بداية إصلاح أسواق تمويل العقار الأميركية وانعكاساتها على أسواق العالم

حجم الدعم الحكومي للمؤسسات التي أشرفت على الإفلاس بلغ 177 مليار دولار

يملك المستثمرون الأجانب من الصين واليابان والشرق الأوسط ثلث قيمة «فاني ماي» و«فريدي ماك» («الشرق الأوسط»)
TT

بدأت في الكونغرس الأميركي الأسبوع الماضي جلسات استماع لتحديد مصير مؤسستي تمويل شبه حكوميتين. وبعد الجلسات سوف يتعين اتخاذ قرارات صعبة قد يكون لها انعكاسات عميقة ليس فقط على أسواق تمويل العقار الأميركية، وإنما على التمويل العقاري في أنحاء العالم الأخرى. المؤسسات المعنية تعرف أميركيا باسم «فاني ماي» و«فريدي ماك»، وكانت حتى انفجار أزمة القروض الرديئة قبل عامين من أكبر وأنجح شركات التمويل العقاري. ولكن مع قدوم الأزمة اضطرت الحكومة الأميركية إلى التدخل لمنع سقوطهما بضخ مليارات الدولارات فيهما. ولكن جلسات الاستماع الحالية تهدف إلى إنهاء الارتباط الحكومي ودفع المؤسستين إلى الوقوف على قدميهما في السوق مرة أخرى من دون أي دعم.

ومن ضمن المسائل المطروحة للنقاش إمكانية تقسيم الشركتين العملاقتين إلى أجزاء صغيرة والتخلص من بعض الأقسام فيها والحفاظ على الأقسام المربحة فقط. ولكن أي قرار من شأنه هز الثقة في السوق قد تكون له انعكاسات خطيرة، خصوصا أن الانتخابات النصفية للكونغرس على الأبواب قبل نهاية العام الحالي. وتخضع للتمحيص أيضا عدة شركات مالية أخرى لتمويل القروض العقارية تعتبر شبه مملوكة للحكومة بعد مد الدعم المكثف لها. وتعود أهمية هذه الشركات إلى أنها تمد معظم السوق الأميركية حاليا بالقروض العقارية التي ترفض البنوك التعامل فيها في الوقت الحاضر.

والخطورة التي يراها خبراء السوق هي المساس بشركات تدعم سوق الإقراض العقاري التي تتوكأ على أسس هشة حاليا، فلا أحد يريد أن «يهز القارب» على حد تعبير خبير في واشنطن. ولكن ترك الوضع على ما هو عليه ليس خيارا مطلوبا أيضا حيث يقول بارني فرانك رئيس لجنة الخدمات المالية في الكونغرس الذي يرأس الجلسات إن إصلاح القطاع المالي يبدأ من إصلاح قطاع التمويل العقاري الذي كان سبب الأزمة أصلا.

وعدم التعامل بحكمة مع الوضع الحالي من شأنه أن يؤثر على المقترضين لتمويل العقار من المواطنين الأميركيين، وأيضا من المستثمرين الأجانب. وهؤلاء الأجانب من الصين واليابان والشرق الأوسط يملكون ثلث قيمة «فاني ماي» و«فريدي ماك»، عبر سندات تدفع فقط عند نهاية مدتها.

وإحدى نقاط الخلاف هي مدى الضمان الحكومي الأميركي لهذه السندات في حالة إقبال الحكومة على إعادة هيكلة هذه المؤسسات وانخفاض قيمة السندات بسبب إعادة الهيكلة. ويعتقد كثير من أعضاء لجنة الخدمات المالية في الكونغرس أن الحكومة لا يجب أن تضمن هذه السندات مثل ضمانها لسندات الخزانة، وأن على المستثمرين تحمل مخاطر إعادة الهيكلة على أساس أنها السبيل الوحيد للمحافظة على استمرار هذه المؤسسات في السوق.

