مصر: شُح الإسمنت يعرقل مشروعات إسكان في المحافظات

الارتفاع المفاجئ لأسعاره أثَّر على دورة البناء للطبقة الوسطى

TT

وقف «المَعلم فرَّاج» فوق عروق الخشب المشدود تحت أسياخ الحديد أعلى سطح عمارة مكونة من 13 طابقا، ودار بناظريه على الطريق المؤدية إلى داخل منطقة المعصرة جنوب القاهرة، لعله يرى أي شاحنة محملة بالأسمنت. فالعمال يقفون على خلاطات الخرسانة بجوار أكوام الرمال و«الظلط» وخراطيم المياه، انتظارا للحظة وصول الأسمنت للبدء في دورة العمل، و«صبّ» ما تبقى من طوابق المباني. وفجأة صاح العمال، فيما كان بعضهم يهرول في اتجاه بعينه: «الحق يا معلم، أسمنت، والله أسمنت..». وأوقف العمّال الشاحنة عنوة، وأجبروا سائقها على النزول، حتى وصل المعلم فرَّاج بجلبابه الواسع، وبدأ في التفاوض مع السائق: «سنشتري كل ما معك، بأي سعر تريده». واشترى المعلم فراج الأطنان السبعة التي كانت على ظهر الشاحنة بسعر الطن 800 جنيه، يوم أول من أمس «الخميس»، بعد أن كان السعر لا يزيد عن 455 جنيها يوم «السبت» الماضي. وقال المعلم فراج لـ«الشرق الأوسط» إنه مضطر للشراء بأي سعر، لأنه يرتهن لديه مقاولي البناء، بمن معهم من عمال ومعدات، منذ يومين، ويسدد لهم أموالا قيمة ارتهانه لمعداتهم وعمالهم، من دون أن يتمكن من «صب» العمارة، وهي واحدة من خمس عمارات يقوم ببنائها، بعد أن كتب عقود تأجير شققها بنظام «التأجير غير محدد المدة»، لمواطنين ينتمون للطبقة الوسطى. ويوجد آلاف «المعلمين» في محافظات مصرية مختلفة ممن اشتكوا من توقف أعمالهم وأصبحوا يسددون ثمن ارتهانهم لمعدات العمل وللعمال، بعد أن غاب عنهم الأسمنت بسبب موجة عاتية ضربت أسعاره فجأة منذ مطلع الأسبوع الماضي. ولا يستطيع «المعلمون»، وهي كلمة تطلق على الرجال التقليديين من أصحاب العقارات والمشروعات المتوسطة، أن يستمروا في الإنفاق المالي الباهظ بالنسبة لهم، من دون أي عائد. والعائد كما يقول «المعلم فرَّاج» هو أقساط البناء التي يتقاضاها من المستأجرين المسقبليين، الذين كتبوا عقودا ويسددون دفعات مالية لاستكمال البناء، وهي عملية معقدة يتبعها كثير من «المعلمين المصريين»، لا تتحمل أي تعثر في أي من حلقاتها. فمستأجر الشقة يسدد أقساط البناء المكتوبة في التعاقد، ولا علاقة له بارتفاع أسعار الأسمنت أو انخفاضها. وهو لا يسدد أي قسط، إلا بعد أن يكون صاحب العمارة قد انتهي من مرحلة معينة من مراحل البناء..«وهذا لم يتحقق في الأسبوع الماضي بسبب اختفاء الأسمنت فجأة من السوق»، كما يقول المعلم فرَّاج. وتلقت الشعبة المصرية لمواد البناء العديد من الشكاوى بسبب الارتفاع المفاجئ الذي أربك سوق البناء للطبقة المتوسطة الذي يقوم به القطاع الخاص التقليدي، وهو قطاع يختلف عن الشركات العقارية العصرية والكبيرة التي تتعامل مع البنوك، ولديها سيولة، وقدرة على تخزين مواد البناء، ولا تشكو من ضيق الوقت، ولا من الدورة المحكمة التي تدور فيها عملية إنشاء العمارات الأهلية واسعة النطاق في المحافظات المصرية بما فيها القاهرة. وطالبت شعبة مواد البناء التدخل للسيطرة على أسعار الأسمنت، والالتزام بقرارات الحكومة التي تدخلت فور ظهور الطفرة الجديدة في أسعار الأسمنت، التي أرجعها البعض لإضراب نفذه سائقو الشاحنات المقطورة بمصر، فيما أرجعه البعض الآخر لتوسع المنتجين في تصدير الإنتاج المحلي للخارج. وعلى الرغم من أن عدة مصانع في جنوب البلاد ووسطها أعلنت عن تخفيضها الأسعار، بحيث يكون متوسط سعر تسليم الطن من المصنع 500 جنيه.. وعلى الرغم من أن المسؤولين طالبوا بعدم الشراء بأعلى من السعر الحقيقي حتى لا تستمر السوق السوداء وتخزين الأسمنت ما يفاقم ارتفاع الأسعار مجددا، فإن «المَعلمين» من أمثال «المَعلم فراج» ما زالوا حتى يوم أمس (الجمعة) يُشرفون فوق عروق الخشب أعلى أسطح عماراتهم بحثا عن شاحنة أسمنت بأي سعر..

