بريطانيا تستعد لسقوط عقاري ثان

كل المؤشرات تنذر بأزمة تتفاعل بعد ميزانية التقشف

العقار البريطاني يئن تحت وطأة ميزانية التقشف وندرة التمويل («الشرق الأوسط»)
TT

السؤال الذي تكرره شركات العقار وهيئات الأبحاث البريطانية لا يتعلق بفرص تراجع عقاري في بريطانيا، وإنما بمدى فترة صمود أسعار العقار في بريطانيا قبل سقوطها. المؤشرات الاقتصادية تشير في معظمها إلى أن معدلات الأسعار السائدة حاليا لا يمكن استمرارها بأي حال، كما أن آفاق تحسن الأوضاع المعيشية ليست واردة في السنوات الأربع المقبلة على الأقل.

وتقول أحدث الإحصاءات من بنك «هاليفاكس» البريطاني إن أسعار العقار البريطاني تراجعت في شهر يونيو (حزيران) الماضي بنسبة 0.6 في المائة بعد تراجع مماثل في الشهرين السابقين. ويعد هذا الشهر من أنشط شهور العام تقليديا في تجارة العقار نظرا للنشاط الاجتماعي واعتدال الطقس وزيادة الإقبال السياحي. وتؤكد هذه الإحصاءات الرأي القائل بأن انتعاش العام الماضي كان مؤقتا. والمثير هذه المرة أن عقارات لندن التي كانت في الماضي تعاكس تيار التراجع، تأثرت هي الأخرى بمناخ التقشف وبدأت في التراجع.

وفشلت محاولات البيع في لندن بأسعار أعلى مما كانت عليه في بداية العام بسبب الشعور السلبي لدى المشترين خصوصا بعد الانتخابات وإعلان الميزانية التقشفية الأخيرة. وقالت مصادر شركة «سافيل» العقارية إن توقعات الشركة ما زالت إيجابية ولكن «فترة تصحيح سعري تبدو ضرورية الآن لاستعادة التوازن في الأسواق».

من العوامل السلبية الأخرى تراجع مؤشرات ثقة المستهلك للشهر الرابع على التوالي، بينما تراجع أيضا مؤشر الأسهم في البورصة البريطانية إلى أدنى معدل له خلال عشرة شهور، ولم توافق البنوك البريطانية إلا على 50 ألف طلب قروض عقارية في شهر مايو (أيار) الماضي وهو معدل منخفض قياسيا.

والنتيجة هي أن المستهلك متشائم ولا يرغب في اتخاذ أي قرار استثماري في الوقت الحاضر، والبنوك أيضا تقع تحت ضغوط تنظيمية ولا ترغب في الإقراض العقاري إلا في أضيق الحدود. ومع تطبيق ميزانية تقشف من الحكومة البريطانية الائتلافية الجديدة، سوف يجد ملايين من البريطانيين صعوبة في خفض معدلات الديون وبالتالي سوف تتراجع قوتهم الشرائية مع انكماش النشاط الائتماني الذي كان يمول فترات الانتعاش السابقة. وتتجمع كل هذه العوامل لكي ترسم فيما بينها صورة متشائمة عن الأفق الاستثماري العقاري في المدى المنظور فلا توجد مؤشرات تدعم تحسن في الأسعار قريبا.

وأكد هذا التوجه بنك إنجلترا الذي تشير أحدث إحصاءات منه إلى أن موجة الانتعاش العقاري السابقة في النصف الثاني من العام الماضي كانت مؤقتة وأنها تتراجع حاليا. واستنتج البنك أن الأسعار في طريقها إلى التراجع هذا العام والعام المقبل أيضا وأن سوق العقار سوف تواجه موجة تراجع مزدوجة يطلق عليها تعبير «Double Dip». وأشار البنك أيضا إلى أن معدل الموافقة من البنوك على القروض الجديدة يسير بمعدل 50 ألف موافقة شهريا، وهو نصف المعدل المعتاد قبل الأزمة.

