مشروع عقاري حجمه 5.5 مليار إسترليني ينتظر الموافقة

محطة كهرباء باترسي المهجورة في لندن

محطة باترسي: هل يتم إنقاذها قبل فوات الأوان؟ («الشرق الأوسط»)
TT

تعد محطة باترسي لتوليد الكهرباء، والمهجورة منذ عام 1983، أحد معالم جنوب لندن بأربع مداخن تقليدية وأكبر هيكل مبني من الطوب في أوروبا. وكانت المحطة قد بُنيت في ثلاثينات القرن الماضي وأضيفت لها محطة أخرى داخل المبنى نفسه في الخمسينات، ولكنها توقفت عن العمل في الثمانينات. وهي من المباني التاريخية الحاصلة على تصنيف تراثي من الدرجة الثانية، الأمر الذي يمنع هدمها، وتشتهر بأنها ظهرت في الكثير من الأفلام البريطانية وعلى مجلدين موسيقيين أحدهما لفرقة «البيتلز».

وعلى مدى ما يقرب من ثلاثة عقود تعاقبت المشروعات والأفكار على الموقع المهجور، ولكن بعضها لم يحظ بموافقة المجلس المحلي في منطقة باترسي التي تقع فيها المحطة، وبعضها الآخر تمت الموافقة عليه ولكن الشركات لم تنفذه. وآخر هذه المشروعات بناء حي كامل حول المحطة يتخذ منها مركزا ويعيدها إلى وظيفتها الأصلية في توليد الكهرباء، هذه المرة من النفايات لا من الفحم. ولكن المشروع الذي تصل تكلفته إلى 5.5 مليار إسترليني ينتظر الموافقة التي لم تصدر بعد. وحصل المشروع بالفعل على عدم ممانعة حكومية، ولكن التراخيص المحلية سوف يتم النظر فيها خلال شهر يوليو (تموز) المقبل.

وتملك الموقعَ حاليا شركة أيرلندية اسمها «ريل ايستيت أوبروتيونيتيس» (الفرص العقارية)، أو «ريو» اختصارا، وكانت قد اشترت الموقع في عام 2006 بمبلغ 400 مليون إسترليني. ويعتبر البعض أن المشروع المعروض حاليا على المجلس المحلي هو بمثابة الفرصة الأخيرة لإنقاذ المحطة من الضياع لأنها تكاد تنهار من التعرض لتقلبات المناخ خصوصا وأنها بلا سقف يحميها.

وكان بناء المحطة قد بدأ في عام 1929 في أوج أزمة الكساد العظيم، وذلك من أجل توليد الكهرباء لمدينة لندن بدلا من الكثير من الشركات الصغيرة التي كانت تختلف في ما بينها في المعايير. واستكمل بناء المحطة في عام 1933 بتكلفة تخطت مليوني إسترليني في ذلك الوقت. وتقول سجلات ذلك الزمان إن عملية البناء كانت شاقة وتسببت في مقتل ستة من العمال وجرح 121 آخرين.

وبدأ البناء في الشق الثاني من المحطة بعد الحرب العالمية الثانية، واكتملت المحطة الثانية في عام 1955، وكانت صورة طبق الأصل من المحطة الأولى ومنحت المحطة شكلها المميز بأربع مداخن على أركانها. وعند اكتمال المحطة كانت ثالث أكبر محطة توليد كهرباء على مستوى بريطانيا، وزودت لندن بنحو 20 في المائة حاجاتها من الكهرباء، كما كانت من أكثر محطات توليد الكهرباء كفاءة في التشغيل في العالم في ذلك الوقت. وتعرضت المحطة لحريق كبير في شهر أبريل (نيسان) عام 1964 تسبب في قطع الكهرباء عن قطاعات كبيرة في لندن بما في ذلك محطة إرسال إذاعة «بي بي سي».

