«موناكو».. سوق العقارات يكاد يكون حصريا للأثرياء

تعتبر ثاني أغلى مكان في العالم بعد لندن

موناكو.. عقاراتها للنخبة فقط (شاتر ستوك)
TT

أوضح تقرير أصدرته أخيراً وكالة العقارات «نايت فرانك»، التي تُعد من أكبر الوكالات العقارية في أوروبا، أن أغلى مدينة من حيث أسعار العقارات في العالم هي لندن، تليها موناكو، وهي أصغر دولة في العالم (إذا استثنينا مدينة الفاتيكان التي لها سيادة الدولة المستقلة).

وكانت موناكو تاريخياً جزءاً من فرنسا التي تحدها من ثلاث جهات، بينما يحدها البحر الأبيض المتوسط من الجهة الرابعة. وتبلغ مساحتها نحو ميل مربع واحد، ولا يتعدى سكانها 35 ألف نسمة. ورغم أن المملكة الصغيرة تعتبر فرنسية الأصل والهوية، إلا أن سكانها متنوعون من فرنسا وايطاليا وبريطانيا، بالإضافة إلى جاليات صغيرة من 125 بلداً حول العالم. وبالطبع فقد اشتهرت موناكو بأنها جنة الأثرياء، حيث يقوم اقتصاد البلاد على الخدمة المصرفية في المقام الأول، ثم السياحة والعقارات الفاخرة.

ورغم صغر حجم الدولة، التي يكبرها كثيرٌ من المدن حول العالم، فهي تدير رؤوس أموال أجنبية يبلغ إجماليها 76 مليار دولار. لكن الخبراء المصرفيين في أوروبا يعتقدون أن الرقم الحقيقي قد يكون أضعاف هذا الرقم، والسبب في ذلك أن موناكو تعتبر أشهر بلد في العالم (من بين 22 دولة) تمنح إعفاء ضريبياً وسرية قصوى في تعاملاتها المصرفية.

وقد ادى هذا الوضع، في جانبه السلبي، إلى أن تتقدم «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» الأوروبية (OECD)، بشكوى ضد موناكو في عام 2004، باعتبارها غير متعاونة مع المنظمة في الكشف عن رؤوس الأموال التي تديرها مصارفها. لكن في الجانب الايجابي، فقد أدى وضع موناكو «كملاذ ضريبي»، إلى جذب مدخرات أكبر رجال الأعمال في العالم وأكبر مشاهيره الفنيين والإعلاميين والرياضيين.

وكثير من هؤلاء يحصلون على جنسية البلاد للتمتع بمزاياها المالية، لكنهم في الواقع لا يعيشون فيها بصفة مستديمة، مما يجعل عدد السكان الفعلي أقل كثيراً من الـ35 ألف نسمة المعتمدة رسمياً. لكن لكي يحصل هؤلاء على حق المواطنة، فلا بد أن يكون لهم عنوانٌ دائم في البلاد، مما يعني أنهم يشترون قصوراً أو فيلات، وهذا بالطبع ينعكس مباشرة على سوق العقارات.

ومع كل هذه الأموال الضخمة، فضلاً عن سحر المدينة وطقسها المعتدل، فإن سوق العقارات في موناكو، يكاد يكون حصرياً للأثرياء، مما يجعل عقاراتها من أغلى عقارات العالم. وفي هذا الصدد يقول ألكساندر كرافت، من وكالة «فرانس ـ موناكو» العقارية: «إن السنوات الخمس حتى عام 2007، شهدت ارتفاعاً في أسعار العقارات بلغت نسبته 20% سنوياً»، أي أن الأسعار تضاعفت خلال تلك الفترة.. فالشقة التي كانت بمليون دولار، أصبحت اليوم بمليونين.

من جانبها، تقدر وكالة «نايت فرانك» العقارية، التي لها فروع في غالبية الدول الأوروبية الغربية، تكلفة المتر المربع الواحد (من العقار المبني)، بنحو 41 ألف دولار. هذا سعر متوسط، أما التفاصيل فهي كالآتي: المتر المربع في المواقع غير المطلة على البحر نحو 20.5 ألف دولار، المواقع التي لها إطلالة محدودة على البحر تتراوح بين 28 إلى 41 ألف دولار، أما المواقع المميزة والمطلة على البحر مثل منطقة «المثلث الذهبي»، حيث يُوجد أكبر كازينوهات أوروبا وأشهر محلاتها التجارية، فيبلغ سعر المتر المربع نحو 68 ألف دولار.

ومن المزايا الكبيرة لسوق العقار بالنسبة للأجنبي أن الدولة لا تأخذ ضريبة على مبيعات العقارات أو إعادة بيعها. كما أنها لا تفرض ضريبة القيمة المضافة (VAT) على العقارات القديمة مثلما تفعل بعض الدول الأوروبية. وفي حالة العقارات الحديثة، فإن شركة البناء هي التي تدفع هذه الضريبة للدولة وليس المشتري. أما تكاليف الشراء (من محامين ومساحين وتسجيل أراض وغيره)، فتتراوح بين 9.5% و11% من قيمة العقار، وهذه التكاليف يدفعها المشتري.

