الأحياء الشعبية تجتذب الاهتمام العقاري من كل الطبقات

ظاهرة عالمية تعددت أسبابها

الأحياء الشعبية يمكن لها أن تتحسن ببعض الاستثمار («الشرق الأوسط»)
TT

من أنحاء أوروبا الى هونغ كونغ، مرورا بالدول العربية أيضا، تشهد الأحياء الشعبية التي ظلت الطبقات الراقية تنفر منها لعقود طويلة، جاذبية عقارية شديدة بدرجة رفعت فيها الأسعار بنسب أعلى من المناطق الراقية في المدن نفسها. ويبدو أن هناك العديد من الأسباب وراء هذه الظاهرة منها انخفاض الأسعار العقارية تقليديا في هذه المناطق، وإقبال الشباب عليها بخلاف الأجيال السابقة التي هربت منها إلى الأحياء الراقية. ويرى المقبلون على العقار في المناطق الشعبية انها توفر لهم كل احتياجاتهم بتكلفة اقل بالإضافة إلى الروح الاجتماعية السائدة فيها والانتماء القوي الذي يشعر به سكان هذه المناطق بحيث يشعر الساكن بينهم بأنه ينتمي إلى عائلة كبيرة.

ويعرف سكان المدن الكبرى هذه الاحياء تماما وبعضها مغلق تماما امام الاجانب والسياح لانه ظل مجهولا بالنسبة اليهم ولا يذهب اليه هؤلاء الا بصحبة سكان الحي نفسه. واذا أخذت القاهرة كمثال فان الإقبال المتزايد يتوجه فيها الى الأحياء الشعبية مثل شبرا وإمبابة وبولاق ويبتعد، ربما رغما عنه، عن الأحياء المتوسطة والراقية مثل الدقي والزمالك ومصر الجديدة.

ويتكرر الامر في جدة ودبي ودمشق وفاس مع اكتشاف الجيل الجديد للقيم التراثية وربما التاريخية لهذه الأحياء الشعبية بينما يعود اليها البعض بسبب «نوستالجيا» قضاء فترة الطفولة فيها. وبالتأكيد لا تقتصر هذه الظاهرة على المدن العربية، فهناك مدن أوروبية وآسيوية تمر بمراحل مشابهة، الأمر الذي حدا ببعضها إلى توجيه المزيد من الاستثمار والمشاريع نحو هذه الأحياء للنهضة بها.

وتمتد هذه الظاهرة الى مدن العالم الأخرى أيضا حيث كانت اكبر المشاريع العقارية الجديدة في مدينة هامبورغ الألمانية في مناطق شعبية كانت في الماضي مرتعا للمخدرات والعصابات. واكتسبت منطقة «ريبربان» موجات متتالية من سكان الطبقة الوسطى الذين حولوها من منطقة عشوائية الى مقصد للسياحة الداخلية كمنطقة مميزة تراثيا. وكان مشروع «بافاريا» من احدث المشاريع التي نفذت في المنطقة وهو مشروع يتكون من برج سكني يمتد على مساحة 28 ألف متر مربع يقدم وحدات سكنية وفندقا يطل على معالم المدينة.

وتقول متحدثة من شركة العقار الألمانية المنفذة للمشروع، وهي شركة إنجل فولك، ان شركات العقار كانت تتجنب هذه المنطقة في الماضي بسبب سمعتها الرديئة، اما الآن فالإقبال يتزايد بينها على بناء المزيد من المشاريع مع تزايد الإقبال من الجيل الجديد. وهي تضيف ان زيادة اسعار الأراضي وزيادة الطلب على الإسكان في مناطق قريبة من وسط المدينة دفع الشركات الى تغيير مفاهيم الماضي والاتجاه نحو المناطق الشعبية. ودفعت شركة بيرتلز الالمانية 350 مليون يورو لشراء الاراضي التي يقام عليها مشروع «بافاريا»، وهو اعلى مبلغ دفع في شراء اراضٍِ في مدينة هامبورغ. ويجذب المشروع العديد من المشاريع المماثلة حوله حيث يقام على مقربة منه مشروع «اطلانطيك هاوس» الذي يرتفع 21 طابقا ويضم وحدات سكنية ومكتبية ومنافذ تجارية، حين يكتمل المشروع في العام المقبل. ودفعت شركتا استثمار مبلغ مائة مليون يورو لشراء الاراضي التي يقام عليها المشروع. كما يقام مشروعان اخران في المنطقة باستثمار يبلغ 150 مليون يورو.

