أثرياء ومصرفيون يبيعون عقاراتهم بالجملة في لندن وسويسرا

يعيشون الهروب العقاري الكبير وسط تردي الأوضاع في الأسواق

سويسرا تمثل فرصة استثمار ذهبية في الشاليهات («الشرق الأوسط»)
TT

وسط الإحباط وتردي الأوضاع في أسواق العقار، تلوح أحياناً فرص ثمينة في أحلك الأوقات. فقد ظهرت موجة بيع هائلة للعقارات الفاخرة بالتزامن بين لندن وسويسرا، في القطاع الفاخر الذي تتراوح القيمة فيه ما بين مليون وخمسة ملايين دولار، من أثرياء ومصرفيين يعتقدون أن الأوضاع الاقتصادية الأسوأ سوف تأتي في عام 2009 لكي يتكفل بخفض إضافي للأسعار، وهناك آخرون يعتقدون أنهم سوف يفقدون وظائفهم بعد عطلة نهاية العام.

ومع استمرار الضغوط على الأسعار تتاح فرص جيدة للاستثمار الهادئ للمدى الطويل في عقارات جيدة وأسواق هادئة بلا مزاحمة، قد تروق للعديد من المستثمرين العرب. كما تتاح في الأسواق فرص نادرة للتفاوض على الأسعار نظراً لندرة السيولة، وقلة المشترين في هذا القطاع من السوق. من ناحية أخرى، يمثل تراجع الجنيه الإسترليني أيضاً فرصة جيدة لمن يشتري بعملات أجنبية، خصوصاً اليورو، حيث انخفض الإسترليني أمامه في العام الأخير بنسبة 40 في المائة، وبنسبة 25 في المائة تقريباً إزاء الدولار.

وتتوقع منطقة السيتي المالية في لندن مذبحة وظائف في الربع الأول من العام الجديد، مع تزايد المطالب بإجراء تحقيقات لتحديد المسؤولية عن الأزمة المالية التي عصفت بسمعة لندن، وتكاد تفقدها مركزها المالي العالمي المرموق. وتُعرض في لندن حالياً آلاف الشقق الفاخرة التي كان يمتلكها سابقاً مصرفيون في مناطق تتركز حول الحي المالي ومنطقتي «دوكلاند وكناري وارف». وتشهد هذه المناطق زيادة في العقارات المعروضة للبيع بنسبة 12.4 في المائة في الشهر الأخير، بما يعادل ضعف معدل الشهر الأسبق.

ولأن معظم العقارات التي دخلت السوق تأتي من القطاع الفاخر، ارتفع متوسط السعر المطلوب في عقارات لندن طفيفاً، من 390 إلى 392 ألف استرليني. ويعلق مدير المبيعات في شركة «رايت موف» العقارية مايلز شيبسايد أن الكثيرين من العاملين في القطاع المالي يخشون فقدان وظائفهم في العام الجديد، ويريدون تخفيف أعبائهم المالية قبل وصول الأزمة. ويملك هؤلاء في العادة شقة في لندن إلى جانب منزل ريفي، ومعظمهم يكتفي الآن بالمنزل الريفي ويتخلص من شقة العاصمة.

وكان قطاع المصرفيين مسؤولا في الماضي عن ارتفاع أسعار الشقق الفاخرة في لندن بسبب الحوافز الهائلة التي كانوا يحصلون عليها سنوياً من البنوك التي يعملون فيها. ولكن هذا الوضع يتغير هذا العام، حيث لن تمنح معظم البنوك حوافز، ويتجه البعض منها إلى خفض معدلات التوظيف. وتخلصت بالفعل بنوك مثل سيتي بنك من آلاف الوظائف، بينما انهارت مؤسسات مالية أخرى بالكامل، مثل ليهمان براذرز. وحذر رئيس مجلس إدارة بنك باركليز، جون فارلي، من أن أسعار العقار من شأنها أن تنخفض 15 في المائة أخرى في العام المقبل، بينما تزيد بعض التقديرات هذه النسبة إلى 30 في المائة.