ويتشدد الجمهوريون في لجنة الكونغرس حول هذه المسألة، ومنهم النائب سكوت غاريت الذي يقول إن دافعي الضرائب الأميركيين لا يجب عليهم دعم المستثمرين الأجانب في شركات التمويل العقاري خصوصا أنها مؤسسات لا تحمل ضمانات حكومية صريحة. ولكن هذا التصريح الذي من شأنه إزعاج الأجانب المستثمرين في المؤسسات المالية الأميركية المدعومة حكوميا ليس هو الرأي السائد بين أعضاء لجنة الخدمات المالية. بل إن وزير الخزانة الأميركي تيم غيثنر أوضح أنه لا شكوك هناك حول الضمانات الممنوحة إلى المؤسسات المالية التي تعمل بدعم حكومي، لا حول المجالات المسموح لها بالعمل فيها ولا في ضمان سنداتها التي لا تقل في ضمانها عن سندات الخزانة الأميركية.

ويبلغ حجم الدعم الحكومي الأميركي لمؤسسات التمويل العقاري التي كانت قد أشرفت على الإفلاس مبلغا هائلا لا يقل عن 177 مليار دولار، وهو أكبر حجما من الدعم الذي قدمته الحكومة منذ عامين لبنوك التمويل العقاري من أجل إنقاذها، وكان حجمه 153 مليار دولار، وكذلك حجم الدعم الذي قدمته الحكومة لصناعة السيارات بمبلغ 117 مليار دولار. ويتهم الجمهوريون في اللجنة زملاءهم من الديمقراطيين بأنهم يخفون التكلفة الحقيقية لدعم «فاني ماي» و«فريدي ماك» بإبعاد حجم الدعم عن الموازنة الفيدرالية. ولكن الجميع يعرف أنه من دون إصلاح هاتين المؤسستين فلا معنى لمعالجة جذور الأزمة المالية الخانقة.

وتعود جذور الأزمة في الواقع إلى نشأة المؤسستين لتسهيل التمويل العقاري للأميركيين، فتم تأسيس «فاني ماي» عام 1938 وبعدها «فريدي ماك» عام 1970 لشراء القروض العقارية من البنوك لتحرير رؤوس أموالها من أجل مد المزيد من القروض. ونشأت المؤسستان بقرار من الكونغرس وأصبحتا بعد ذلك من دعائم الاقتصاد الأميركي وساهمتا في توفير التمويل الرخيص لشراء العقارات الأميركية. وعلى مر السنين تحول الهدف من المساهمة في تسهيل التمويل إلى مساعدة كل الطبقات على ملكية العقار وشراء القروض المتعثرة بنسب متزايدة.

ودخلت بنوك وول ستريت على الخط وبدأت في «تفصيل» عمليات إقراض معقدة يتم تمويلها من قطاع التمويل غير المضمون المسمى «صب برايم». وكانت الفكرة الأساسية في مد مثل هذا التمويل غير العقلاني هو أن أسعار العقار سوف تستمر في الارتفاع إلى ما لا نهاية. وقدمت البنوك هذه القروض ثم أعادت بيعها في صكوك استثمارية بضمان القروض. وعندما انهارت أسعار العقار عام 2007، توقف المستثمرون عن شراء هذه الصكوك الاستثمارية، وتركت السوق منحصرة فقط في مؤسستي «فاني ماي» و«فريدي ماك».

وبعدما تصاعدت خسائر المؤسستين مع تعثر المزيد من المقترضين، وأوشكتا على الانهيار، تدخلت الحكومة الأميركية بعملية إنقاذ أشبه ما تكون بالتأميم وضخت في المؤسستين 177 مليار دولار، وهو مبلغ مرشح للتصاعد. وتختلف الآراء حاليا حول مصير المؤسستين ما بين الدعوة للتخصيص والدعوة المعاكسة للتأميم. ولكن الرأي الذي يتبلور حاليا تقسيمهما إلى مؤسسات بعضها خاص وبعضها الآخر حكومي.

وتنقسم هذه المؤسسات إلى ثلاثة أقسام: أحدها يحتوي على الديون الرديئة بغرض تصفيتها، والآخر قسم حكومي معني بتوفير الاقتراض الرخيص بشروط، أما القسم الثالث فهو يتكون من بنوك خاصة تقدم القروض العقارية وتضمنها.

