الجناح الخامس في مطار هيثرو يفتح آفاقا معمارية جديدة في بناء المطارات

رغم تعثر الافتتاح إلى حد الفشل

جانب من الجناح الخامس في هيثرو («الشرق الاوسط»)
TT

على الرغم من تحضيرات الافتتاح التي بدأت منذ عدة اشهر، كان افتتاح الجناح الخامس (ترمينال 5) للركاب أخيرا تجربة فاشلة لعدم تكافؤ اجهزة الكومبيوتر السريعة مع التشغيل اليدوي البطيء لعمال الحقائب. وتسبب هذا في اعطال هائلة جعلت الركاب يتركون حقائبهم في المطار ويغادرونه. وفي اليوم التالي اضطرت شركة الخطوط البريطانية الى الغاء 75 رحلة طيران، واستمرت عملية الغاء الرحلات وانتشار الفوضى خلال الايام التالية للافتتاح ايضا.

ولكن ما لم يعلنه الاعلام البريطاني هو ان المطارات الجديدة عادة ما تتعرض لمشاكل تأهيل في اسابيع تشغيلها الاولى، وقد سبق واعلنت هيئة المطارات البريطانية، وهي تتبع الان الملكية الاسبانية، ان فترة الاشهر الستة الاولى من تشغيل الجناح الخامس سوف تكون فترة تجريبية.

ولكن كل هذه المتاعب، التي يمكن تفسيرها بأنها مشاكل ادارية، سوف تنتهي عاجلا او اجلا، وهي لا تلغي الجهد الكبير في اكبر مشروع هندسي معماري في بريطانيا تكلف 4.3 مليار جنيه استرليني. فهذا المشروع يفتح آفاقا جديدة في تصميم وبناء مطارات القرن الحادي والعشرين.

وتعود بداية الترخيص للمشروع الى عام 2001 بعد اطول فترة تحقيق شعبي استغرقت 46 شهرا. وتكلف التخطيط وحده حوالي 63 مليون استرليني واستمر 14 شهرا. وبدأت عمليه البناء في عام 2002 على ان يكون الافتتاح في عام 2008، وهو ما حدث فعلا في الاسبوع الماضي، وان لم يكن ايجابيا. بينما تستمر عمليات الانشاء والتطوير في المطار حتى عام 2020 على الاقل. وفي الجناح الخامس سوف تنتهي المرحلة الثانية في عام 2011. وسوف تتعلق المرحلة الثانية بعمليات توسعة لجناح ملحق مخصص للتعامل مع الطائرات العملاقة من طراز ايرباص 380.

ويعتبر مبنى الجناح الخامس، الذي صممه المصمم العالمي ريتشارد روجرز، احد اعاجيب الانشاءات الحديثة حيث يغطيه سقف مكون من الصلب في قالب مستمر بلا انقطاع، وبلا اعمدة داخلية، يمتد بطول 90 مترا. اما الجدران فهي من الزجاج الذي يتيح الكثير من الضوء الطبيعي من على جانبي المبنى ويتيح ايضا رؤية الحركة في كل انحاء المطار. ويستوعب المبنى 30 مليون مسافر سنويا، اي ثلث طاقة الاستيعاب في مطار هيثرو اكثر مطارات اوروبا ازدحاما.

ويشتهر روجرز بأنه وراء عدة تصميمات عالمية مثل مركز بومبيدو في باريس ومبنى شركة لويدز للتأمين في لندن وقبة الالفية في لندن. كما صمم ايضا اغلى مجمع سكني في لندن اسمه «وان هايد بارك».

وخلال فترة الانشاء كان الجناح الخامس هو اكبر مشروع معماري في اوروبا، وعمل فيه 80 الف عامل. وفي قمة حركة الانشاء كان الانفاق الاسبوعي على المشروع في حدود 12 مليون استرليني. وشملت الاعمال الى جانب مبنى الجناح الخامس نفسه عمليات تجميل المناطق المحيطة ومد خطوط مترو الانفاق والقطارات الى الجناح الخامس وتشغيل طرق جديدة ومواقف متعددة الطوابق. وعملت في المشروع 60 شركة معمارية على 16 مشروعا رئيسيا و147 مشروعا فرعيا.

ويضم المبنى 150 منفذا تجاريا على مساحة 18 الف متر مربع، منها 25 مطعما واكبر مجمع للسوق الحرة في اوروبا. وتحتكر الخطوط الجوية البريطانية هذه القاعة بعد ان نقلت كافة عملياتها من الجناحين رقم واحد واربعة. ومع افتتاح ما يمكن اعتباره احدث مطار في العالم، كان الاعتماد الاساسي في اساليب البناء والتصميم هو تلبية ما يريده المسافر خصوصا هؤلاء الذين يبقون في المطار لعدة ساعات انتظارا لاستكمال رحلة او لبداية رحلة مؤجلة لاسباب تتعلق بالطقس او الاعطال الفنية او الازدحام. فمطارات اليوم تخدم وظيفة المنزل المؤقت للمسافر.

