صندوق النقد الدولي: أسواق العقار البريطانية تتجه نحو ركود ثان

ما لم تجر عملية تصحيح حقيقية على الأسعار

TT

حذر صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير حول الأوضاع المالية والاقتصادية الأخيرة في بريطانيا، وعلى خلفية القرارات الحكومية الأخيرة بشأن خفض العجز في الميزانية، من تراجع أسعار العقارات في بريطانيا وحصول انكماش أو ركود عقاري ثان. كما حذر من المبالغة في أسعار العقارات التي لا تزال بشكل عام أعلى مما يفترض وبحاجة إلى تصحيح. وقال كبير الاقتصاديين في صندوق النقد أولفييه بلانشار الذي كان قد أشاد قبل فترة بالإجراءات الحكومية البريطانية الخاصة بتخفيض العجز في الميزانية والإجراءات التقشفية الكثيرة ومحاولة التخلص من عبء الديون العامة بشكل عام، محذرا من أن الخطط هذه والخاصة بخفض العجز سيكون لها بلا شك آثار سلبية على النمو الاقتصادي العام. وطالب الحكومة بمراجعة ووقف هذه الخطط إذا ما أثبتت آثارا سلبية على النمو المطلوب. كما أكد أن بقاء أسعار العقارات السكنية على حالها قد يؤدي إلى ركود ثان في أسواق العقار لأنها لا تزال عالية جدا على أساس مقاييس التقييم التقليدية، على حد تعبير بلانشار. وأضاف الاقتصادي المعروف أن دعم السياسات الخاصة بأسواق العقار قد لا يكون كافيا لمنع المزيد من التصحيح. واعتبر بلانشار أن الأوضاع العقارية الحالية في بريطانيا وخصوصا الأسعار المرتفعة مقلقة للغاية وأن الإعفاءات الضريبية للمشترين للمرة الأولى قد لا تكون بدورها أيضا كافية لمنع الانزلاق إلى الركود الثاني.

وتأتي تحذيرات ومخاوف صندوق النقد الدولي، في نفس اليوم الذي كان رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون يلقي خطابه أمام المؤتمر الخاص بحزب المحافظين بعد خطاب وزير المالية جورج أوزبورن الخاص بالتخفيضات. وأصر رئيس الحكومة البريطانية على الإجراءات الحكومية الاقتصادية لتخفيض المديونية العامة التي تعتبر الأسوأ بين مجموعة العشرين والإجراءات التقشفية التي تواجه انتقادات كثيرة ومنها من داخل الحزب الحاكم والمتحالف مع الليبراليين. وطالب كاميرون البريطانيين بتغيير طريقة التفكير العامة في البلاد، وأكد أن على الميسورين تحمل تبعات الخطط التقشفية وتحمل الأيام الصعبة القادمة على بريطانيا، محذرا من عواقب وخيمة ومستقبل مظلم لبريطانيا ما لم تلتزم عملية تخفيض العجز.