وفي عصر استخدام الفحم لتوليد الكهرباء كانت المحطة تستهلك سنويا مليون طن من الفحم. وكان معظم هذا الفحم يصل إلى المحطة عن طريق ميناء نهري من جميع أنحاء بريطانيا. وكانت القطارات تنقل أيضا نسبة من الفحم المستخدم. كما كانت المحطة تنقل الماء اللازم لتوليد الكهرباء من البخار، مباشرة من نهر التيمس. وكانت المحطة تستهلك 340 مليون غالون من المياه يوميا تستخرجها من النهر. وكان معظم المياه يعاد إلى النهار مرة أخرى بعد استخدامها في التوربينات.

ولكن نهاية المحطة في الثمانينات جاءت بسبب عدة عوامل منها ارتفاع تكاليف الإنتاج ودخول محطات توليد أخرى أكثر كفاءة إلى السوق اعتمدت على النفط والغاز والطاقة النووية بدلا من الفحم. ولكن حملة شعبية لإنقاذ المحطة من الهدم نجحت وحصلت المحطة على تصنيف تراثي من الدرجة الثانية يمنع هدمها ويجبر من يطور الموقع على المحافظة على شكلها العام.

وكانت شركة الكهرباء (الحكومية في ذلك الوقت قبل التخصيص) تريد بيع الموقع وتطويره إلى مساكن، ولكن صدور أمر المحافظة على الموقع أجبرها على تحمل تكاليف صيانته وعدم استغلاله تجاريا. وفي نهاية عام 1983 أعلنت الشركة عن مسابقة لاستغلال الموقع تجاريا وفازت في المسابقة شركة اقترحت تحويل الموقع إلى مدينة ملاهٍ سياحية عن تاريخ بريطانيا الصناعي. وكانت التكلفة المبدئية نحو 35 مليون إسترليني على أن يجتذب الموقع مليونَي زائر سنويا لكي يغطي تكاليفه. وتَلقّى المشروع بالفعل ترخيصا للبناء، واشترت الشركة الموقع بمبلغ 1.5 مليون إسترليني.

ولكن المشروع توقف في عام 1989 بعد تفاقم التكاليف عن تلك المخطط لها وندرة التمويل المتاح للمشروع. وكانت تقديرات تكلفة المشروع قد زادت من 35 إلى 230 مليون إسترليني. وفي أثناء عمليات هذا المشروع غير المكتمل جرت إزالة سقف المحطة مما عرض أجزاء داخلية فيها للصدأ والتآكل بفعل مياه الأمطار.

وفي عام 1990 تغير شكل المشروع إلى بناء مجموعة من المكاتب والمساكن وفندق ومنافذ تجارية. وتم صدور ترخيص البناء في العام نفسه، ولكن أعمال البناء لم تبدأ في الموقع. وفي عام 1993 تم بيع الموقع بعد تراكم الديون عليه واشترته شركة من هونغ كونغ اسمها «بارك فيو» بعشرة ملايين إسترليني. وبعد إجراءات قانونية وتنظيمية نجحت الشركة في تصفية الديون السابقة على الموقع وشرعت في تصميم مشروع معماري متكامل بقيمة 1.1 مليار إسترليني. وتكون المشروع من جهود للمحافظة على شكل المحطة واستعادة رونقها مع تقسيم لمساحات مكاتب ومساكن ومنطقة ملاهٍ خضراء بجوار النهر.

وقدم المصمم نيكولاس غريمشو تصميمات المشروع تحت اسم «محطة الكهرباء» وتكون المشروع من مجمع تجاري به 50 مطعما ومقهى و180 منفذا تجاريا بالإضافة إلى بعض المنشآت الأخرى التي تشمل مسرحا ودار سينما. أما مبنى المحطة نفسه فتم تخصيصه للمعارض وتجول المشاة. وقالت الشركة حينذاك إن المشروع سوف يوفر ثلاثة آلاف وظيفة في أثناء إنشاء المشروع وتسعة آلاف وظيفة بعد إتمامه مع التأكيد على استخدام العمالة المحلية من المنطقة.