وهي منازل لا يرغب المسافر بالضرورة ان يقضي فيها وقتا طويلا، ولكنه مثل غيره في العديد من المواقع الاخرى يجد نفسه مضطرا للبقاء فيها لفترات اطول بين رحلة واخرى. ولجأت الخطوط البريطانية الى اتباع احدث وسائل التصميم المعماري خصوصا في قاعات الانتظار لركاب الدرجة الاولى ودرجة رجال الاعمال لكي يشعر المسافر انه في منزله.

ويقول رئيس شركة روجرز التي شاركت في التصميم الداخلي لجناح المطار الجديد ان قاعات الضيافة الجديدة تشبه الى حد كبير غرف الصالون المنزلية التي توفر للمسافر وعائلته الخصوصية والمناخ المنزلي الذي يريح الاعصاب مهما طال الانتظار. وأجرت الشركة العديد من الابحاث الميدانية على شرائح متعددة من المسافرين لكي تصل الى المعادلة الناجحة في تصميم قاعات الضيافة واختيار تجهيزاتها والوانها. فحتى الاضاءة فيها تتبع اساليب البيوت الحديثة من اضواء غير مباشرة والوان خافتة مع المزيد من الضوء الطبيعي من النوافذ الزجاجية التي تمتد بمساحة الجدران الخارجية بأكملها.

وتحاول الشركة تعميم الافكار الناجحة من تجربة بناء قاعات المطار الى مجالات اخرى مثل المستشفيات والمكاتب. وفي الماضي لم تكن قاعات الضيافة تحتل الكثير من الجهد في التصميم والتجهيز وكانت الشركات تنظر اليها كمجرد قاعات انتظار كبيرة الحجم. وربما كان الاستثناء الوحيد متاحا في بعض المطارات الخليجية التي انتبهت الى اهمية تصميم المطارات وقاعات الضيافة واشعرت المسافر انه يقضي وقته في رحاب الضيافة العربية بتصميمات يبدو بعضها مستعارا من ليالي الف ليلة، مع وجود التمور والقهوة العربية طوال ساعات الليل والنهار.

وتمتد اهمية التصميم الداخلي للمنشآت الى العديد من المجالات الاخرى، فحتى الجيش الاميركي يعهد الان الى شركات بناء ثكنات الجنود باتباع اساليب جديدة بحيث تشبه الثكنات بيوت الطلبة او المنازل الاقتصادية التي تزيد من راحة الجنود وتشعرهم بآدميتهم من دون رفع تكاليف البناء بالضرورة.

واكتشفت ايضا شركات النفط ان اجتذاب افضل المهارات والحفاظ على القوى العاملة في مناخ العمل الشاق على المنصات البحرية هو بناء مناخ اقامة وثير يشبه الفنادق العائمة التي توفر كافة اساليب الراحة والرفاهية. وتوفر بعض الشركات فنادق عائمة فعلا ترسو بجوار المنصات وتتيح لعمالها غرف اقامة منفصلة مع اتصال بالانترنت وقاعات سينما وصالات رياضية. وتتبع شركات التصميم فرضية اجتماعية هي ان وظيفة التصميم الداخلي الاولى هي كسر العزلة وخلق مناخ منزلي. وتدخل المواد المستخدمة والالوان في تكوين هذا الشعور حيث الالوان المفضلة في القاعات هي التي تمثل الالوان الارضية من اسود وبني واصفر وزيتوني واخضر. ولا تحتاج التصميمات ولا الالوان الى ميزانيات ضخمة بل الى اختيار صحيح لتوفير المناخ الامثل والذي تعم فوائده نفسيا على المنتظرين داخل القاعات سواء كانت في المطارات او في المستشفيات او حتى في السجون.

اللمسات الفنية لها ايضا مفعولها في التصميم، ولجأت شركات التصميم في الجناح الخامس الجديد في مطار هيثرو الى اختيار بعض القطع الفنية من العديد من مشاهير الفنانين بالاضافة الى الشباب منهم. وتختلف هذه القطع عن الفن الذي كانت تقدمه شركات الطيران في الماضي ويتعلق معظمه بالشركة والدعاية لها. فالقطع الفنية الجديدة هدفها الايحاء بالمناخ المنزلي وليس الدعاية لشركات الطيران او للمطار نفسه.

وعلى رغم ان احد العناصر المهمة التي اكتشفها فريق البحث هو امكانية وضع اللمسات الشخصية على المكان حتى يمكن اطلاق صفة المنزل عليه، الا ان اتاحة مثل هذه الامكانيات في تصميم اماكن عامة مثل قاعات المطارات كان صعبا. وفكر فريق التصميم في اتاحة رفوف للكتب او لوحات يمكن تعليق الصور عليها، ولكن الافكار لم تكن عملية في مساحات هائلة مثل الجناح الخامس في اكبر مطار اوروبي.

