صعود العقار اللبناني وضبط المضاربة يجذبان التوظيفات المحلية والخارجية

أسعار الشقق في بيروت زادت 200% والأراضي 400% في 5 سنوات

وجه المستثمرون العرب واللبنانيون المغتربون أموالهم نحو السوق العقارية اللبنانية إثر المضاعفات التي أحدثتها الأزمة المالية الدولية («الشرق الاوسط»)
TT

يتصاعد ضجيج العقار، في لبنان عموما وعاصمته بيروت وجوارها خصوصا، بوتيرة لافتة تطغى على أي شأن آخر. فأسعار الأراضي والشقق تشهد فورات متتالية، تزامنا مع تدفق تحليلات وتوقعات منسوبة لمطورين عقاريين ووسطاء مفادها أن الطلب يفوق العرض والأسعار إلى مزيد من الارتفاع. فيما تزداد في المقابل عروض التمويل من المصارف بعدما دخل البنك المركزي على الخط مشجعا ومانحا لإعفاءات من الاحتياطي الإلزامي، ما دفع إلى خفض فوائد القروض التي تراجعت أيضا بفعل العوامل السوقية نتيجة استقرار الأوضاع الداخلية فحفزت بدورها حركة الطلب.

وواقع الأمر الذي تكشفه دراسة إحصائية مقارنة أجرتها شركة «رامكو» العقارية، أن معدل ارتفاع الأسعار في أحياء بيروت تراوح بين 100 و200 في المائة خلال السنوات الخمس الأخيرة، وذلك وفق خط تصاعدي متواصل. لكن الأهم التطور المذهل في أسعار الأراضي القابلة للتطوير التي زادت، خلال الفترة ذاتها، على الأقل بنسبة 150 في المائة في المناطق ذات الأسعار العالية في الأصل، بينما وصلت نسبة الارتفاع بين 300 و400 في المائة في أغلب الشوارع السكنية المفضلة من قبل ذوي المداخيل العالية أي ما يسمى «مناطق النخبة».

وتتفق آراء الخبراء والوسطاء على أن قطاع العقار في لبنان يعمل فعليا وفق قوانين العرض والطلب ولا تلعب فيه المضاربات دورا مهما. وبالتالي فإن الارتفاعات الحاصلة «فقاعة» مؤقتة. وقد تخلف لبنان عن ركوب موجة التحسين العقاري القوي التي عمت العالم والمنطقة في السنوات الأخيرة بضغط من أوضاعه الداخلية ومن العدوان الإسرائيلي التدميري صيف عام 2006. ومع تغير هذه العوامل بعد التسوية السياسية الداخلية، بدأت موجة الارتفاعات القياسية عام 2008 وتصاعدت تباعا مدعومة بطلب قوي من لبنانيين مغتربين وعاملين في الخارج وجدوا في العقار المحلي الاستثمار الأجدى والأكثر أمانا بعد انهيارات الأسواق المالية.

ويشير الخبراء إلى حافز مهم شجع أصحاب المدخرات على التوجه للاستثمار العقاري، فقد شهد العقار في لبنان دورات صعود طبيعية في السنوات السابقة، كما مر في حالات معينة بمرحلة تصحيح طبيعية أيضا، لكنها لم تتخذ أبدا شكل انهيار الأسعار. وعلى الرغم من توالي الازدهار ومراحل التصحيح فإن العبرة تبقى للمعدل الوسطي للعائد على العقار على المدى الطويل الذي يعتبر من أفضل معدلات العائد في العالم. خصوصا بعدما واصلت أسعار العقار في لبنان على اتجاهها التصاعدي على الرغم من الأزمة المالية العالمية وما نجم عنها من تراجع كبير في الكثير من الأسواق العقارية في المنطقة.