وتتوقع شركة «هاي غروب» الاستشارية أن تتراجع مستويات المعيشة في بريطانيا خلال السنوات الأربع المقبلة، مما يعني أن العائلات البريطانية سوف تجد صعوبة في خدمة ديونها المتراكمة خصوصا لو ارتفعت أسعار الفائدة عن النصف في المائة الحالية. وتشرح المجموعة الوضع الحالي بأنه أول تقشف كبير يضرب بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية وجاء بعد عشر سنوات من الانتعاش وارتفاع الأجور ومعدلات الاقتراض. وما يجعل هذا الانكماش سيئا أنه يتزامن مع تراجع في مستويات الثقة من المستهلكين التي بلغت الآن أدنى معدلاتها للشهر الرابع على التوالي. وسوف تنقضي عدة سنوات قبل أن يرى البريطانيون أجورهم ترتفع مرة أخرى.

وغيرت الكثير من شركات الاستشارة العقارية في لندن من توقعاتها لأسعار العقار هذا العام من الارتفاع الطفيف إلى الانخفاض أو البقاء بلا تغيير في أفضل الظروف.

وقال الاقتصادي هاورد ارشر من شركة «غلوبال انسايت» الاستشارية إن من الصعب توقع أي زيادة في الأسعار في عام 2011 لأن المؤشرات السلبية السائدة حاليا سوف تزداد سلبية في العام المقبل. هذا وتقل الأسعار السائدة حاليا في العقارات البريطانية بنسبة 17 في المائة عما كانت عليه في صيف عام 2007.

وما يزيد من صعوبة شراء العقار الأول لمعظم البريطانيين أن معدلات زيادة الأجور حاليا شبه معدومة مع اشتراط البنوك توافر مقدم شراء للعقارات لا يقل عن 33 ألف إسترليني بعد أن كان المبلغ المطلوب لا يزيد على 13 ألف إسترليني في ذروة الانتعاش. وتعتمد نسبة 80 في المائة من المشترين الجدد على الاقتراض من الوالدين لشراء أول عقار.

وقالت مصادر من مصلحة تسجيل العقارات البريطانية إن المزيد من التراجع سوف يحدث في أسعار العقار البريطاني حتى يمكن الوصول إلى نقطة التوازن التاريخية بين أسعار العقار وقدرة الاقتراض العقاري. ولا توجد الآن أي فرص متاحة لتحسين نسب أو شروط الإقراض العقاري، مما يعزز الاعتقاد بأن البديل الحتمي هو تراجع أسعار العقار.

ويتوقع بعض الاقتصاديين، مثل بول ديغل من شركة «كابيتال إيكونوميكس»، أن تتراجع الأسعار بنسبة 5 في المائة حتى نهاية هذا العام. وكلما طال أمد الضغوط على الإقراض العقاري زاد احتمال تراجع الأسعار أكثر. وهو يقدر أن زيادة الأسعار التي تحققت في العام الماضي وبنسبة 6 في المائة كانت نتيجة ندرة في المعروض من العقارات في السوق. وكان سبب ذلك أن بعض البنوك رفضت الحجز على عدد كبير من المدينين والاستيلاء على عقاراتهم لسداد الديون، ومن ثم بيعها في المزاد، لأن هذا كان من شأنه أن يصيب الأسعار بالانهيار مما ينعكس بالخسائر على البنوك قبل غيرها. ولكن البنوك لن تستطيع أن تستمر في هذا الكرم في المدى المنظور خصوصا مع زيادة التقشف وقد تزداد بقوة أعداد العقارات المعروضة للبيع في المزاد هذا العام مع تشدد البنوك.

وسوف تواجه البنوك البريطانية المزيد من الصعوبات في الإقراض بعد سحب بنك إنجلترا المركزي نحو 400 مليار إسترليني من الأموال المخصصة لدعم الإقراض العقاري وتوجيه البنوك إلى السوق التجارية للحصول على التمويل المطلوب. وقد يكون هذا مكلفا للبنوك خصوصا مع تراجع وضع بريطانيا الائتماني بسبب ارتفاع معدل ديونها السيادية.

