هل انتهى عصر الاستثمار العقاري؟

الشراء للتأجير لا يغطي تكاليفه.. والمستأجر ملك السوق

الإيجارات توفر عقارات ذات نوعية فاخرة بأسعار رخيصة («الشرق الأوسط»)
TT

ما زالت تفاعلات الأزمة المالية التي تتحول الى كساد اقتصادي وعقاري، تتفاعل على أكثر من صعيد. ففي لندن بلغ اليأس بشركة تسويق عقاري أنها عرضت تسويق العقار بلا عمولة بيع مقابل مبلغ صغير يدفع مقدما. كما ان تيار التراجع السعري وتقديم عروض اقل من الثمن المطلوب ما زالت منتشرة في الأسواق، خصوصا للعقارات التي تهددها البنوك بالاستيلاء عليها او مصادرتها. وفي مجال آخر هو مجال الاستثمار بغرض التأجير، لم تعد الإيجارات تغطي أقساط العقار من ناحية، كما ان قيمة العقارات نفسها في تراجع، وهكذا يجد المستثمرون في هذا المجال ان خسارتهم مركبة.

ويكتسب هذا المجال أهمية خاصة في بريطانيا نظرا للإقبال المكثف عليه من المستثمرين العاديين منذ أيام الإقراض السهل. فكان مجال ملكية وتأجير العقار من المجالات التي تتيح للمستثمر الفرد أن يتحكم في استثماره بنفسه ولا يسلم مدخراته لمدير استثمار في بنك او صندوق معاشات لا يعرف عنه شيئا. والى حد ما يمكن الاعتراف بأن العقار اثبت مرة أخرى انه الخيار الأكثر أمنا حتى في حالات التراجع، وذلك لان الاستثمار البديل في البورصات أدى بالمقابل إلى خسائر باهظة.

وتنقسم الآراء في السوق البريطاني حول وضع سوق العقار الإيجاري، فالبعض يعتقد انه تخطى مرحلة تحقيق الأرباح وأصبح عديم القيمة الاقتصادية، والبعض الآخر يعتقد ان عدم البيع والشراء في أسواق اليوم يعني ببساطة ان الخيار الوحيد المتاح في الأسواق الآن هو الإيجار. وتقول مؤشرات السوق ان العقارات المعروضة للإيجار تزيد قليلا عن الطلب، وبالتالي تميل الإيجارات الى التراجع ويجد المستأجر ان لديه خيارات افضل من مالك العقار.

وهناك جوانب من الصحة في كل الافتراضات وفقا للمنطقة وظروف المعيشة فيها. فالمناطق التي تعاني من نسب بطالة عالية تشهد تراكما في العقارات الخالية وهبوطا في العوائد الايجارية. ويجد بعض أصحاب العقارات المعروضة للإيجار ان ساكنيها الذين يفقدون وظائفهم يغادرونها فجأة، لكن الأقساط العقارية لا تتوقف مع بقاء العقارات شاغرة. كما توجد حالات لسكان لا يستطيعون تسديد إيجاراتهم مما يسبب خسائر لمالك العقار. ويشبه الوضع الحالي الحلقة المفرغة. فالعقارات الشاغرة تعرض للبيع بالجملة، ومع عدم وجود مشترين تهبط أسعارها بسرعة، ويؤدي هذا بالتالي الى سقوط أصحابها في فخ القيمة السلبية، حيث قيمة القروض اكبر من قيمة العقارات ذاتها.

لكن هذا الوضع لا يسري في العادة إلا على هؤلاء الذين دخلوا السوق حديثا واقترضوا بكثافة لشراء العقارات. لكن إذا كانت نسبة القروض الى قيمة العقار متدنية فلا خوف من أوضاع السوق الحالية.

وأشار إحصاء أجرته هيئة وكلاء الإيجار البريطانية (ARLA)، الى ان معظم أصحاب العقار الذين شملهم الإحصاء، قالوا إن نسبة الاقتراض الى قيمة العقار لا تزيد في المتوسط على النصف، وقد تصل في حالات قليلة الى 75 في المائة. وهذا يعني ان تراجع السوق بنسب تصل الى 10 او 15 في المائة لن يؤثر كثيرا في هذه الفئة.

وانتهت الى غير رجعة قريبة مرحلة المضاربة على العقار بالشراء والبيع بأرباح بعد عدة أشهر او سنوات. فالوضع الحالي يشير الى ان من يدخل الى هذا المجال الآن عليه ان يوفر قرضا متدني التكلفة وساكنا للعقار يدفع إيجارا يغطي تكاليف القسط العقاري، ثم ينتظر، ربما لعشر سنوات مقبلة حتى تتحسن قيمة العقار نفسه.

ولا شك ان دورة العقار سوف تعود الى النشاط مرة أخرى، لكن لا يمكن لأحد ان يتوقع نسبة الانتعاش ولا المدى الزمني الذي يحتاجه هذا الانتعاش لكي يعود. الأمر الحاسم في المعادلة هو أن الطلب على العقار يزيد على الإمدادات دوما وان هذا الطلب سوف يستمر في الزيادة في المستقبل، خصوصا مع تراجع نشاط مشروعات العقار الجديدة.

