«ممالك صغيرة» للشعب الصيني في الدولة الحديثة

معرض يقدم دليلا بأنها ما زالت تمثل أرضًا خصبة عالمية لتجارب المهندسين المعماريين

المعرض الجديد عرض نوعا فريدا من العقار للشعب الصيني
TT

قد لا يتجه معرض «تيولو للإسكان الرخيص في الصين» ـ الذي افتتح أبوابه في متحف كوبر هويت للتصميم الوطني ـ إلى إلغاء صورة النمط الغربي من المدن الصينية وهي الصورة الظاهرة من الأبراج الكبيرة الشاهقة المخيفة. ومع ذلك فإن تلك المشروعات الهندسية الرائعة (والمتمثلة في تيولو) تبدو وكأنها دائمًا هي الاستثناء وليست القاعدة. ومع ذلك، فإن المعرض يقدم دليلاً إضافيًا بأن الصين ما زالت تمثل أرضًا خصبة عالمية لتجارب المهندسين المعماريين. وامتدت هذه الفورة الابتكارية إلى الإسكان الرخيص، بالإضافة إلى الاستادات الأولمبية الضخمة وأبراج المكاتب والشركات الزجاجية الساطعة، ومن شأن هذا أن يكون مبعث حسد في أعين الأميركيين، حيث لم يكن الإسكان الشعبي موضع أو محل اهتمام منذ فترة طويلة.

وقد صممت شركة أربانوس ـ والمتوقع لها الازدهار والنجاح ـ مشروع تيولو، وهو عبارة عن نموذج للبنايات السكنية التي كانت موجودة لقرون، التي تم تجديد تصميماتها لتواكب الحقائق الصعبة للمدينة العالمية الرأسمالية. ويذكرنا هذا المشروع بأن الفن المعماري البارز يمكن تسخيره لخدمة الخير، والاعتراف بكرامة الشعب الذي طالما عومل بتجاهل. ويفتح معرض كوبر هويت أبوابه على فكرة الرجوع إلى الأسلاف، حيث يعرض صفا من النماذج الدراسية للخزف الخام في صندوق من الزجاج ـ وهي التنوعات الأولية لتصميمات الشركة ـ وتخص بنايات التيولو القديمة في الصين ـ وهي كلمة صينية معناها الممالك الصغيرة ـ وكانت تُبنى في محافظة فوجيان القروية لحماية القرويين من الجيوش الغازية. ووُضع تصميم التيولو في وسط القاعة المركزية الكبرى، ويظهر لنا التصميم على شكل مبنى محاط بحوائط طينية سميكة، بها باب واحد ثقيل للغاية يؤدي بدوره من المبنى إلى العالم الخارجي. وبدأت العملية التصميمية لشركة أربانوس بطرح سؤال بسيط حول كيفية تبني هذا التصميم الإسكاني القديم داخل الحقيقة الراديكالية الجديدة، والمتمثلة في مستوى التحديث العمراني الصيني سريع التقدم. فقبل 50 عامًا، كانت غالبية البلاد تتألف من القرى الريفية. أما الآن، فأكثر من 150 مدينة من مدنها بها سكان يبلغ تعدادهم المليون أو أكثر ـ مقارنة بـ9 مدن فقط في الولايات المتحدة ـ كما أن سرعة التمدن والتحضر فيها في تسارع شديد الاحتمالية. ومن أسباب الشكوى المستمرة من أزمة الإسكان أن المهاجرين ـ الذين هم في أمس الحاجة إلى إيجاد فرص العمل ـ يتجهون إلى المدن المزدهرة مثل شينزهين، وغوانغزهو. ونظرًا إلى أن الحكومة أوقفت بناء المشروعات الإسكانية الشعبية الكبيرة منذ عقد منصرم، فقد انتهى الحال بالنسبة للكثيرين إلى السكنى في الأحياء القذرة والتي تحتوي بشكل مفرط على الكثير من الأبراج التي بناها المقاولون المحليون بالقليل من عمليات الإشراف أو المراقبة. وغالبًا ما تعيش الطبقة الثرية الجديدة في أماكن مغلقة تماما عليهم في مبان مرتفعة باهرة بالقرب من تلك الأحياء الفقيرة، بصورة غير آبهة تماما بالفقر المدقع الكامن حولهم. وبإدخال هذه النماذج المعمارية وسط هذا العالم المقيت من ناطحات السحاب عديمة اللون، فإن الحلم المبدئي لمباني وتصميمات التيولو التابعة لشركة أربانوس سيكون لها حضور رمزي قوي من نوعه. فهي تعتبر رمزا للتحصين من المغيرين المعاصرين: ألا وهم الطامحون الذين غالبًا ما طردوا الفقراء من الأحياء المدنية لإفساح الطريق لأنفسهم للمزيد من عمليات التطوير. وقد تم تغطية مبنى التيولو الأول ـ الذي تم الانتهاء منه أخيرًا في غوانغزهو ـ بغطاء أسمنتي مثقوب في محاولة للإشارة إلى الحياة الغنية التي يتسم بها المبنى. وتعمدت أربانوس إنشاء علاقة شديدة بين الحياة داخل المبنى وخارجه، حيث أنشأت سلسلة من المحال الصغيرة المحيطة بالمبنى. كما قام المهندسون بتقطيع جزء من الغطاء المستدير لتوسيع مطعم والعديد من الأدوار السكنية داخل هذا المجمع، مما جعل أعين المارة عادة ما تتجه إلى داخل المبنى. وفي أماكن أخرى، يمكنك رؤية أبواب للدخول تؤدي إلى أفنية صغيرة بالداخل وحانات صغيرة. وتذكرنا الشقق السكنية نفسها بالمفهوم المعماري الخاص بلو كوربوزييه، الذي يشير إلى هندسة «الحد الأدنى»، والمساحات المدمجة شديدة الفعالية والتي صممها بعد أن صمم صوامع الرهبان الصغيرة. وتعتبر وحدات التيولو بالغة الصغر ليست أكثر من حجرات للنوم فقط يستفيد منها فريق الخدمة الخاص بالمبنى. أما الشقق السكنية الأكبر مساحة، فقد صُممت للعمال المهاجرين أو العائلات الصغيرة، وتتألف من مساحات صغيرة للمعيشة، وحمامات تم وضعها بإتقان خلف المطابخ. وتم تصميم أبواب على شكل حرف L تربط حجرات المعيشة بغرف النوم، وتم وضعها في أركان الحوائط لتوفير مساحات الحوائط. كما توجد شُرفات صغيرة، بعضها مغطى بغطاءات خشبية جميلة الشكل، ومن الممكن استخدامها لتعليق الملابس المغسولة حتى تجف. وقد تم تعزيز نمط الحياة الشعبية عبر حلقات الشرفات المحيطة بالقاعة الرئيسة والجسور التي تربط أسطح وحدائق الادوار العليا للمجمع السكني. ومثلها مثل المشروعات الإسكانية الشعبية التي كانت في الماضي، تهدف تلك الأماكن على إغراء الأشخاص بالخروج من شققهم السكنية وتشجيع التواصل فيما بينهم. كما أن تلك الأماكن تعمل بدورها على نقل إحساس كبير بالمساحة، وذلك نظرا إلى أن التصميم عمل على استغلال الحد الأقصى من الكفاية والفعالية. ويعد هذا النموذج الذي يعمل على الموازنة الأنيقة بين القيم التاريخية والمعاصرة خاصة بشركة أربانوس. ومنذ بضعة شهور، زرت متحف الفن الذي كانت الشركة قد أتمته في دافن عام 2006، وهو أحد أحياء شينزهين الذي يمكنك فيه رؤية الفنانين وهم يجلسون في زقاق ضيق ويرسمون أعمالهم الفنية التي تتراوح ما بين الحياة الصينية المعاصرة وحتى الأعمال الفنية القديمة لكبار الفنانين الأوروبيين. وقد تم بناء المتحف الذي يتخذ شكلا أشبه بالمستودعات المحصنة على جانب أحد التلال الشاهقة، وفيما وراءه مباشرة ظهرت مجموعة من الأبراج السكنية الحديثة. وبالداخل، توجد عدة أروقة مخصصة لمعروضات تحيطها مجموعة من السلالم المؤدية إلى الجزء الخلفي من المبنى، ثم إلى حديقة مخصصة لفن النحت والاستوديوهات الخاصة بالفنانين. ومن هناك، يوجد جسور تؤدي من جديد إلى الشارع الرئيس. وترمي السلالم والطرقات الموجودة داخل المتحف إلى مشابهة الأزقة الموجودة بالأحياء المجاورة، كما لو كانت المدينة تتدفق بشكل مباشر من داخل المتحف ذاته، وبذلك يتداخل الفن والحياة العامة في نسيج المدينة. على بعد نصف ساعة، في وسط مدينة شينزهين، يوجد متنزه عام صغير ومتحف من تصميم شركة أربانوس عند أطراف حي يخص العمال المهاجرين يتسم بكثافته السكانية الشديدة. تم الانتهاء من بناء المتنزه عام 2006، وجاء تصميمه على شكل سلسلة من المساحات المستوية التي تبدو كما لو كانت قابلة للطي، لذا تبدو الأرض كما لو كانت تتفكك لتسمح للمدينة بالتدفق عبر الموقع. ويوجد بالرصيف التواءات صغيرة تعكس النمط السائد بالأزقة المجاورة. ويتسم المتنزه بجانب مائل يخلق أرضاً منحدرة تمتد حتى سطح متحف صغير.