ويقول كرافت إن سكان موناكو كانوا في الماضي من الأثرياء المتقاعدين، لكن هذا الوضع تغير في السنوات العشر الأخيرة، حيث زحف على المدينة جيل جديد من مليونيرات صناديق الاستثمار ومن الشباب الصغار الذين بنوا ثرواتهم بسرعة هائلة إبان التسعينات مع طفرة شركات الكومبيوتر والإنترنت (أو ما يُعرف بشركات الـ «دوت كوم» dot.com). وقد غيّرت تركيبة المدينة شكلها المعماري وطبيعتها العامة. فبعد أن كانت تقليدية وتاريخية المعمار، دخلت عليها مبانٍ حديثة، وبعد أن كانت هادئة أثناء الليل أصبحت الآن تتمتع بحياة ليلية توصل الليل بالنهار.

غير أن لايم بيلي، رئيس قسم الأبحاث في وكالة «نايت فرانك»، يقول: «إن غلاء العقارات في موناكو يعوض تدريجياً وعلى المدى الطويل عبر عدم دفع ضرائب الدخل، كما أنك لا تدفع ضريبة الميراث عندما ينتقل العقار من جيل إلى آخر، وهي الضريبة التي تصل في كثير من الدول الأوروبية إلى نسبة 40% من قيمة العقار حين تنتقل الملكية من الآباء إلى الأبناء»، وأضاف بيلي «أن الإقبال على حق المواطنة في موناكو، يزداد باستمرار، لأن الكثيرين من الأثرياء الجدد خارج العالم الغربي، بدأوا يقبلون عليها منجذبين بالإعفاءات الضريبية والتسهيلات المصرفية. وهذا بالطبع من شأنه أن يرفع الطلب على العقارات».

وفي الوقت الحالي يتراوح سعر الشقة من غرفتي نوم وصالة كبيرة وشرفة، ما بين 1.35 و1.8 مليون دولار. أما الشقق الكبيرة التي تحتل الواحدة منها سطح عمارة كاملا (تُعرف باسم Penthouse)، وتتمتع بمساحات كبيرة وبعدد من غرف النوم والشرفات الواسعة، فقد يصل سعرها إلى 30 مليون دولار. وإذا خرجت إلى أطراف المدينة، خصوصاً في المناطق التي تُعرف باسم «الرؤوس الثلاثة» وهي: «كاب أنتيبس»، «كاب دي ألي»، و«كاب فيرات»، فإن أسعار الفيلات تتراوح بين 3 ملايين دولار و130 مليوناً للقصور الفاخرة.

ويبدو أن جاذبية موناكو جعلت المتطلعين إلى الثراء، لكنهم لا يستطيعون مواكبة الأسعار، يقبلون بالخيار الثاني، وهو أن يعيشوا قرب موناكو بدلاً من داخلها. ومثلا، في منطقة «بيوسولي» الفرنسية المحيطة بموناكو، ارتفعت أسعار العقارات بسبب الراغبين في العيش قرب الأثرياء ورجال الأعمال، ربما لأنهم يتصيدون فرصاً تجارية. ففي هذه المنطقة قام مجمع سكني حديث بلغ سعر الشقة فيه من غرفتين نحو 400 ألف دولار، وقد تخاطفها المشترون بسرعة، بحيث لم تتبق غير الشقق الأكثر غلاء، التي يبلغ سعرها نحو مليون دولار، بينما تصل الشقق الأكبر حجماً وأكثر فخامة، نحو ثلاثة ملايين دولار.

وبسبب الإقبال الكبير على الإقامة في موناكو، أصدرت الدولة في العام الماضي تشريعات جديدة للهجرة تقضي بأن يثبت الشخص الذي يرغب في الحصول على حق المواطنة، أنه قادرٌ على العيش في موناكو لمدة 5 سنوات من دون أي دخل يكسبه داخل الدولة، أي من مدخراته الخاصة أو من استثماراته الخارجية. فالفكرة الخفية هي أن يحضر أصحاب رؤوس الأموال فقط وليس المتطلعون للحصول على عمل في قطاعاتها المصرفية مهما كانت مؤهلاتهم العلمية وخبراتهم العملية. والاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هم حملة الجنسية الفرنسية. أما الآخرون فعليهم، بالإضافة إلى إثبات قدرتهم على العيش لخمس سنوات، أن يكشفوا عن جميع ممتلكاتهم وثرواتهم لأحد بنوك موناكو، الذي يقوم بدوره بتأكيد هذه الوثائق واثبات القدرة المالية لصاحب الطلب، ثم بعد ذلك يحصل الشخص على حق الإقامة والتمتع بمزايا الإعفاء الضريبي وسرية الحسابات. أما إذا أراد المستثمر عدم الحصول على جنسية موناكو، فالقانون لا يزال يسمح له بشراء أي عدد من العقارات وفي أي جزء من المدينة. كما أنه يستطيع الشراء عبر شركة «أوفشور» يسجلها في موناكو. وبشكل عام يتفق سماسرة العقارات على أنه إذا لم يكن شح الموارد المالية يمثل عقبة أمام المستثمر، فإن موناكو تعتبر خياراً مثالياً لأنها تقدم خدمة مصرفية ممتازة وأمناً فريداً في أوروبا وسوقاً عقارياً متميزاً وفاخراً ومربحاً، فضلاً عن الطقس الجميل والوجاهة الاجتماعية.