بل ان هناك العديد من المستثمرين المحترفين الذين يزيدون من استثمارهم في الوضع الراهن بشراء المزيد من العقارات بأقل من قيمتها السوقية. احد هؤلاء اسمه فيليب ستيواردسون يمتلك 84 عقارا. وهو يقول انه اشترى 10 عقارات إضافية في الثلاثة أشهر الأخيرة بأسعار تقل عن قيمة السوق منذ عام واحد بحوالي 40 في المائة. وهو يشير الى ضرورة الاختيار بعناية للعقارات التي تحتاج لبعض الترميم او تلك التي يمكن توسيعها او تحويل استخدامها بحيث تزيد من عوائد إيجاراتها. والأمر المؤكد من أمثلة هؤلاء المحترفين ان السوق في وضعه الحالي لا يسمح بدخول الهواة كما لا توجد فيه فرص إقراض كما كان الوضع في الماضي.

والأمر المشجع هو ان نسبة صغيرة من المستثمرين المحترفين تتعرض لمتاعب مالية من جراء أزمة الائتمان، حيث تقول إحصاءات مجلس الإقراض العقاري البريطاني إن واحدا في المائة فقط من المستثمرين العقاريين يتخلفون عن دفع أقساط قروضهم الشهرية مقابل نسبة 1.5 في المائة من المشترين لغرض السكن. أيضا كان من نتائج تراجع قيمة العقار ان نسب العوائد الإيجارية زادت بالمقارنة مع أسعار العقار الى حدود سبعة في المائة الآن بعد ان كانت أربعة في المائة في العام الماضي. من ناحية المستأجر، يجد البعض ان الاختيارات صارت متاحة لمساكن افضل بأسعار ارخص. ومع زيادة العقارات المعروضة في السوق يمكن للمستأجر ان يتفاوض على دفع إيجارات اقل او ان يتوجه الى مواقع أفضل او اكبر مساحة بالإيجار نفسه. وهو في المرحلة الحالية يملي شروطه على مالك العقار ويتوقع خدمات أفضل مع التزام بالحفاظ على الإيجار بلا زيادة طوال فترة التعاقد.

ولا يجد المستأجر نفسه في لهفة لكي يتخلص من مرحلة الإيجار الى التملك، فالإيجار حاليا، حتى في بريطانيا، أصبح الوسيلة المألوفة للتعامل مع العقار بدلا من التملك. ويعرف المستأجر ان أفضل مأوى من مشكلة الائتمان وتراجع الأسعار هو اللجوء الى الإيجار وتأجيل قرار الشراء الى حين استقرار الأمور. وتؤكد جين انغرام، من وكالة سافيل للإيجار، ان السوق البريطاني يشهد الآن نوعا جديدا من المستأجرين من ذوي الدخل المرتفع الذين يقبلون على الإيجار كخيار أول ولا يعبأون بالسوق العقاري من الناحية الاستثمارية. وتضيف ان البعض ينظر الى الإيجار كخطوة على السلم الاجتماعي، حيث تتاح لهم الآن فرصة استئجار عقارات فاخرة في مواقع ارستقراطية بأسعار متهاودة. وفي بعض الأحيان يطالب المستأجرون بتخفيض في الإيجار بنسبة 10 في المائة او اكثر.

ويؤكد بعض المستأجرين ان تجربة الإيجار كانت ايجابية لأنها ارخص من أقساط شراء العقار، كما أنها توفر مساكن أفضل فيما يتكفل مالك العقار بحل كل مشاكل الصيانة وتأمين العقار نيابة عن الساكن.

شركة أخرى لتوكيلات البيع والإيجار اسمها «سورسنغ بروبرتي»، كانت تتخصص بنسبة 80 في المائة في البحث عن العقارات المناسبة للبيع لزبائنها. لكن مديرة الشركة جو ايكلز، تقول إن هذه النسبة انقلبت لكي تكون 80 في المائة من الباحثين عن عقارات للإيجار. وهي تؤكد ان الإيجار ارخص من الشراء حيث نسبة الفوائد على القروض العقارية حاليا لا تقل عن 6.3 في المائة، بينما نسبة الإيجار الى قيمة العقار لا تزيد على 4.5 في المائة.

وتشير إحصاءات المعهد الملكي للمسّاحين المعتمدين (RICS)، إلى ان معدلات المقبلين على الإيجار في تزايد مستمر، مع ارتفاع الإقبال من قطاع المشترين الذين فشلوا في الحصول على قرض عقاري. لكن على الرغم من ارتفاع الطلب، إلا أن معدلات الإيجار هبطت بمقدار 5.5 في المائة خلال الربع الثاني من العام وفقا لأرقام شركة هامتونز العقارية. ويبدو ان الزيادة كانت اكبر بين المستثمرين الذين رفضوا بيع عقاراتهم رخيصا وتحولوا الى تأجيرها خلال الفترة الصعبة. ولم تتراجع الإيجارات في الكثير من المناطق، سواء في شمال بريطانيا او في أوروبا لوجود مرونة أكثر بين أصحاب العقارات لبيعها بأسعار ارخص وفق ظروف السوق.