كان من شأن الحساسية التي تبديها شركة أربانوس تجاه مسألة الاستمرار التاريخي ارتباطها بمجموعة كبيرة من المهندسين المعماريين، بداية بستيفين هول وحتى إدواردو سوتو دي مورا. ومن الواضح أن التركيز ينصب على الحركة وتدفق الأجساد عبر المساحات والبناء الذي يربط الأفراد ببعضهم البعض، وليس على مجرد الأنماط المعمارية. وربما تعكس هذه الفلسفة وجهة النظر المتميزة لمؤسسي الشركة، إكسيادو ليو ويان منج وهيوي وانج، حيث ترعرع الثلاثة خلال "الثورة الثقافية"، وهي حقبة تميزت بالنشاط الاجتماعي والفكري، وكذلك القسوة البالغة. وقد غادر الثلاثة الصين للدراسة في الولايات المتحدة، حيث عايشوا الديمقراطية الغربية والتوجهات الاستهلاكية الفجة. وعاد الثلاثة إلى الصين وأنشأوا شركة ذات طابع تقدمي داخل دولة مزدهرة تتعرض قيمها الأصيلة لصدمات قوية. ولا شك أن هذه الخبرات الثرية مكنتهم من رؤية العالم من خلال زوايا متنوعة، وهي ميزة لا تقدر بثمن بالنسبة للمهندسين المعماريين، الذين تتمثل مهمتهم الأصعب في محاولة تحقيق التوازن بين قيم وعناصر قد يبدو من المتعذر التوفيق بينها. كما ساعدت هذه الخبرات في صبغ عملهم باهتمام نادر من نوعه بالنسيج الاجتماعي والتاريخي للمدينة. ونظرا لبنائه على مثل هذا الأساس المتين، فإن الاحتمال الوحيد أن أعمالهم المعمارية سوف تستمر في النجاح.

* خدمة «نيويورك تايمز»