوق، وان هذه المرحلة هي التي تصنع الملايين للمستثمرين بسهولة.

ولكن المستثمرة البريطانية أكدت انها خسرت كثيرا بسبب هذا الاسلوب بعد اضافة تكاليف التمويل. وفي حالة عقار اسباني اكتشفت بعد الشراء (من دون رؤية العقار) ان الوصف غير دقيق، حيث تقول مستندات العقار انه قريب من الساحل، بينما المسافة الحقيقية تزيد عن كيلومترين. وتعتقد المستثمرة ان الشركة خدعتها ولذلك تدعو غيرها من المستثمرين الى الحذر.

ولكن الشركة من ناحيتها تدافع عن سمعتها بالقول ان الأرقام التي تذكرها المستثمرة غير صحيحة وأنها حققت ربحا في عقار اميركي باعته، كما ان تقييم العقارات الاخرى ما زال أعلى مما دفعته. ولكن الشركة لا تحسب التكاليف الأخرى المصاحبة لعملية الاستثمار العقاري. وتعتقد الشركة انها ساعدت المستثمرة على تحقيق الأرباح في سوق صعبة يكون التركيز فيها على التفاوض مع شركات العقار للحصول على صفقات أفضل.

وترفض الشركة منطق المستثمرة في أنها مضطرة للبيع، بالقول ان هذا التوجه مخالف لكل ما تعلمته في دورة العقار التدريبية التي تلقتها. فالاستثمار العقاري هو استثمار للمدى المتوسط والبعيد. والاستنتاج الوحيد الذي يخرج به المراقب هو أن شركات العقار اعتمدت لفترات طويلة على اسواق متصاعدة يحقق فيها الجميع ارباحا، ولذلك صدقت كافة توقعات وترشيحات الشركة في السنوات الماضية. وحتى هؤلاء الذين لم يتلقوا دورات تدريب عقاري استطاعوا أن يحققوا الكثير من الارباح في هذه الأسواق باتباع اسس الاستثمار السليم بالبحث عن القيمة. ولكن ما ان تراجعت الاسواق والاسعار حتى بدأت متاعب المستثمرين في الظهور، خصوصا هؤلاء الذين اقترضوا فوق طاقتهم.

ولعل مثل هذه الدورات التدريبية التي تعد المستثمرين بالملايين في كل ظروف السوق كانت مسؤولة جزئيا عن الانهيار الذي وقع بعد طول انتعاش. فأحدث تقرير عقاري يؤكد أن أوضاع السوق حاليا مثل «بيت من الورق» بعد سنوات من التمويل اللامسؤول والاستثمار العشوائي.

وتقول هيئة الخدمات المالية البريطانية أنها أوقفت شركتي وساطة مالية عن العمل بعد اكتشاف تقديمها طلبات تمويل عقاري مزورة الى أحد البنوك. وحذر رئيس قسم الجرائم المالية في الهيئة من انتشار عمليات احتيال مماثلة حيث تحقق الهيئة في حوالي مائتي قضية فساد. وتشك الهيئة في وجود جهات منظمة وراء هذه القضايا.

وتعترف الهيئة ان أسواق العقار تعاني من فقاعة سعرية، بينما نصح تقرير استثماري ببيع اسهم شركات التطوير العقاري الآن قبل ان تنهار قيمتها لان افاق الاسواق مسدودة بالنسبة لها من جميع الجوانب، ولن يتحسن الوضع حتى تعود الأسواق الى توازنها.