وفيما اتهمت بعض أوساط صناعة العقار بأن فارلي يسهم في تعميق الأزمة، وصف المسؤول المالي ممارسات بعض البنوك في الإقراض بنسب وصلت إلى مائة في المائة، بأنها كانت «ضرباً من الجنون». وهو يعتقد أن دورة العقار السلبية وصلت إلى نصفها الآن، وأنها تنتظر المزيد من الانخفاض بنسبة 15 في المائة إضافية. وأضاف أن السنوات العشر الأخيرة كانت الاستثناء وليست القاعدة، وأن معدل فقدان الوظائف في الاقتصاد البريطاني قد يصل في عام 2009 إلى حوالي 700 ألف وظيفة.

وبالتوازي مع أحداث لندن، ظهرت أيضاً مؤشرات بيع بالجملة بين شاليهات سويسرا التي تتجه إلى سياحة التزلج على الجليد، والتي يملكها مصرفيون ومديرو استثمار في الأسواق المالية الأوروبية. وتقول شركات تسويق العقار السويسرية إنها «تلقت مئات الطلبات لبيع شاليهات سويسرية في الشهور الأخيرة» . ويشك مديرو تسويق العقار السويسري أن معظم البائعين من بريطانيا، لأنهم على استعداد متزايد لخفض الأسعار كلما انخفض الجنيه الإسترليني لأن عوائد هذه العقارات تزيد بتقييمها بالفرنك السويسري.

ودفع هذا التوجه إلى فتح شركات التسويق العقاري فروعاً جديدة لها في منتجعات التزلج السويسرية والفرنسية أيضاً. ويقول بيرتي ساندرسون مدير شركة «إيرنا لو» العقارية إن «الأسعار كانت مخيفة في الماضي ولكن العقلانية عادت إلى السوق، وخفّض البائعون أسعارهم إلى مستويات توفر فرصاً جيدة للمستثمرين». وتؤكد الشركات أن المنتجعات الجليدية السويسرية كافة مليئة إلى طاقتها القصوى هذا الشتاء بالسياح الذين يشغلون جميع الشاليهات المتاحة. وتقول شركات العقار إن هناك أيضاً فرصاً مماثلة في شاليهات كندا التي تتمتع بموسم شتوي أطول يمتد من نوفمبر (تشرين الثاني) وحتى يونيو (حزيران) في مناطق كولومبيا البريطانية وفانكوفر. وتضيف أن البنوك الكندية مازالت تقرض بسهولة لشراء الشاليهات، على اعتبار أنها استثمار ممتاز. ويشرح ساندرسون أن المواقع السويسرية والفرنسية الجيدة، مثل غشتاد وشامونيه وفال ديزير ومونت بلون وفيربييه وسان موريتز سوف تظل دوماً نقاطاً ساخنة على خريطة السياحة الجليدية. وتعرض الكثير من الشاليهات بجميع المساحات للبيع في هذه المنتجعات، ولكن شركات العقار لا تعرض أسعارها علناً وتفضّل التفاوض المباشر مع المشتري الجاد.

وتبنى معظم هذه الشاليهات من أخشاب الصنوبر مع مدفأة من الصخر في كل شاليه. وتتمتع بعض الشاليهات بمزايا غير عادية، مثل وجود مصاعد داخلها، وأحياناً صالات تمرينات رياضية، وبلكونات. ويأتي بعضها مزيناً بلوحات فنية، كما تتميز بعض الشاليهات بوجود نجوم، وعظماء على قائمة مالكيها السابقين. وهي تباع بالمساحة التي تصل في أسعارها إلى حوالي ألفي يورو للمتر المربع الواحد. وتصل أسعار بعض الشاليهات إلى ما بين 15 و20 مليون فرنك سويسري (13 إلى 17 مليون دولار تقريباً).