ويأتي هذا التيار على الرغم من ازمة العقار التي تؤثر سلبيا في الكثير من القطاعات وايضا متاعب الاسواق المالية في المرحلة الحالية التي اجبرت شركات الاستثمار العقاري على مراجعة حساباتها بعد تردي ارباحها. ولا تجد شركات العقار صعوبة في اقناع البنوك بتمويل بعض هذه المشروعات على اساس انها تقام في مناطق راسخة عليها طلب متزايد. وتكتشف البنوك بعد دراسات الجدوى ان المناطق الشعبية في الكثير من المدن الاوروبية والاسيوية تحوي الكثير من الاثار والمعالم التي تجذب الزيارة اليها، وان قيمة العقارات فيها تزداد عاما بعد اخر بسبب الطلب المتزايد والمزايا التي يقدمها الموقع.

ويتكرر المشهد في امستردام التي يعود تاريخ الحي الشعبي فيها الى سبعة قرون مضت. وتنفق بلدية امستردام المزيد على تجميل المنطقة بينما انتقل اليها اخيرا مطورو العقار. واشترى مستثمر نحو 18 بناية متجاورة بمبلغ 25 مليون يورو من اجل اعادة تصميم المساحة وبناء مشاريع معمارية وسياحية متكاملة وسط العديد من المباني الاثرية التي يتعين الحفاظ عليها بالقانون.

وفي مدريد يشهد الحي الشعبي المسمى «مالاسانا» نهضة من القطاع الخاص الذي يضغط على بلدية المدينة لكي تعتمد مشاريع تطوير شاملة للحي. وفي الوقت نفسه تنشغل شركات العقار بشراء المساكن القديمة المتجاورة لكي تكون جاهزة للازالة فور صدور الموافقة على مشاريع التطوير. وبين الازقة الضيقة والمباني العتيقة تظهر بالفعل بعض المساكن الراقية والبوتيكات الحديثة.

ومن اوروبا الى هونغ كونغ حيث نتج عن ندرة الاراضي وارتفاع اسعارها توجه شركات العقار الى حي «وان تشاي» الشعبي الذي تقود شركات العقار المحلية موجة شراء مكثفة للاراضي المتاحة فيه. وتتقدم شركة واحدة على الاقل للحصول على تراخيص بناء برجين للاسكان والمكاتب بارتفاع ستين طابقا لكل منهما. ويقول طوني تشان مدير مكتب استشارات محلي ان اسعار الاراضي في المنطقة ارتفعت بنسبة 40 في المائة خلال العامين الاخيرين. وهو يؤكد ان قرارات تطوير الحي الشعبي في المدينة اتخذتها شركات العقار المحلية منذ فترة طويلة. ونتج عن الاهتمام من شركات العقار الكبرى التي فتحت فروعا لها في المنطقة دخول المستثمرين والبنوك والمشترين الذين اكتشفوا فرص الربح والنمو.

ويشرح البروفيسور البريطاني مايكل بول المتخصص في الهندسة المعمارية هذه الظاهرة بأنها نتجت عن الارتفاع الكبير في اسعار الاراضي في العقد الاخير مع زيادة الندرة الامر الذي دفع شركات العقار الى تطوير الاحياء الشعبية لانها في نظرهم توفر عوائد اعلى من الذهاب الى مناطق جديدة غير معهودة.

ولا تأتي هذه المشروعات بلا مشاكل حيث تقام الدعاوى القضائية للشكوى من ان هذه المشروعات المكثفة في المناطق الشعبية ترفع اسعار العقار فيها وتغير من شخصيتها. وتعترض العديد من الجمعيات الشعبية على المزيد من التطوير العقاري وتطالب البلديات بوقف اصدار التراخيص. وتتكرر هذه الدعوات في الكثير من الاحياء الاخرى في العديد من المدن.

ويمثل التطوير السريع للاحياء الشعبية بعض المخاطر للمستثمرين، حيث يمكن للاسعار فيها ان تتراجع ايضا بنفس نسبة الارتفاع في غضون سنوات قليلة خصوصا مع احتمال تغير الذوق العام ووجود المزيد من الوحدات العقارية المتراكمة غير المباعة في مناطق شعبية لم تتغير في طبيعتها العشوائية بعد.

وهناك جهود تاريخية ناجحة في تطوير الاحياء الشعبية مثل حي تايمز سكوير في نيويورك الذي يعد من ارقى الاحياء فيها اليوم واغلاها ثمنا بعد ان كان مرتعا لتجار المخدرات وعصابات المافيا قبل نصف قرن. كما ان حي «ناتنغ هيل غيتس» في لندن ظل لفترات طويلة منطقة فقيرة تعيش على هامش الحياة الصاخبة في لندن وتعاني من مشاكل عنصرية الى ان تغيرت طبيعتها بزيادة الاستثمار العقاري فيها لكي تصبح الآن من ارقى الاحياء الارستقراطية التي يقبل عليها مستثمرو العقار في العاصمة البريطانية.