من ناحية أخرى سحب البنك المركزي الأوروبي أيضا نحو 142 مليار يورو من الضمانات المتاحة لإقراض البنوك الأوروبية مما سوف يجعل الإقراض الأوروبي أيضا صعبا.

وعودة إلى مجموعة «هاي غروب» الاستشارية لرسم بقية ملامح الصورة السلبية للسوق. فالمجموعة تتوقع تراجع مستويات المعيشة في المدى المنظور للبريطانيين. والسبب هو أن زيادات الأجور لن تتعدى في المتوسط 2.4 في المائة بينما نسبة التضخم لا تقل عن 5.4 في المائة سنويا مما يعني أن المواطن البريطاني سوف يجد أجره يتأكل سنويا بنسبة 3 في المائة من دون أن يستطيع أن يعكس هذا الوضع. ويضاف إلى ذلك أيضا زيادة ضريبة القيمة المضافة أو ضريبة المبيعات إلى 20 في المائة (من 17.5 في المائة حاليا) مع بداية العام الجديد مما سيشكل ضربة قوية لميزانيات البريطانيين وقوتهم الشرائية.

ومما يضيف إلى المعاناة أيضا زيادة معدلات الضريبة على الدخول المرتفعة بنسبة 50 في المائة وخفض معدلات الضمان الاجتماعي والمساعدات الحكومية بنسب كبيرة للعاطلين عن العمل والعاجزين عنه. كما زادت أيضا ضرائب زيادة القيمة الرأسمالية مما يجعل الاستثمار العقاري من أجل التأجير أقل جاذبية من حيث عوائده الإجمالية.

ويعني هذا في عرف أوساط الاقتصاد البريطاني أن العشر سنوات الأولى من القرن الجديد ذهبت برخائها النسبي الذي شهد زيادات إجمالية في الأجور بلغت 37 في المائة، أو 10 في المائة بعد خصم نسب التضخم. أما في الميزانية الأخيرة فقد أعلن وزير الخزانة البريطاني تجميد الأجور لمدة عامين لكل العاملين في القطاع العام بأجور أعلى من 21 ألف إسترليني في السنة.

وتقول شركات العقار البريطانية إن معدلات البيع تراجعت في الشهور الأخيرة بنسب وصلت إلى 30 في المائة لأن البائعين لا يرغبون في خفض الأسعار والمشترين يأملون في تراجع الأسعار بعد فترة ويفضلون الانتظار. ولكن «العامل القاتل» على حد قول أحد مديري العقار في لندن هو عدم القدرة على تمويل شراء العقار بالاقتراض. وترى هذه الشركات أن الوضع لن يتحسن حتى تنفرج أزمة الإقراض العقاري وترتفع نسب التمويل من 75 في المائة إلى 90 في المائة كما كان الوضع سابقا. وفي الوقت الحاضر ينظر المشترون بدقة إلى العقارات المعروضة للبيع ويفرضون شروطهم فيما يمكن اعتباره سوقا للمشترين.

أما عن تحولات المستقبل المتوقعة فيشير إليها المستشار العقاري ديفيد سميث من شركة «كارتر جونز» الاستشارية في لندن حيث يقول إن الارتفاعات السعرية التي شهدتها السوق البريطانية في العام الماضي لا تعبر عن نشاط في السوق بقدر ما هي زيادة في الطلب عن العقار المحدود المعروض في الأسواق بأسعار تنافسية. وهو يضيف أن الزيادة مدعومة ببعض العوامل الأخرى مثل انخفاض أسعار الفائدة الذي قد يرتفع مرة أخرى بأقرب مما يتصور البعض نظرا لعودة خطر التضخم مرة أخرى.