والقسم الأول المعني بتصفية القروض الرديئة هو ما يخيف المستثمرين لأنه يخفض من قيمة الاستثمارات التي يملكونها الآن في الشركتين الأصليتين.

ويشرح أستاذ التمويل العقاري في جامعة جورج ماسون، أنطوني ساندرز أنه من الضروري تخليص قطاع التمويل العقاري من الدعم الحكومي وإلا فالاقتصاد الأميركي سوف يعاني المزيد من المتاعب. وسوف يدلي ساندرز برأيه أمام لجنة الكونغرس. ولكنه يعترف أن منع التمويل الحكومي لقطاع الإقراض الإسكاني من شأنه أن يجعل هذه القروض صعبة. فالسوق الخاصة في قطاع التمويل العقاري متغيرة ولا يمكن الاعتماد عليها. وكما حدث في العامين الأخيرين، فهي سوق يمكن أن تنضب تماما.

وفي قطاع القروض الكبيرة التي تسمى «جامبو» وتزيد في قيمتها عن 417 ألف دولار، تتجنب شركات مثل «فاني ماي» و«فريدي ماك» تقديمها، ولذلك يصعب الحصول عليها بالمرة في الأسواق الأميركية في الوقت الحاضر. وتطالب البنوك المستثمر الذي يطلب قروضا تزيد عن هذا الحد أن لا يقل المقدم الذي يدفعه في العقار عن 50 في المائة من قيمة العقار. كما تزيد أسعار الفائدة على القروض الكبيرة لاعتبارها تحمل المزيد من المخاطر.

من الصعوبات الأخرى التي قد تواجه مشتري العقار الأميركي احتمال نهاية القروض ثابتة الفائدة التي اعتاد عليها السوق الأميركية. فعلى خلاف أسواق أخرى مثل كندا وبريطانيا وفرنسا التي تعتمد فيها القروض العقارية على أسعار فائدة متغيرة أو ثابتة لفترات بسيطة لا تتعدى عدة سنوات، فإن معظم القروض الأميركية ثابتة الفائدة لفترات تتراوح بين 15 و30 عاما. ومع نهاية الدعم الحكومي المؤسسي للسوق قد تنتهي القروض ذات الفوائد الثابتة، وبالتالي تزداد مصاعب المشتري الأميركي، خصوصا في الفترات الصعبة.

هناك أيضا مسألة تكلفة الإصلاح لدافعي الضرائب الأميركيين، فشركات التمويل العقاري التي تم إنقاذها من الإفلاس تدفع للخزانة الأميركية حاليا 10 في المائة من الفوائد الثابتة على القروض الهائلة التي دفعتها الحكومة. ولكن عودة قيمة هذه القروض للحكومة هو أمر غير محتمل وفقا لمصادر السوق التي تعتبر أن هذه الأموال قد ذهبت إلى غير رجعة لتعويض خسائر السوق.

وقد ينتهي أيضا تمويل الإسكان العقاري لمحدودي الدخل بعد إصلاح هذه الشركات، التي كانت لا تطلب من المشتري في السابق دفع أكثر من ثلاثة في المائة من مقدم الثمن لشراء عقار.

وأخيرا إذا تم تخصيص شركات تمويل العقار الأميركية لكي تعمل مثل جمعيات البناء البريطانية مثلا فسوف يتعين عليها أن تعيد بناء رأسمالها، وهو تمويل غير متاح حاليا. ويتعين على شركات الإقراض العقاري الاحتفاظ بنسبة رأسمال تصل إلى خمسة في المائة من قيمة القروض التي تقدمها. ويصل إجمالي القروض المقدمة فعلا من هذه الشركات حاليا إلى 5500 مليار دولار، أي أن عليها أن تحتفظ بمبلغ 250 مليار دولار كرأسمال احتياطي، وهو مبلغ غير متاح لها في الوقت الحاضر.

