فيتنام.. جهود لإنقاذ المنازل الخشبية

مع غزو «كتل الإسمنت» كافة المناطق

بعض البيوت الخشبية في فيتنام يعود تاريخها إلى مئات السنين (خدمة كي آر تي)
TT

عندما عثرت «دي ليو»، سيدة الأعمال الفيتنامية ـ الإيطالية، على المنزل الذي طالما حلمت به في الريف الفيتنامي، جاء متوافقاً تماماً مع الصورة التي كانت في مخيلتها. وتميز المنزل بسقفه المصنوع من الآجر والمحمول على دعامات خشبية لم يظهر بها أدنى أثر لانبعاجات، علاوة على أبوابه الخشبية التي يرجع تاريخ صنعها إلى القرن التاسع عشر والتي تحمل نقوشاً لا تزال بحالة جيدة لزهرة اللوتس وجاموس الماء.

ونظرت «دي ليو» إلى مسألة أن المنزل سبق الانتفاع به من قبل اللجنة المحلية الشعبية باعتبارها أحد التفصيلات الضئيلة غير ذات الأهمية، لكن في ما بعد اتضح أن مسؤولي الحزب الشيوعي يرغبون في بناء مبنى خرساني حديث محله. حينئذ، ناشدت «دي ليو» المسؤولين السماح لها بالحصول على الأجزاء الخشبية المكونة للمنزل قبل تدميره. بعد ذلك، استعانت «دي ليو» بمجموعة من الحرفيين من أجل فصل أجزاء المنزل الخشبي، وحرصت على تصوير كل قطعة على حدة، بينما حدد العمال رقماً لكل قطعة. ويتكرر هذا المشهد مع المنازل العتيقة بمختلف أنحاء منطقة دلتا النهر الأحمر. ورغم أن الحال انتهى بالكثير من هذه المنازل بإضرام النيران بها، يجري إنقاذ البعض الآخر من قبل السكان المحليين والأجانب على حد سواء. ولكونها أجنبية، لم يكن مسموحاً لـ« دي ليو»عام 2000 بامتلاك عقار داخل البلاد، وهو العام الذي عثرت فيه على المنزل. (من المتوقع أن يصوت المجلس الوطني قريباً على قانون يسمح بمنح بعض الأجانب حق التملك). إلا أن مالك المنزل الذي تستأجره وافق على قيامها بدمج المنزل الفيتنامي القديم بالفيلا التي تقطنها والمكونة من طابق واحد والمصممة على نسق الطراز السائد خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية، وذلك من خلال وضعه أعلى الفيلا.

ومع أن دمج المنزلين بدا أمراً غير منطقي، فقد أثمر في نهاية الأمر عن أحد أكثر منازل هانوي تميزاً. وبصورة أساسية، لم يطرأ أدنى تغيير على الفيلا الأصلية، لذا فإنه عندما يصعد الضيوف السلالم الخشبية القديمة، لا يخطر ببالهم قط ما سيشاهدونه بالأعلى. ومن خلال أبواب مطلية بورنيش أسود اللون يتم الدخول إلى المنزل القديم، البالغ إجمالي مساحته حوالي 54 متراً مربعاً، أو 580 قدماً مربعة. وتقوم أعمدة ضخمة داكنة اللون، تم اقتطاع كل منها من شجرة واحدة، بدعم السقف الخشبي الذي يصل ارتفاعه إلى حوالي 5 أمتار، أو 16.5 قدم، عند أعلى نقطة به. وتدخل أشعة الشمس من خلال مجموعة من الفتحات الموجودة بالسقف. والآن، أصبحت الأبواب التي كانت تؤدي في ما مضى إلى الفناء، تصل إلى شرفة الطابق الثاني، حيث اعتادت « دي ليو» احتساء القهوة. أما النقوش التي ملأت أرجاء المنزل، فقد تمت بموافقة المالك الأصلي للمنزل، الذي سبق وأن عمل بمحكمة هيو. وخلال جولة داخل المنزل، أوضحت «دي ليو» بقولها: «إذا ما نظرت للأعلى، سترى كلمات نصها: تم بناؤه في العام الخامس من حكم الإمبراطور «ثانه ثاي» من نجوين.«، وذلك في إطار ترجمتها لعبارات صينية تم نقشها على السقف. جدير بالذكر أن «ثانه ثاي» حكم بين عامي 1889 و1907، ما يعني أن عمر المنزل يتجاوز 100 عام. وتستخدم «دي ليو» المنزل كحجرة لتناول الطعام، مضيفة إليه مجموعتها المنتقاة من قطع خزفية فيتنامية، يرجع تاريخ الكثير منها إلى القرن الخامس عشر. وبالنسبة للضيوف، يبدو الأمر وكأنهم يتناولون الغداء داخل متحف، لكن بالنسبة لـ«دي ليو»، فإن المسألة تدور برمتها حول منزل وجد وطناً يحتضنه. وبالمثل، وقعت مصممة الأزياء الفرنسية «فاليري غريجوري مكنزي» في غرام المنازل التقليدية القائمة بمنطقة دلتا النهر الأحمر في أواخر التسعينات أثناء زيارتها للريف الفيتنامي للقاء مجموعة من الحرفيين. وقد أخبرت أحد أصدقائها أنها ترغب في الحصول على واحد من هذه المنازل لوضعه بالحديقة التي تملكها في هانوي. واستطردت «غريجوري مكنزي» في سرد القصة بقولها: « ثم في أحد الأيام ظهر صديقي وقال: لقد حصلت عليه! أين أضعه؟«، وذلك عام 1997. وأوضحت « غريغوري مكنزي» أن عملية تفكيك ونقل هيكل المنزل تميزت بالبساطة، نظراً لأن هذه المنازل جرى تصميمها في الأصل بحيث يمكن نقلها حال وقوع فيضانات أو مجرد رغبة المالك في الانتقال بها إلى مكان آخر. وبصورة إجمالية، تطلب النقل سبعة رجال عملوا على مدار 20 يوماً لإعادة تجميع أجزاء المنزل الذي بلغت مساحته حوالي 54 متراً مربعاً. يذكر أن منزل «غريجوري مكنزي» يقع في قرية صغيرة بإقليم «ها تاي»، على بعد 40 كيلومتراً من هانوي. وأشارت المصممة الفرنسية إلى أنه يخص في الأصل جد عمدة القرية الذي عمل مدرساً، وانعكس حبه للتعليم على أركان المنزل، منوهة بأنه: «ما زال بمقدورك رؤية نقوش على الجانب الأيسر من الشرفة ترسم صورة مدرس جالس مع تلميذه وفوقهما تنين ضخم يراقبهما».