ولكن جماعات مناهضة للمشروع تظاهرت ضده وطالبت بمشروع اجتماعي يخدم المنطقة. واتهمت الجماعة المشروع بأنه لا يقدم أي مساكن شعبية على كل مساحته البالغة 38 فدانا. كما شككت في توفير وظائف محلية ذات قيمة واعترضت على عدم وجود شبكة مواصلات في المنطقة. كما اعترضت أيضا على وجود الكثير من المباني المرتفعة حول المحطة حتى لتكاد تخفي معالمها. كما ظهرت عدة تقارير متناقضة بعضها يؤكد أن المداخن المحيطة بالمحطة آيلة للسقوط ولا يمكن إصلاحها وبعضها الآخر يشير إلى إمكانية إصلاحها. وفي نهاية المطاف اكتفت الشركة الآسيوية «بارك فيو» بما عانت منه من متاعب وباعت الموقع والأرض المحيطة به للشركة الأيرلندية «ريو» التي يقودها مطور عقاري اسمه ريتشارد باريت، وذلك بمبلغ 400 مليون إسترليني.

وعلى الفور أعلنت شركة «ريو» أن مشروع «بارك فيو» قد انتهى، وكلفت معماريا جديدا هو رافييل فينولي المقيم في نيويورك بالعمل على تصميم جديد للموقع. وجرى الإعلان عن المشروع الجديد بقيمة أربعة مليارات إسترليني في عام 2008، وتضمن إعادة استخدام جزء من المبنى كمحطة كهرباء تعمل بأسلوب بيئي يعتمد على حرق المخلفات بطريقة نظيفة. وحتى المداخن سوف يتم استخدامها أيضا للتخلص من بخار الماء. أما بقية مساحة المحطة فسوف تستخدم كحديقة عامة ومنطقة تسوق. ويشمل المشروع إقامة متحف للطاقة في موقع المحطة. وتم تقدير تكلفة إعادة تأهيل المبنى بنحو 150 مليون إسترليني.

وخارج المحطة تقيم الشركة قبة كبيرة تغطي مساحات مكاتب تقول إنها توفر نحو 67 في المائة من استهلاك الطاقة بالمقارنة مع مباني المكاتب العادية. ويشمل المشروع أيضا بناء 3200 مسكن لنحو سبعة آلاف أسرة. ومن المثير أيضا أن المشروع يتضمن مد خطوط مترو الأنفاق اللندنية على الخط الشمالي من محطة اسمها كنينغتون إلى المنطقة لخدمتها عبر محطتين إضافيتين هما «ناين إيلمز» و«باترسي». ويتكلف المشروع نحو 350 مليون إسترليني سوف تتكفل بها شركة «ريو» وبعض كبار المستثمرين الآخرين في المنطقة، لكي يكون هذا الخط هو أول مترو أنفاق بتمويل خاص في تاريخ بريطانيا.

وبدأت عمليات تقييم المشروع والاستماع إلى آراء السكان المحليين في صيف عام 2008، وكانت المفاجأة هذه المرة أن 66 في المائة من السكان المحللين يوافقون على المشروع. وفي حفل أقيم في الموقع قبل عام تماما، في مارس (آذار) عام 2009، أعلنت الشركة أنها سوف تتقدم للحصول على تراخيص البناء إلى المجلس المحلي في منطقة واندزورث. وتأمل «ريو» في الحصول على التراخيص هذا العام لكي تبدأ أعمال الإنشاء في عام 2011 على أمل أن يكتمل المشروع في عام 2020.

وعلى رغم التشجيع الذي يحيط بالمشروع من مجلس الحي ومن عمدة لندن والسكان المحليين فإن الجميع يشعر بأن وقت التفاؤل لم يحن بعد خصوصا مع التاريخ السلبي الطويل للموقع من موافقات ثم انسحاب من المشروعات، وكأن الموقع منحوس بسوء الحظ لكل من يريد تطويره. ويتذكر الجميع أيضا أن المشروع هو الأكبر على الإطلاق في لندن في عام 2010 وأن التكاليف يمكن أن ترتفع قبل نهاية الإنشاءات إلى ما يقرب من 5.5 مليار إسترليني، في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة لا تبدو لها نهاية قريبة.

