بولندا تجذب المغتربين للعودة بانتعاش عقاري واقتصادي

أسعار العقار تواصل الارتفاع بينما تتراجع في بقية أنحاء أوروبا

مشروعات العقار الجديدة في بولندا تجذب المغتربين («الشرق الاوسط»)
TT

وسط الخمول العقاري الأوروبي الناتج عن الكساد الاقتصادي، تبدو بولندا كنقطة مشرقة واعدة لا تجذب فقط الاستثمار وأموال البولنديين المغتربين العائدين إليها، وإنما أيضا اشهر الأسماء في عالم المعمار مثل زها حديد ودانييل ليبرزكيند. فهؤلاء جميعا يذهبون الى المدن البولندية من وارسو الى كراكاو من اجل إعادة تشكيل أحدث مدن أوروبية تنفض عن نفسها غبار الحرب العالمية الثانية وسنوات من الحكم الشيوعي المترهل. وتلخص عمدة المدينة هانا غرونكيفيتش - فالز روح العاصمة بدعوة البولنديين الى رفع وارسو الى مستويات عقارية أعلى.

وقد لا تبدو العاصمة البولندية الآن من أجمل المدن تخطيطا ولا حتى انظفها وأكثرها تنظيما، لكنها تتطلع لكي تكون أعلى مدن أوروبا من حيث كثافة ناطحات السحاب فيها التي تخضع الان لمراحل مختلفة من التصميم. ويتسابق مصممو العالم لكي يضعوا بصماتهم على وارسو لكي تكون اكثر المدن الاوروبية شبابا وأفضلها تخطيطا من مواقع متعددة في وسط المدينة ما زالت تحمل جروح الحرب العالمية الثانية من حيث آثار التدمير، او بدلا من مبان لا تفتقر الى قبح المعمار الشيوعي الذي يشبه الثكنات الحربية. وتبدو المدن الاوروبية الاخرى بالمقارنة مسطحة بعقارات مختلطة ما بين مفارقات اسلوب الستينات والتسعينات وما بينهما، اما وارسو فهي تنهض متأخرة، لكنها تستفيد من تجارب الغير وتتجنب العديد من الأخطاء وتستفيد من تقنيات العقار في عام 2008. وحتى الان تم تنفيذ العديد من المشاريع العملاقة التي توجهت في معظمها الى مجالات المكاتب والفنادق لكي تغطي حاجات الاعمال في المدينة، لكن المزيد من المشروعات الطموحة تهدف الى الاهتمام بمجال الاسكان على نطاق واسع لتلبية احتياجات المهاجرين العائدين من الغرب وايضا الطلب المحلي على نوعيات افضل من العقار الجديد.

ويعمل المعماري ليبرزكيند على مشروع من تصميمه يشبه الشراع ويحاكي ملامح النسر الابيض الذي هو شعار بولندا الوطني. ومن المقرر ان يتم تشطيب هذا المشروع خلال عام 2009، لكن نصف وحداته البالغ عددها 251 شقة بيع بالفعل، وبأسعار تصل الى 7 آلاف يورو للمتر المربع الواحد. ويشعر المصمم ليبرزكيند بالفخر لان اصله بولندي ولانه شاهد وارسو وهو طفل صغير وهي عبارة عن كومة من التراب والرماد بعد الحرب العالمية الثانية. وشاهد ايضا بناء «قصر الثقافة» وهو هيكل ضخم من العقار على الطراز الروسي يرتفع الى 220 مترا، وكان «هدية من الشعب السوفياتي الى الشعب البولندي بعد التحرير». ولكنه كان في نظر العديد من البولنديين رمز السيطرة السوفياتية على بلدهم التي شبهها البعض منهم بأنها نوع من الاحتلال الجديد.

وهو يضع في خياله تصميم مبنى قصر الثقافة وهو يضع لمساته على مشروعه الجديد الذي يقع على الجانب الاخر من الشارع ويرتفع بدوره الى 192 مترا، ليكون بذلك العلامة المميزة الجديدة على نهضة وارسو وتحررها الحقيقي هذه المرة من سيطرة الالمان والروس تباعا. وهو يقيم هذا الصرح كبديل لرغبة معظم البولنديين في هدم قصر الثقافة، وهي رغبة ظهرت بعد عام 1989 وسقوط الاتحاد السوفياتي، وكانت نابعة من رغبة التحرر من السيطرة الروسية. ولهذه النزعة سابقة تاريخية وقعت في العشرينات من القرن الماضي عندما هدم البولنديون صرحا مماثلا كان الروس وراء انشائه اثناء فترة سيطرتهم على بولندا منذ القرن التاسع عشر.