أما أكثر المشروعات طموحاً في هذا الإطار فقد تمثلت في ترميم أحد المباني الاجتماعية التي يبلغ ارتفاعها 22 متراً وعثرت عليها «تو هانه ترينة» في إقليم «نام دينه»، على بعد حوالي 90 ميلاً جنوب هانوي. يذكر أن المبنى جرى استغلاله من قبل أبناء الطائفة المسيحية، لكنهم كانوا على وشك حرقه لبناء كنيسة حديثة محله. وقالت «ترينة» التي تملك عدة مطاعم في هانوي: «على مدار شهر كامل، حاولت العثور على شاحنة لنقل دعامات يبلغ طولها 9 أمتار». وفي النهاية، بات الحل الوحيد هو الاستعانة بمركبة لنقل أجزاء المنزل، ثم تعديلها بحيث تتواءم مع العقار الذي تملكه.

وبالفعل، قامت «ترينة» بنقل أربعة مبان، بينها المبنى الخاص بالطائفة المسيحية سالف الذكر، إلى هانوي، واستغلت ثلاثة منها في منتجع «مون ريفر» الذي افتتحته عام 2003 على ضفة النهر الأحمر، أما الرابع فاستخدمته كحجرة للضيوف داخل منزلها. يذكر أن «ترينة» دفعت 700 دولار مقابل الحصول على مبنى الطائفة المسيحية، بما في ذلك تكاليف النقل وإعادة الجمع، بينما سيبلغ سعر المنزل نفسه الآن حوالي 50.000 دولار. إلا أن «ترينة» تؤكد أنه بالنظر إلى القطع الخشبية وجمالها الفتان، ما زال السعر جيداً. إلا أن التساؤل القائم الآن هو ماذا سيكون مصير هذه المنازل حال مغادرة أصحابها فيتنام؟ تؤكد «ترينة»، المتزوجة من أسترالي، أن فيتنام ستبقى موطنها إلى الأبد، وعليه، ستنتقل ملكية هذه المنازل إلى أطفالها. أما «دي ليو» فيتضمن عقد إيجارها لمنزلها بنداً يمنحها حق إزالة المنزل العتيق حال مغادرتها البلاد، لكن بالنظر إلى أن «ليو» وزوجها الأميركي يخططان للعيش في فيتنام لفترة طويلة، فإنها تأمل في ألا تضطر قط لاتخاذ هذا القرار. وفيما يخص «غريغوري مكنزي»، فإنها تنوي نقل المنزل معها، لكن حتى منطقة وسط فيتنام فقط. وقد استغلت المنزل القديم الذي اشترته كغرف مخصصة للحياكة ومكتب ملحق بمحل «سونغ» الذي تمتلكه. وحالياً، تنوي المصممة الفرنسية نقل المنزل إلى مدينة «هوي أن»، حيث تبني منتجعا للإجازات. ورغم حبها الشديد للمنزل، أكدت «غريغوري مكنزي» أنها لن تحمله معها إلى أوروبا، معللة ذلك بأنه لن يتواءم مع المشهد العام هناك، علاوة على اعتقادها بأنه في نهاية الأمر لا يخصها. وقالت: «بالتأكيد كنت أود حمله معي إلى أي مكان أذهب إليه، لكن أعتقد أنه ينتمي إلى فيتنام».

* خدمة «نيويورك تايمز»