وتؤكد شركة «ريو» من جانبها أنها تتمتع بالملاءة لأنها تنفذ عشرة مشروعات هائلة في أنحاء مختلفة من العالم على مساحة إجمالية تبلغ 2.5 مليون متر قدم مربع. وتأمل الشركة في تحويل منطقة باترسي وناين إيلمز إلى مركز ثقافي وحضاري في لندن لجذب المواهب الجديدة. ويقول مدير الشركة روب تكنل إنه يأمل أن تكون المحطة الكهربائية من معالم لندن المشهورة في المستقبل. وهو لا يتفق أن مخاطر المشروع عالية لوجود الكثير من مساحات المكاتب الشاغرة حاليا في لندن مع تراجع في معدلات الإيجارات. وهو يؤكد أن الكثير من الشركات الكبرى تقدمت لاستئجار مساحات في المشروع الجديد، خصوصا أنه سوف يجاور السفارة الأميركية المزمع بناؤها في المنطقة أيضا لكي تنتقل إليها في عام 2017.

هذا التفاؤل كان يمكن تصديقه بسهوله، إلا أن تقارير عقارية بريطانية، أحدها نشر في صحيفة «غارديان» أكد أن «لعنة محطة الكهرباء ضربت الشركة الأيرلندية التي تعاني من ديون حجمها 1.6 مليار إسترليني». ويقول التقرير إن شركة «ريو» خسرت 200 مليون إسترليني في أول ستة أشهر من العام الماضي بسبب انهيار قطاع العقار الأيرلندي. ولاحظ التقرير المحاولات السابقة منذ عام 1983 لتطوير الموقع والتي باءت كلها بالفشل رغم مرور فترات انتعاش عقاري في لندن غير مسبوقة في العقدين الأخيرين.

كذلك ذكر التقرير أن التخطيط الأولي للمشروع رفضه عمدة لندن الذي أصر أن لا تسيطر أي منشآت أخرى على الموقع بجوار مداخن المحطة. وتقول الشركة إنها عدلت من خطط الموقع إلا أن الاعتراضات المحلية تتزايد حول المشروع مرة أخرى. ويقول مهندس معماري محلي في باترسي مناهض للمشروع، اسمه كيث غارنر، إن الموقع شهد سلسلة من المعماريين المصابين بجنون العظمة عبر مشروعات هائلة الحجم لا تناسب الظروف المحلية مع أن أي مشروع معماري بسيط يمكنه أن يؤدي الغرض بتكلفة أقل.

ولا شك أن الشركة المنفذة تعاني بعض المصاعب سواء من الاعتراضات المحلية أو من ظروف السوق. وتقول إحصاءات عقارية لندنية إن قيمة الموقع تراجعت بنسبة 15 في المائة خلال فترة الكساد الحالية عما كانت عليه عندما اشترته شركة «ريو» الأيرلندية. وتقول الشركة إنها في موقف مالي جيد وإنها في محادثات مع البنوك لإعادة جدولة قروض مستحقة على نهاية هذا العام حجمها 750 مليون إسترليني.

وتتركز الاعتراضات المحلية حاليا على توجه الشركة المطورة إلى شراء المزيد من الأراضي المحيطة بالمشروع لأنها أكثر فائدة لها من المحطة نفسها. وبينما ينتظر السكان المحليون إنقاذ المحطة، تعتبرها الشركة المطورة عبئا يجب تحمله من أجل تنفيذ المشروع الهائل الذي يعد الأكبر في العاصمة لندن هذا العام. ولكن سوء الحظ الذي لاحق المشروع منذ الثمانينات لم يبتعد كثيرا عن الموقع! وحتى الآن ما زال تضارب المعلومات حول حقائق المشروع هو الأمر السائد في أوساط العقار اللندنية.