وبخلاف حالات البيع السريع التي وصلت إلى السوق هذا الشتاء، هناك أيضاً بعض المشروعات الاستثمارية السويسرية الموجهة إلى الأجانب. فعلى مقربة تسعة أميال، شمال غربي غشتاد، يقع منتجع شاتو دوكس الذي تقام فيه مشروعات لشقق سياحية تأتي ومعها تراخيص جاهزة للبيع سواء للمواطنين المحليين أو للأجانب. ويحتوي أحد المشروعات المقامة على مقر فندق قديم اسمه «لوبو سيجور» على شقق تحتوي على بلكونات، ومخازن لأدوات التزلج على الجليد، وبرادات للسيجار، مع حمام سباحة ساخن، ومطعم فاخر، وصالة رياضية لاستخدام المستثمرين. وتبدأ الأسعار من حوالي 975 ألف فرنك سويسري (837 ألف دولار تقريباً) لشقق من غرفة واحدة أو غرفتين. ويقيم المنتجع أسبوعاً سنوياً في يناير (كانون الثاني) من كل عام لمسابقات البالون.

ويقال إن هناك قائمة انتظار على مثل هذه المشروعات ولذلك فمن المهم وجود تراخيص البيع. وتقوم شركات العقار باستخراج التراخيص المطلوبة كافة، من أجل توفير وقت وجهد المشتري، وتسهيل عمليات البيع. وتتوجه مثل هذه المشروعات إلى المستثمرين الذين يرغبون في تأجير عقاراتهم بعض فترات العام، والاستمتاع بها في أوقات أخرى. ويفتتح مشروع شقق «لوبو سيجور» في نهاية عام 2009.

وتعلق شركات العقار على تأثير تدهور قيمة الجنيه الإسترليني الذي يقارب قيمة اليورو قبل نهاية العام بأيام، بأن القطاع المتأثر بهذا التحول هو القطاع المتوسط. أما قطاع القمة فلم يتأثر بتحولات العملة، التي لا تعكس مخاوف الأثرياء الذين يحتفظون بثرواتهم موزعة على عدة عملات. وفي القطاع الذي يفوق نصف المليون يورو في القيمة كان التأثر بتراجع الإسترليني في الحد الأدنى.

والنصيحة التي يقدمها مدير العُملات في شركة كاكستون لتحويل العملة في لندن للمشترين باليورو، هي تثبيت سعر التحويل إلى اليورو فور التعاقد حتى يضمن المشتري السعر ويلغي مخاطر العملة. وهو يضرب مثالاً لمشتري عقار أوروبي بمبلغ 400 ألف يورو، مع تمويل المبلغ بالإسترليني. فلو أن هذا المشتري وقع التعاقد منذ ثلاثة شهور ولم يثبت سعر الصرف، فإن المبلغ يزيد عليه بنسبة عشرة في المائة على الأقل، أي إنه يخسر 40 ألف إسترليني، ولكنه لو ثبت السعر لكان هذا بمثابة ارتفاع في قيمة العقار بنسبة 10 في المائة في غضون ثلاثة شهور فقط.

مما يذكر أن تقديرات أسعار العقار تتهاوى قيمتها بسرعة على أيدي خبراء تقدير سعر العقار، الذين تنتدبهم البنوك لتقدير القيمة السوقية لأي عقار، قبل الموافقة على منح القروض. ويلجأ خبراء التقييم إلى خفض القيمة لإخلاء المسؤولية في حالة تراجع الأسواق مرة أخرى، وحتى لا تترتب على تقديراتهم أي مساءلة قانونية.

وتضر التقديرات المنخفضة أصحاب العقار الذين يتقدمون لإعادة تمويل القرض العقاري بعد انتهاء فترات تثبيت أسعار الفائدة، حيث يجد هؤلاء أن قيمة القرض تكاد تعادل قيمة العقار، الأمر الذي تنظر إليه البنوك بريبة، وترفع على الفور أسعار الفائدة المطلوبة.