لكن من المتوقع ان تتراجع الإيجارات نظرا لوجود منافسة أخرى من شركات العقار الجديد التي فشلت في بيع وحداتها الجديدة وتعرضها للإيجار حتى تمر مرحلة الكساد. وتقدم بعض الشركات عروضا سخية منها تعاقدات إيجار تتضمن وعدا للبيع بسعر ثابت في المستقبل بعد فترة إيجار. وتعد إحدى الشركات، واسمها «زون للتنمية»، مستأجريها برد كل مبالغ الإيجار بعد عام إذا ما اقبل هؤلاء على الشراء.

ورغم الاعتقاد السائد ان الإيجار هو النموذج المثالي للمستقبل، فإن فكرة التملك ما زالت تراود العديد من المستأجرين، خصوصا مع تراجع معدلات الأسعار الى ما يناسب ميزانياتهم. لكن الجميع ينتظر عودة السيولة الائتمانية الى الاسواق.

* توجهات الأسواق في فترة ما بعد الأزمة

* الأزمة الائتمانية الحالية هي الأعمق والأخطر باعتراف العديد من الخبراء منذ كساد الثلاثينات العظيم. لكن هذه المرة وفرت الحكومات، خصوصا في أميركا وبريطانيا، مليارات الدولارات لزيادة السيولة واستئناف دوران عجلة الائتمان في الأسواق. ونظريا، يمكن للوضع الاقتصادي ان يتحسن وفقا لهذه التدفقات المالية والضمانات، لكن واقع الأسواق يؤكد ان مرحلة الخطر ما زالت قائمة. ويبدي بعض الخبراء بآراء تشير في مجملها إلى ان الإجراءات الحكومية سوف تنقذ الموقف، لكن بعد حين.

من هؤلاء رئيسة قسم الأبحاث في شركة سافيل، يولاند بارنز، التي تقول إن عودة الانتعاش حتمية حتى لو استغرق الأمر 20 عاما. وتشير الى ضرورة عودة الثقة الى المستهلك أولا. وهي تعتقد ان الحكومات التي تسيطر الآن على البنوك لن تسمح بتشريد آلاف العائلات من بيوتها في حالات العجز عن دفع أقساط القروض العقارية. كما تتوقع ان تتراجع أسعار العقار بنسبة 25 في المائة على الأقل وان تبقى ضمن هذا المعدل الأدنى لعدة سنوات، كما سبق وحدث بين عامي 1992 و1995. وهي تختم بالقول إن معدل الإيجارات الآن يشير الى ضرورة انخفاض قيمة العقارات بنسبة الربع على الأقل.

ويرى المستشار في شركة شاركول المالية بوب بارنز، أن الصعوبة الحالية تكمن في إصرار البنوك على تقديم قروض تقل عن قيمة العقارات بنسبة 25 في المائة لأنها تعتقد ان هذا هو هامش الخطورة في السوق. لكن هذا يعني ان التمويل لن يذهب إلا لهؤلاء النخبة الذين يملكون مبالغ طائلة يدفعونها كمقدم للعقار. وهو يعتقد ان الوضع لن يتغير حتى تنخفض أسعار العقار من ناحية وتبدأ البنوك في الإقراض بنسبة عالية تصل الى 95 في المائة من قيمة العقار، من ناحية أخرى.

أما مدير الإقراض في شركة هامتونز العقارية، تشارلز ويلان، فيرى ان قيمة الضخ المالي الحكومي البالغ 37 مليار جنيه استرليني سوف تحسن من الوضع، لكنها لن تكون الحل السحري. وهو يعتقد ان استعادة السيولة سوف يستغرق عدة أسابيع حتى تستعيد البنوك توازنها.

ويميل ليام بيلي، رئيس قسم الأبحاث في شركة نايت فرانك الى التشاؤم، حيث يعتقد انه على الرغم من الجهود الحكومية إلا أن أسعار العقار سوف تتراجع بنسبة لن تقل عن 30 في المائة، ولن تعود للانتعاش قبل عام 2010 بحد ادنى. وهو يعتقد ان مثل هذا التراجع السعري يمكن ان يحدث بين الآن وبين العام المقبل، وهذا في حد ذاته سوف يشجع المستثمرين على دخول السوق مرة أخرى في سوق وصلت لحدها الأدنى، كما لن تتردد البنوك على الإقراض مرة أخرى لان الأسعار لن تتراجع كثيرا بعد ذلك.

وبوجه عام يشعر خبراء السوق بأن موجة الكساد حقيقية وأنها سوف تستمر لفترة وتمتد لأسواق أخرى ولن يصمد فيها إلا من يقلص ديونه ويمتنع عن البيع والشراء في الفترة الصعبة حتى تستقر الأحوال على مستويات سوف تكون بالتأكيد متدنية عما كانت عليه في سنوات الفقاعة الأخيرة.