وقد تعززت هذه المعطيات بفعل الحيوية والقدرة على التأقلم اللتين أظهرهما الاقتصاد اللبناني، والإدارة السليمة للوضع النقدي والمصرفي التي تميز بها مصرف لبنان قبل وخلال الأزمة المالية الأخيرة. حيث برز لبنان كأحد البلدان القليلة التي لم تهزها الأزمة ولم تتأثر مصارفها بالخسائر التي نجمت عن الإقراض المتمادي، وخصوصا تمويل المضاربة العقارية أو الاستثمار في بعض الأدوات المالية كسندات الرهن العقاري الأميركية التي كانت في أساس الهزة المالية التي كادت تطيح بالاستقرار المالي في الكثير من الدول بما فيها الدول المتقدمة.

كما يعود ازدهار العقار إلى الصغر النسبي لحجم السوق في لبنان على الرغم من تنامي حركة البناء في جميع المناطق التي يقابلها ارتفاع مواز في حركة الطلب، وخصوصا الطلب المحلي جراء ازدياد السكان وارتفاع مستوى المعيشة، وكذلك توافر التمويل السكني سواء من المصارف أو من مؤسسات الإسكان الحكومية.

ويعتبر نائب حاكم مصرف لبنان سعد عنداري «أن حجم الاستثمارات في العقار في اقتصاد صغير الحجم هو بحد ذاته ظاهرة مردها تزامن عدم استقرار الأسواق العالمية مع استقرار نسبي في البيئة السياسية والأمنية في لبنان، وهذا ما أنتج ثقة غير معهودة في الاقتصاد اللبناني في الفترات السابقة واللاحقة للأزمة المالية العالمية».

ويلفت إلى أن هذه الظاهرة تثير، لأهميتها، أسئلة جوهرية حول مدى تناسب تنظيم السوق العقارية المبنية من الوجهة الهندسية مع الاحتياجات البيئية والجمالية. والى أي مدى تتجه الاستثمارات العقارية لخدمة الحاجات الاجتماعية للمواطنين وضمان عدم تحولها إلى المضاربة.

ويشكل حجم التداول العقاري وعاء ضريبيا هاما، يمكن الاستفادة منه لتعويض مداخيل ضريبية يمكن أن تؤمن للدولة، إذا أحسنت إدارتها، أحد أهم مصادر تمويل الخزينة اللبنانية. فهذه الضرائب، وفق عنداري، يمكن أن توفر للدولة أداة لتنظيم وتأمين حق من حقوق المواطنة الأساسية، ألا وهو حق تملك مسكن لكل مواطن.

ووفق تقديرات عنداري فإن «سوق العقار في لبنان تمثل حجما استثماريا لا يستهان به يقدر بما يعادل 7 إلى 10 مليارات دولار في العامين الأخيرين». وهذا الرقم يمثل نشاطا اقتصاديا محوريا مقارنة بحجم الناتج المحلي الإجمالي الذي يقدر بنحو 33 مليار دولار. «إلا أن هذا النشاط يختلف في طبيعة تمويله عن تلك المعتمدة في الأسواق العالمية. إذ أن بنية تمويل السوق العقارية في لبنان تعتمد على معادلة محصنة تتناقض تماما مع ما هو معمول به في الأسواق العالمية. ذلك أن نسبة الدين إلى الرسملة الذاتية (Debt Equity) في بعض الأسواق التي تضررت كانت تصل إلى نسبة 80 إلى 20 مقارنة ببنية معاكسة هي نسبة 20 إلى 80 في لبنان. بمعنى آخر، فإن قاعدة الدين إلى الرسملة، أي الرافعة التمويلية (Leverage Ratio)، وصلت إلى نحو أربعة أضعاف في الأسواق العالمية، مقارنة بقاعدة لا يتجاوز مضاعفها الربع في لبنان. إن الرافعة الصغيرة المحققة في السوق العقارية في لبنان توفر للمصارف الدائنة هامشا مريحا لتسييل العقار واسترداد دينه في أصعب الظروف. وهذا الواقع لم يتوفر في أي من الأسواق العقارية العالمية والفضل يعود إلى ضوابط السياسة الائتمانية المعتمدة من قبل السلطات النقدية. إلا أن هذه الضوابط النقدية لا يمكن أن تمنع حدوث تقلبات حادة في الأسعار ما دام التمويل الأساسي هو تمويل ذاتي».