لكن قصر الثقافة لم يهدم وتحول الى رمز بولندي مهم وعلامة من علامات وارسو رغم دلالاته التاريخية السلبية. ويقول رئيس مصلحة الحفاظ على التراث البولندي الكسندر نيفسكي انه كان ضد هدم قصر الثقافة لان ذلك معناه تقليد السوفيات في هدم ما لا يفضلونه من عقار. ويضم القصر حاليا العديد من المتاحف والمسارح ودور السينما. وعلى رغم انه نجا من التدمير الا ان المنطقة المحيطة به ظلت بمثابة البقعة السوداء في وسط وارسو، حيث تحيط به مساحات شاغرة كانت تستخدم كمواقف للسيارات وخليط من المباني العشوائية التي لا يجمع بينها اي اسلوب عقاري مشترك.

وعلى رغم فوز فريق معماري دولي بمسابقة لتصميم وسط المدينة حول قصر الثقافة في عام 1992 الا ان المشروع لم ينفذ بسبب تردد الحكومة المحلية وسلسلة التعقيدات الادارية التي كبلت المشروع. وعلى رغم الاحباط والغضب الذي يسود فريق المصممين الذين يعتقدون انهم يقدمون آفاقا جديدة لنهضة وارسو تميزها عن مدن اوروبا الاخرى، فان بعض البيروقراطيين في المدينة يخشون ان تغطي هذه المشروعات على قصر الثقافة الذي يقع في وسطها.

ويشرح الفريق الذي يقوده المعماريان بلزيو وسكوبنسكي ان هدف مشروع احياء قلب وارسو يعتمد على مزج المكاتب والفنادق بالوحدات السكنية حتى تستمر العاصمة في الحياة طوال ساعات النهار والليل ولا تتحول الى مدينة اشباح في المساء مثل المدن الاوروبية الاخرى عندما يعود موظفو المكاتب الى منازلهم خارج المدينة.

ويعمل احد اثرياء بولندا وهو يان كولشيك على بناء مشروع ناطحة سحاب سوف تكون الاعلى في اوروبا، وتشمل 224 غرفة فندقية ونحو 336 شقة. وينتهي العمل من المشروع في عام 2011. ويطمح كولشيك في ان ينهي هذا المشروع وضع مبنى قصر الثقافة كعلامة مميزة لوارسو، حيث سيكون المشروع الجديد المبني من الزجاج والفولاذ اعلى قامة من المبنى السوفياتي. من مزايا المشروع الاخرى انه يتوجه بالشقق فيه الى الطبقة الوسطى التي تعاني من نقص في امدادات الشقق في هذا القطاع، بينما بدأت بوادر الفوائض وتراجع الطلب في قطاع الشقق الفاخرة.

وفي جانب آخر من المدينة تعكف زها حديد على تصميم مبنى على شكل زهرة شفافة بارتفاع 240 مترا ويشمل ايضا غرفا فندقية والمزيد من الشقق الفاخرة. وهو ايضا مصمم لكي يكون اعلى من قصر الثقافة. وتوجد مشروعات لاربع ناطحات سحاب اخرى في وسط المدينة منها اثنتان على محطة القطارات المركزية.

لكن مصادر السوق ما زالت منقسمة حول النشاط العقاري المحموم في وارسو حيث يعتقد مدير شركة الابحاث «اوبن فاينانس» ايميل سويدا ان وضع الاقتصاد البولندي ومستويات الدخل لا تبرر هذا التوسع الهائل في قطاعي الشقق الفاخرة والمتوسطة. وكان معدل الزيادة في الاجور البولندية في العام الاخير حوالي 8.6 في المائة، فيما تقلص سعر العقار في نصف العام الاخير بسبب التراجع الاقتصادي. ويصل سعر متر العقار في المتوسط الى حوالي الف دولار، لكنه يصل في المشروعات الجديدة الى اربعة اضعاف هذا المعدل.

ولم تحصل بعض المشروعات الجديدة بعد على موافقة مجلس المدينة، لكن ليس من المتوقع ان يعترض المجلس عليها. وتستعد وارسو لكي تظهر بشكل مختلف تماما عما هي عليه الآن في عام 2012 الذي تستضيف فيه بطولة كرة القدم الاوروبية.

وفيما يخشى بعض موظفي ادارة التخطيط في المدينة من عشوائية بناء المشاريع الحديثة الا ان معظم المستثمرين يشعرون بالثقة بأن المشروعات الجديدة سوف تعوض وارسو، وبولندا بشكل عام، عن المعاناة التاريخية التي فرضت عليها سنوات طويلة من الضياع والصراع.

من ناحية اخرى تعم حالة من الانتعاش المدن البولندية الاخرى مثل كراكاو التي تضاعفت فيها الاسعار منذ عام 2006. وظلت احوال الانتعاش سائدة في المدينة مع بيع كل الوحدات العقارية التي تبنى فور وصولها الى السوق، حتى بداية العام الجاري الذي استقرت فيه الاسعار على معدلها المرتفع على الرغم من ظهور علامات الكساد الاقتصادي في دول الغرب الاخرى. ويتوقع نيكولاس داير خبير العقارات الشرق اوروبية ان تستقر الاسعار البولندية حول زيادة خمسة بالمائة هذا العام ومثلها في عام 2009. وهو يعتقد ان هذا التوقف المرحلي في زيادة الاسعار قد يكون فرصة جيدة للشراء لان دلالات المستقبل ايجابية من حيث الطلب العقاري واقبال المغتربين على الشراء.