ووفقاً للإحصاءات الرسمية من بنك هاليفاكس هبطت أسعار العقار البريطانية هذا العام بنسبة 16.1 في المائة ولكن بعض أصحاب العقارات يؤكدون أن تقديرات القيمة لعقاراتهم انخفضت بنسب زادت على 20 في المائة منذ بداية العام. وتقول ميلاني بلين، رئيس قسم التمويل في شركة سافيل اللندنية إن «مسّاحي العقار يلتزمون بالحرص الزائد عند تقدير قيمة العقارات حالياً»، وإنها تعتقد أن بعضهم يبالغ في تخفيض تقدير القيمة بكل المقاييس المحلية. وتضيف أن السبب هو الخوف من سوء التقدير، ولجوء البنوك إلى الشكوى القانونية لتعويض الخسائر. وهي تؤكد أن هناك سوابق لحالات قامت فيها الجهات المُقرضة بمقاضاة شركات مسح العقارات، بسبب تقديرات مبالغ فيها للقيمة. وتعود بعض هذه القضايا إلى الكساد الذي وقع في بداية التسعينات. وتخشى البنوك حالياً من عدم استرداد مستحقاتها كافة، لو اضطرت إلى الاستيلاء على العقار وبيعه في السوق، ويعتبر العقار هو الضمان الوحيد للقروض العقارية. وتمثل التقديرات المنخفضة مشكلة أخرى عند بيع العقار، حيث يمكن لتقدير منخفض يقدمه مهندس معماري تابع للبنك في إفشال الصفقة بتقدير أقل مما اتفق عليه الطرفان. وفي هذه الحالة يطالب المشتري بخفض إضافي للثمن وفقاً لتقدير القيمة الجديد، وعند رفض البائع لهذا الخفض ينسحب المشتري من الصفقة.

وفي حالات تجديد القروض العقارية فور انتهاء فترات العروض الخاصة أو الأسعار المحددة، يجد المقترض نفسه خارج إطار أفضل الصفقات، بسبب التقديرات المنخفضة لقيمة عقاره، ويضطر البعض منهم إلى الإبقاء على سعر فائدة أعلى مع البنك نفسه، بدلا من الذهاب إلى بنك منافس، خوفاً من التقديرات المطلوبة التي تشترطها البنوك لقيمة العقارات، والتي سوف تبدو أكثر انخفاضاً من التقديرات الأصلية.

وتبرر شركات مسح العقار تخفيض القيمة بأن البنوك تصر الآن على المسح الشامل للعقار، بعد زيارة تفقدية للموقع والتأكد من أن القيمة ليست أعلى من الواقع. بينما كان الوضع مختلفاً في الماضي، عندما كانت الأسعار ترتفع سنوياً، حيث كان من الممكن تقديم تقديرات للقيمة من دون الحاجة إلى زيارة العقار. وكانت البنوك ترحب بالتقديرات العامة لقيمة العقار قبل تقديم القروض العقارية، ولكن الوضع يختلف جذرياً في الوقت الراهن.

ومع توقع استمرار تدهور الأسعار خلال العام الجديد أيضاً، فلا يمكن توجيه اللوم إلى مهندسي العقار الذين يخفّضون من القيمة حالياً، فبعد الفقاعة التي استمرت أكثر من عشر سنوات، حان وقت العودة إلى الأصول الصحيحة للسوق. ولن تعود الأمور إلى طبيعتها، حتى تستقر أسعار العقار على معدلات أدنى مما هي عليه الآن.

وإلى حين استقرار الأحوال مرة أخرى سوف يوفر السوق فرصاً ذهبية للمستثمرين من ذوي السيولة العالية. ولكن المشترين الجدد لن يستفيدوا من الوضع الراهن، على الرغم من انخفاض الأسعار، لأن البنوك لا تقرض على العقار إلا لمن يدفع ربع الثمن مقدماً على الأقل.