ووفق تقرير صادر عن مجموعة بنك عودة «فإن استقرار الأوضاع المحلية كان كافيا لتمكين القطاع العقاري اللبناني من تسجيل حركة ناشطة. ولما كان هذا القطاع لم يشهد أصلا أي فقاعات في السنوات القليلة الماضية، كما حصل في بلدان أخرى في المنطقة، فقد ساعده ذلك على الصمود في وجه الأزمة التي أصابت بقية الأسواق العقارية الإقليمية. ومن المتوقع أن يتواصل هذا المنحى في السوق العقارية اللبنانية خلال العام 2010، خصوصا أن البلدان العربية، ولا سيما الخليجية منها، بدأت تشهد انتعاشا اقتصاديا تدريجيا، من شأنه أن يشجع على الاستثمارات العقارية الآتية من هذه البلدان، والتي تمثل القسم الأكبر من الاستثمارات العقارية الخارجية في لبنان».

ويشير التقرير إلى أن القطاع العقاري وحركة البناء في لبنان استطاعا التغلب على الأزمة المالية الدولية وانعكاساتها التي أصابت بقية الأسواق العربية. ففي الواقع، تمكنت السوق العقارية اللبنانية، وخاصة سوق العقار السكني، من الاستفادة من الأوضاع الصعبة التي عانتها الأسواق العقارية العربية الأخرى. ذلك أن المستثمرين العرب واللبنانيين المغتربين الميسورين وجهوا أموالهم نحو السوق العقارية اللبنانية إثر المضاعفات التي أحدثتها الأزمة المالية الدولية على الأسواق العقارية في دبي ومنطقة الخليج العربي. وقد عزز هذا الطلب الملحوظ استمرار المنحى التصاعدي لأسعار العقار في لبنان.

وتبين أرقام مديرية الشؤون العقارية أن العام الماضي شهد ارتفاع القيمة الإجمالية للمبيعات العقارية وارتفاعا أقل لعدد عمليات البيع. فقد زاد عدد المبيعات العقارية بنسبة 2.3 في المائة ليبلغ مستوى سنويا قياسيا هو 83622 عملية. وزاد، بوجه خاص، عدد المبيعات العقارية للأجانب بنسبة 17.6 في المائة مسجلا أيضا مستوى عاليا على الرغم من تراجع القدرة الشرائية لهؤلاء المستثمرين جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة إقليميا ودوليا.

ويدل هذا النمو على أن السوق العقارية اللبنانية لا تزال تجتذب المستثمرين الأجانب، الذين هم في معظمهم من الرعايا العرب. إذ أن أسعار العقار في لبنان لا تزال، على الرغم من ارتفاعها، أسعارا تنافسية بالمقارنة مع مثيلاتها في العالم العربي.

ويلاحظ أن بيروت استأثرت بالقسم الأكبر من المبيعات العقارية في لبنان، باعتبار أن المشاريع العقارية الفخمة، التي ارتفعت أسعارها أكثر من أسعار بقية مشاريع السوق العقارية المحلية، تتركز عموما في قلب العاصمة. وهذا الارتفاع في أسعار العقارات في بيروت دفع المستثمرين، ولا سيما اللبنانيين منهم، إلى البحث عن مساكن لهم خارج العاصمة.

وأظهر تقرير صادر عن مؤسسة «كوشمان وويكفيلد» أن مبيعات العقارات التجارية سجلت ازديادا تدريجيا، ما أسفر عن ارتفاع إيجارات هذه العقارات. وقد صُنفت الأماكن المميزة في بيروت، مثل وسط العاصمة والأشرفية وفردان والكسليك، بين أغلى المناطق من حيث بدلات الإيجار السنوية في الشرق الأوسط. وفي حين أن الإيجارات السنوية للسوق العقارية التجارية في معظم المدن التي شملتها الدراسة المذكورة قد انخفضت، فإن أداء السوق اللبنانية جاء معاكسا لأداء هذه الأسواق، إذ ارتفعت بدلات الإيجار السنوية فيها بنسبة 26 في المائة. وقد سجلت إيجارات وسط العاصمة ارتفاعا بنسبة 80 في المائة، وهو الارتفاع الأكبر في الشرق الأوسط خلال العام الماضي.