ولهذه الأسباب سوف تكون عملية إعادة هيكلة شركات الإقراض العقاري الأميركية عملية طويلة الأجل ومعقدة. ولم تتضمن الميزانية الأميركية الأخيرة أي تفاصيل عن توجهات الإصلاح في هذا المجال. ولكن كلما استمر قطاع العقار الأميركي في التراجع جرى تأجيل المشكلة إلى المستقبل.

ولكن على الرغم من مناخ عدم وضوح الرؤية فإن الأمر الواضح هو أن الموديل السابق لم يعد يصلح للمستقبل. وفيما يختلف الجميع على توجهات المستقبل، فهم على الأقل يتفقون على أن العودة إلى ما كان عليه الوضع في الماضي عملية غير مجدية. وهذا في حد ذاته تغيير كبير. وفيما تتبلور هذه المتغيرات للمستثمر المحلي، فإن المستثمر الدولي يمكنه أن يستند إلى إحصاءات من مصادر كثيرة محايدة تؤكد أن أسواق العقار الأميركية في طريقها إلى الانتعاش بداية من منتصف هذا العام. ورصدت إحصاءات شركات العقار أسواق 50 ولاية أميركية قالت إن التوجهات إيجابية في معظمها من زيادة أيضا في نشاط الشراء. وأشارت آخر الإحصاءات المتاحة إلى ارتفاع المبيعات في شهر نوفمبر (كانون الثاني) الماضي بنسبة 7.4 في المائة من ستة في المائة في الشهر السابق. وهذه المعدلات تعد الأعلى منذ عام 2007.

ومع ذلك صرح بعض أكبر مستثمري العقار العالميين أن السوق الأميركية لن تشهد انتعاشا حقيقيا حتى عام 2011. وقال أحد هؤلاء وهو المستثمر وارين بافيت إنه لا يتوقع أن تعاود السوق الأميركية نموها حتى العام المقبل. وهو يعتقد أن السوق ما زالت تعاني من موجة الإفلاسات الجماعية في القطاعين التجاري والإسكاني وأن التخلص من أعباء هذه الإفلاسات سوف يستغرق بعض الوقت. ويضيف بافيت أن الأسعار سوف تستمر على معدلات أقل مما كانت عليه أثناء الفقاعة الأخيرة.

وإذا كانت هذه التوقعات صحيحة فهي تبرر إقبال المزيد من المستثمرين الأجانب على السوق الأميركية في العام الحالي على أساس أن الأسعار السائدة الآن تمثل قاع السوق. ويقبل الأثرياء على الاستثمار العقاري في أوقات عدم الثقة في الأسواق المالية، لأنها توفر المزيد من الاستقرار وتحافظ على القيمة. ويحتفظ كثير من المستثمرين حول العالم بنسب كبيرة من السيولة استعدادا لظهور فرص استثمار جيدة، ويتركز بحثهم في الوقت الحاضر على الأسواق الأميركية كموضع آمن للاستثمار طويل المدى.

ويقول ليام بيلي مدير الاستثمار في القطاع الإسكاني في شركة «نايت فرانك العقارية» إن توقيت الاستثمار العقاري حاليا له جدوى كبيرة لأن كثيرا من المواقع الجغرافية، ومنها السوق الأميركية، لم تشهد استثمارات كبيرة في الإمدادات العقارية بينما يزداد الطلب فيها على العقار باطراد. وهو يلاحظ أن كثيرا من المدن الرئيسية مثل لندن ونيويورك زادت في قيمتها العقارية في الشهور الأخيرة مخالفة تيار استقرار الأسعار السائد في الأسواق الدولية حاليا. وهو يضيف أن معدلات الإيجارات في المدن الكبرى أخذت أيضا في الارتفاع التدريجي هذا العام. ومع ذلك فهو لا يؤكد أن التحولات الواقعة في المدن العالمية الآن تشير إلى بداية انتعاش عقاري مستدام فيها، فالأفق ما زال يتسم بنسبة كبيرة من عدم الوضوح مع أخطار متعددة تتراوح بين ارتفاع نسب البطالة وأسعار الفائدة إلى عدم وجود مصادر التمويل المتاحة للمستثمر.