فحتى امكانية نقل المقاعد الى اوضاع ملائمة واكثر راحة للمسافرين، وهي ايضا من سمات المنزل المريح، لم يكن من الممكن توفيرها في قاعات تحتوي على 2500 مقعد. فكان القرار هو توزيع المقاعد على مواقع محددة وجعلها صعبة التحريك حتى يمكن المحافظة على هيئة المكان ونظافته. فاستخدام القاعات في المطارات يكون في العادة متاحا لموجات متعاقبة من المسافرين المستخدمين للمطار، ويجب ان تجد كل موجة من هؤلاء المكان نظيفا ومرتبا بعد ان تغادره الموجة السابقة. واعادة ترتيب 2500 مقعد كل عدة ساعات امر غير عملي بالمرة.

ولجأت شركة التصميم الى فكرة مغايرة وهي توفير اركان خاصة، باستخدام الستائر والمصابيح على الطاولات، بحيث يمكن لكل مجموعة من الركاب ان ترتاح في الركن الملائم لها من دون الحاجة الى اعادة ترتيب الاثاث. من الافكار الجديدة التي نفذتها الشركة في الجناح الجديد اسلوب قطارات التنقل الاوتوماتيكية بين الجناح الخامس الرئيسي وبين ملحقين جانبيين، وهي قطارات تعمل بلا سائقين وتجرى على مسارات ارضية. ويعتمد المطار على نسبة عالية من اجهزة تسجيل المسافرين آليا ومحطات ترك الحقائب لجعل مرحلة الانتقال من خلال المطار الى الطائرة مختصرة ومريحة للغاية للمسافرين. وتحتوي القاعة على 140 محطة تسجيل آلي و96 محطة لترك الحقائب. وتأمل الخطوط البريطانية ان تستخدم نسبة 80 في المائة من المسافرين النظم الالكترونية في المطار.

اما مركز الشحن الذي تسبب في مشاكل افتتاح اليوم الاول، فهو الاكبر حجما بين المطارات الاوروبية ويعتمد على نظامين متوازيين احدهما للخدمة السريعة لركاب الدرجة الاولى ودرجة رجال الاعمال. ويستطيع النظام ـ على الاقل نظريا ـ ان يتعامل مع 70 الف حقيبة يوميا. وبدلا من خطوط نقل الامتعة التقليدية المتحركة افقيا تنقل الامتعة مباشرة الى اسفل بحيث يستطيع المسافر ان يكمل طريقه نحو بوابات الامن ومن ثم الى بوابات الخروج الى الطائرات.

كما يحتوي المشروع على محطة تكرير مياه على مقربة كيلومترين من الجناح الخامس توفر الاكتفاء الذاتي في مصادر المياه المستخدمة لاغراض غير الشرب.

وتنقل عشرة مصاعد زجاجية سعة كل منها 50 راكبا المسافرين القادمين من محطات مترو الانفاق الى مبنى الجناح الخامس بطوابقه المختلفة بين الشحن والوصول وطابق السفر العلوي. ولدى الوصول من خارج بريطانيا الى الجناح الخامس، يمر المسافر مباشرة الى قاعة زجاجية حيث ممرات فحص الجوازات ثم يهبط الى قاعة تسلم الامتعة. ثم يخرج الركاب عبر ممرات الجمارك الى قاعة الوصول التي تقع في الطابق الارضي. ويخرج الراكب من المطار الى ميدان يسمى «بلازا» يمكن منه العثور على كافة وسائل المواصلات التي تنقله الى خارج المطار. فهناك الباصات الى جهات متعددة وموقف السيارات على الطرف الشمالي وكذلك ممرات الوصول الى مترو الانفاق وقطار لندن السريع.

ومن المؤكد ان مبنى الجناح الخامس سوف يدخل التاريخ المعماري كأحد المعالم المعمارية الاوروبية، خصوصا في ناحية السقف المتصل بلا اعمدة داخلية لمسافة 90 مترا ووزن 30 الف طن من الصلب. وترفع هذا الوزن حوامل خارجية مصطفة على 22 زوجا من الاعمدة. ويسمح هذا التصميم باكبر قدر من المساحة الداخلية والضوء الطبيعي، عبر 24 الف متر مربع من الاسطح الزجاجية. وتمتد على الارضية انواع من الرخام الايطالي المقسمة الى مناطق قاتمة وفيها تتم عمليات الامن والتعامل مع الامتعة وتذاكر السفر، ومناطق فاتحة اللون في كل ارجاء الجناح الخامس الاخرى. وينتشر في الارجاء حوالي تسعة الاف مقعد. وتحتوي القاعة ايضا على غرف لتغيير ملابس الاطفال وثلاث مناطق للعب الاطفال. ويمكن الاستمتاع بكافة التسهيلات المعتادة في المطارات الحديثة ما عدا التدخين الذي يمنع في كل ارجاء المطار.