وتأرجحت أسعار الأسمنت بشكل جنوني طوال الأسبوع الماضي وقفزت عدة قفزات، من 500 جنيه إلى 600 فـ700 جنيه، إلى أن وصلت يوم الثلاثاء الماضي إلى 900 جنيه للطن في العديد من المحافظات. ويقول محللون إن هذا الاضطراب في الأسعار نحو الصعود حدث مع إعلان سائقي نحو 70 ألف شاحنة مقطورة، تعتمد عليهم عملية نقل الأسمنت من المنتجين للتجار فالمستهلكين، إضرابهم عن العمل، مما أدى لزيادة تسعيرة الشحن بشكل مبالغ فيه. ويأمل أصحاب العقارات والمقاولون وحتى العمال والمستأجرون الجدد من الطبقة الوسطى، في أن يؤدي إنهاء سائقي الشاحنات إضرابهم، ومنع الحكومة التصدير لعدة أشهر، إلى إعادة دورة الحياة في سوق المباني.. «توقفت عملية بناء الطوب في الطوابق السفلية التي انتهت فيها أعمال الخرسانة، وعملية تكسية الجدران لن تتم، لأنه لا توجد جدران، وبالتالي توقف عمال السيراميك عن تركيب البلاط، وينتظر عمال السباكة الانتهاء من بناء الجدران».. يقول المقاول محمد الذي يتولى عملية البناء في عمارات المعلم «فرَّاج»، وهو لا يعوِّل كثيرا على إجراءات تقول وسائل الإعلام المحلية إنها يمكن أن تؤدي لخفض أسعار الأسمنت وتوفيره في السوق بكثرة قبل نهاية هذا الشهر، بما في ذلك وعود حكومية باستيراد كميات إضافية من الأسمنت من الخارج. وينفي منتجون للأسمنت أن يكونوا قد اتفقوا على خفض الإنتاج أو أنهم زادوا من كميات التصدير إلى الخارج، قائلين إن زيادة الطلب على الأسمنت هي السبب، بسبب تزايد أعمال البناء في العديد من المشروعات الحكومية والخاصة، بما فيها خطة بناء حكومية تبلغ تكلفتها نحو 15 مليار جنيه. ومنذ يوم الخميس الماضي أصبح ساريا في البلاد قرار اتخذه وزير التجارة والصناعة، رشيد محمد رشيد، بإلزام مصانع إنتاج الأسمنت بالإعلان عن الحد الأقصى لسعر البيع للمستهلك، وأن توقف التعامل مع الموزعين والتجار الذين يثبت إخلالهم بالقرار الوزاري.

وشن موظفو مديريات التموين في العديد من المحافظات حملات على مستودعات الأسمنت، وحررت مئات المخالفات لمن ثبت أنهم يمتنعون عن البيع، وكذلك تم التحفظ على مئات الأطنان قبل بيعها في السوق السوداء.