ولكن الاسلوب نفسه لم ينجح في طوكيو التي يوجه فيها الاستثمار العقاري بقوة الى حي شعبي اسمه كابوكيشو في التسعينات. ولكن مع مرور الوقت تراجعت الاسعار مرة اخرى ولم تتغير طبيعة الحي الشعبي وفشل العديد من المستثمرين في استعادة الاموال التي دفعوها في شراء عقاراتهم.

في الاحياء العربية يتغير الوضع جذريا مع متغيرات العرض والطلب، ولكن الصورة تتجه بوجه عام نحو زيادة الاسعار في الاحياء الشعبية متماشية مع الطلب المتزايد على العقار فيها، ولكنها ما زالت في منافسة غير متكافئة مع الاحياء الراقية التي ما زالت تجتذب الكم الاكبر من الطلب من هؤلاء الذين يطمحون الى اكتساب السمعة و«البرستيج» بالخروج من الاحياء الشعبية التي ولدوا فيها الى احياء ظلت لسنوات طويلة تمثل قمة الطموح في خيالهم. وما زال فارق الاسعار مستمرا بين الاحياء الشعبية والثرية ولكن مع تراجع طفيف في الهامش لصالح الاحياء الشعبية.

* المناطق الشعبية يمكن أن تتحسن بمشروعات صغيرة

* قد يكون من الغريب ان تعترض جهات شعبية على مشاريع التطوير العملاقة التي تاتي الى الاحياء الشعبية باستثمارات مكثفة. ولكن مخاوف اهالي هذه الاحياء حقيقية لانهم يريدون الحفاظ على الطبيعة الخاصة التي طالما ميزت احياءهم العريقة ومنحتها شخصياتها المميزة. وليس من الضروري ان يتم التطوير بالاساليب الحديثة العملاقة، فالكثير من الجهود الناجحة كانت على نطاق محدود.

وتظهر قيمة المشاريع الصغيرة في الجهود التي جرت في اعادة اعمار المناطق المنكوبة بالاعاصير حيث تجري جهود اعادة بناء المنازل فيها بأقل تكلفة ممكنة ولكن مع قدر كبير من العناية بالتفاصيل المعمارية لكي تحافظ جهود التعمير على شخصية الموقع كما كان قبل الكوارث الطبيعية.

ونجحت هذه الجهود بوجه خاص في الولايات المتحدة خصوصا بعد اعصار كاترينا وايضا في جهود اعادة بناء بلدة سافانا في ولاية جورجيا. ودفع النجاح الذي حققته بعض الجمعيات الخيرية في بناء منازل ذات تصميمات رائعة ولكن باسعار رخيصة بشركة تصميم هندسي الى تقديم نماذج لهذه التصاميم يمكن الحصول عليها من على الانترنت مجانا للتطبيق في مواقع اخرى.

وتعتقد الشركة، واسمها «اربان ديزاين اسوسيتس» ان المنازل التي تبدو رخيصة سوف تتم معاملتها على هذا الاساس بحيث تتدهور قيمة الحي بأكمله مع تكرار المنازل الرخيصة فيه. وهي تحاول ان تثبت ان الاحياء يمكن ان تتحسن بتطبيق افضل معايير الهندسة المعمارية فيها.

وفي الاحياء العربية يمكن تطبيق المبدأ نفسه على اساس ان تحسين سمعة وشكل المكان يمكن ان يتم عن طريق العناية بالمظهر العام وتطبيق قواعد للصيانة والنظافة يمكنها ان ترفع من مكانة الاحياء الشعبية بدلا من ضخ الاستثمارات المكثفة التي يمكن ان تغير من طبيعة المكان. ويمكن لجمعيات الحفاظ على التراث مثلا ان توجه جهودها نحو جوانب جمالية في الاحياء الشعبية لكي تبرز شخصياتها، مثل تنظيف الواجهات او ترميم النوافذ الخشبية القديمة وابراز قيمتها الجمالية. ويمكن الاستفادة من تجارب المدن والاحياء الاخرى في تحسين البيئة لكي لا تقل قيمة عنها في الاحياء الاخرى.

وفي بعض المدن الاميركية الفقيرة التي كانت تعاني من العنف، طبقت شركة استشارية كانت معنية بتحسين الموقع مبدأ بناء سياج ابيض لكل حديقة امام المنازل وزراعة بعض الورود فيها. وبعد تنفيذ المشروع الذي لم يتكلف سوى نصف الميزانية المخصصة له تغيرت طبيعة المنطقة بالكامل واختفت العصابات من شوارعها الى مناطق اخرى. وينتج عن تحسين البيئة المحلية ظهور شعور الانتماء بين السكان للمحافظة على طبيعة المكان وصيانته.