ومن اهم مشاريع مدينة كراكاو ما تنفذه مؤسسة استثمارية اسمها ديفيلوبول على قطعة ارض قريبة من مركز المدينة وتقع على النهر مباشرة. ويعد المشروع آخر المشاريع الجديدة في منطقة وسط المدينة، حيث لا توجد اراض شاغرة اخرى ويقتصر التعمير على تطوير العقارات القائمة بالفعل. وتباع الشقق في المشروع باسعار تبدأ من حوالي 150 الف دولار.

وتركز عدة شركات عقار اخرى على كراكاو لانها تتمتع ببنية تحتية جيدة حيث انها مركز الانترنت في بولندا وتتبنى اسس الاقتصاد الحديث وتجذب اليها الشركات الاجنبية والكثير من رأس المال البولندي المغترب. وللمدينة تاريخ عمراني حافل اخذت في السنوات الاخيرة تجدده وتحافظ عليه وتستعيد عصره الذهبي. وتوجه الى المدينة العديد من الخبرات المهاجرة الى بريطانيا سعيا وراء ظروف عمل واسلوب معيشة افضل مما تقدمه بريطانيا في الوقت الحاضر. بل انها تجذب الآن بعض الخبرات البريطانية التي تعتبر المعيشة والظروف الاقتصادية افضل في بولندا عنها في بريطانيا. وخلال العام الماضي وحده جذبت بولندا نحو ثلاثة مليارات جنيه استرليني من بريطانيا وانحاء اوروبا، حوّلها العمال المهاجرون. وتوجه الكم الاكبر من هذه التحويلات الى العقار استعدادا للعودة النهائية لبولندا المتوقعة من هؤلاء المهاجرين.

ويقول مستثمر ايرلندي اسمه جون نوتون يدير شركة تسويق عقاري في كراكاو ان معظم الطلب في المرحلة الحالية يأتي من البولنديين العاملين خارج بولندا. ويقبل هؤلاء على شراء الشقق القريبة من مركز المدينة لاستخدامها قاعدة لهم اثناء زياراتهم الدورية الى مدينتهم. ويتم تأجير هذه العقارات اثناء غياب اصحابها لكي تملأ الفراغ الناتج عن ندرة وجود فنادق سياحية في المدينة. وتشهد كراكاو نهضة سياحية من سياح اوروبا نظرا لجمالها المعماري والعديد من القصور والقلاع التاريخية فيها التي تعود الى العصور الوسطى. وكانت كراكاو مركز الملكية البولندية قبل ان ينتقل الحكم الى العاصمة وارسو في عام 1791. ونجت المدينة من التخريب النازي نظرا لموقعها البعيد عن وارسو بالقرب من الحدود السلوفينية والتشيكية. واستعادت المدينة اهميتها النسبية من الناحية السياحية بعد انضمام بولندا الى الاتحاد الاوروبي. وقد ساهمت هذه الشهرة في ارتفاع اسعار العقار الى ابعد من القدرة الشرائية المحلية، لكن الكساد الاخير تكفل بإنهاء موجة الانتعاش واستقرار الاسعار، على الاقل مرحليا.

من ناحية اخرى اكد تقرير عقاري من شركة بولند فنتشر العقارية ان السوق البولندي مثالي في مجال الشراء بغرض التأجير. والسبب هو النمو القوي في السوق مع زيادة الطلب على العقارات، خاصة العقارات الثانية للاغراض السياحية. وفي الوقت الذي تزداد فيه القوة الشرائية للشعب البولندي فإن سنوات من الاهمال العقاري تعني وجود فجوة كبيرة في السوق للخدمات السياحية مثل الفنادق واماكن الاقامة. ويزداد عدد السياح في بولندا بنسبة 2.7 في المائة سنويا بين 2008 و2011 وفقا لاحصاءات معهد السياحة البولندي.

وزاد من جاذبية السوق البولندي ان العديد من شركات الطيران الرخيص فتحت خطوطا مباشرة الى بولندا. من هذه الشركات شركة «ريان اير» الايرلندية التي دشنت في العام الماضي خطوطا مباشرة الى العديد من المدن البولندية من مطار شانون الايرلندي. وتعتقد الشركة ان خطوط بولندا سوف تضيف 90 الف راكب على الاقل لشبكتها الامر الذي ينعكس ايجابيا على قطاع العقار البولندي بزيادة الطلب عليه.

ورشحت بعض الصحف البريطانية مثل «الغارديان» بولندا كإحدى الجهات السياحية الجديدة التي يتعين على البريطانيين اكتشافها. ومن مزايا بولندا سعر الصرف المغري امام الاسترليني بالمقارنة مع اليورو وسهولة السفر الجوي اليها مع وجود اماكن اقامة باسعار مغرية.