ومع عودة ارتفاع أسعار الفائدة فإن نسبة تراجع أسعار العقار سوف تزداد. وقد يحدث هذا خلال النصف الثاني من العام الحالي. وهو يرى أن معظم المشترين في بريطانيا ينتظرون حاليا تفاعل أسواق العقار مع الميزانية الجديدة قبل الارتباط بأي صفقات عقارية.

وأوضحت إحصاءات عن المشترين الجدد في السوق أنهم ما زالوا عند نسبة 26 في المائة، الأقل من النسبة التاريخية التي تصل إلى 40 في المائة، هذا على الرغم من وجود بعض الحوافز في السوق مثل الإعفاء من ضرائب العقار (ستامب ديوتي) حتى 250 ألف إسترليني للمشترين الجدد.

والاعتقاد السائد هو أن أزمة التمويل عكست أوضاع السوق وأفرزت مناخا جديدا وأثرت على جميع الناشطين في سوق العقار بصورة أو بأخرى. فالبنوك تستبعد الآن كل من تقل درجة ملاءته المالية عن الحد المقبول. وهي تفرض شروطا قاسية على تكاليف الإقراض وأسعار الفائدة على القروض العقارية التي انفصلت عمليا عن أسعار الفائدة الأساسية المعلنة من البنوك المركزية. وبات وضع الأسواق المالية صعبا أيضا على الشركات التجارية التي وجدت أن التجمد الائتماني امتد إلى قطاعات استهلاكية وأثر على نشاط البيع للسلع المعمرة والسيارات والمشتريات الموسمية. ويقول كريس مور كبير الاقتصاديين في جمعية «نيشن وايد» إن هناك الكثير من عدم الثقة المبالغ فيها في الأسواق حاليا بسبب عدم وضوح الرؤية، وإن هذا الوضع قد يؤدي إلى تجمد الكثير من القطاعات في السوق ويسبب المشكلات للبائعين والمشترين على السواء.

ويساهم في خمول أسواق العقار الآن تردد المشترين الجدد في القفز إلى أول درجات السلم العقاري لعدم وجود أي حافز يدعو إلى مثل هذه الخطوة في وقت تتراجع فيه الأسعار شهرا بعد شهر. وفي الوقت الحاضر يفترض البعض أنه كلما تأخر في الوصول إلى السوق انخفضت الأسعار أكثر.

وعلى الرغم من عدم وضوح الرؤية فإن الأمر الثابت هو ضرورة أن يجد المستثمر استراتيجيات جديدة للمستقبل. فالمطلوب في هذه الأوقات الصعبة هو تحجيم الأضرار والاستفادة من الأوضاع السائدة. ويرى الخبراء أن هناك الكثير من الفرص الجيدة المتاحة لمن يمتلك السيولة المالية، وعلى المستثمر للمدى الطويل ألا ينظر إلى التذبذب الحاصل في الأسواق الآن. والأفضل له اختيار العقار الذي يريده بدلا من انتظار السوق لفترة أطول. وهناك تخفيضات هائلة في أسعار العقار حاليا، كما أن الكثير من البائعين يريدون البيع، على أساس أن الأسعار المخفضة ما زالت تمثل لهم نسبة كبيرة من الأرباح بالمقارنة إلى ما دفعوه في العقار قبل سنوات. وتعم هذه التخفيضات جميع قطاعات السوق حتى القطاع الفاخر فيها.

وتنصح شركة عقار لندنية مستثمريها بالتوجه إلى المناطق التي ستقام فيها دورة الألعاب الأولمبية المقبلة في لندن عام 2012 وبعض مناطق شرق لندن التي يجري الإنفاق فيها حاليا على مشروعات تجميل، وتستفيد من خطوط حديدية سريعة إلى أوروبا. كما أن منطقة ناين إلمز جنوب النهر (التيمس) تستفيد من مشروعات عملاقة لتطوير موقع محطة كهرباء ومساحة كبيرة بجوار النهر تشمل مبنى السفارة الأميركية الجديد الذي يكتمل في عام 2017.