ويوافق الكثير من الخبراء والمهتمين في عالم العقار البريطاني والأوروبي مع تحذيرات صندوق النقد لأسباب ثلاثة في ظل الأوضاع الحالية، أولا أن معدل سعر العقار السكني لا يزال عاليا جدا نسبة إلى معدل الأجور العام الذي يصل إلى أكثر من خمس أو ست مرات. وحسب الإحصاءات الأخيرة، فإن معدل أجر الموظف البريطاني في العام نحو 27.5 ألف جنيه إسترليني (41.25 ألف دولار تقريبا) في السنة أو أقل في بعض المناطق، بينما يتجاوز معدل سعر العقار الـ166 ألف جنيه (250 ألف دولار تقريبا). وثانيا يتوقع الخبراء أن يرتفع معدل البطالة خلال الفترة المقبلة وبالتحديد خلال السنوات الثلاث المقبلة نتيجة الإجراءات التقشفية الحكومية الحالية (يتوقع خسارة أكثر من 150 ألف موظف حكومي على الأقل). ومن شأن ارتفاع معدل البطالة عادة التأثير سلبا على حركة الأسواق وعدد الصفقات المعقودة وعدد المنازل المباعة بالتالي والأسعار في المحصل. وثالثا، لا تزال الأسواق العقارية حاليا تعاني من شحة القروض العقارية والبضائع الخاصة بها. ومن شأن هذه الشحة أيضا وتراجع عدد القروض الممنوحة يوما بعد يوم إصابة الأسواق العقارية بفقر الدم والحد من عدد الداخلين إليها وخصوصا للمشترين للمرة الأولى. أضف إلى ذلك أن البنوك التي لم تعد تقرض كالسابق، تعاني من قلة السيولة وقد تلجأ إلى رفع معدلات الفائدة في المستقبل القريب كما هو متوقع والسنة المقبلة في أقصى حد. كما أن هذه البنوك التي تتعرض لانتقادات عدة ومن جميع الجهات حول مسؤوليتها عن الركود الأخير وانهيار أسواق المال، تفرض شروطا مشددة حاليا على منح القروض العقارية وخصوصا على المشترين للمرة الأولى، فالفرد يحتاج إلى 30 ألف جنيه إسترليني (45 ألف دولار تقريبا) للحصول على قرض، أي أنه بحاجة إلى دفعة أولى ربع سعر القرض قبل الحصول عليه وهو ما يساوي معدل الأجر العام لسنة وأكثر من ذلك. وتضع هذه الشروط ضغوطا كبيرة على عدد المشترين والداخلين إلى الأسواق وبالتالي حركتها وصحتها وتراجع هذه الأعداد بالنهاية وتراجع عدد الصفقات. وكانت الحكومة البريطانية في محاولة لتحريك الأسواق ومساعدة الناس على شراء عقاراتهم، قدمت بعض الإعفاءات الضريبية التجميلية من دون أن تؤثر حقا على عدد المستقرضين ورفعه خلال الربعين الثاني والثالث من هذا العام. ولا يزال عدد المستقرضين يتراجع ولا يزال عدد القروض الممنوحة أقل من أي وقت مضى في تاريخ الأسواق العقارية البريطانية كما أشارت «الشرق الأوسط» بالأرقام في تقاريرها السابقة.

بأي حال، وفي نفس اليوم الذي صدر فيه تقرير صندوق النقد الدولي، أكد تقرير لمؤسسة «كلوتونز» العقارية الاستشارية الدولية، أن أسعار العقارات السكنية تراجعت لأول مرة في وسط العاصمة لندن منذ سنة ونصف السنة، أي منذ مارس (آذار) العام الماضي (2009). لكن التقرير أكد أيضا أن سوق الإيجار في العاصمة تشهد انتعاشا كبيرا بسبب ارتفاع الطلب، الذي يؤدي حاليا إلى ارتفاع الأسعار.

وحسب أرقام المؤسسة الدولية، فإن أسعار العقارات في وسط العاصمة البريطانية قد تراجعت في الربع الثالث من العام الحالي بنسبة لا تقل عن 0.2 في المائة، فيما ارتفعت أسعار الإيجارات بنسبة لا تقل عن 4.3 في المائة. وعلى هذا الأساس تكون أسعار العقارات في العاصمة قد تراجعت بنسبة لا تقل عن 11 في المائة منذ بدء أزمة الائتمان الدولية في سبتمبر (أيلول) عام 2007، أي قبل ثلاث سنوات، أي بعد نهاية الطفرة العقارية التي عرفتها بريطانيا لسنوات طويلة منذ نهاية التسعينيات.

ومع هذا، لا تزال الأسعار في الربع الثالث من هذا العام ورغم أن التراجع الحالي أعلى بنسبة 6 في المائة تقريبا عما كانت عليه في الربع الثالث من العام الماضي. يأتي التراجع على الأسعار بعد فترة من تراجع نسبة النمو على الأسعار في الربع الثاني من هذا العام أيضا والذي سجل معدل ارتفاع عليها بنسبة 1 في المائة تقريبا.

ويعتبر المسؤول عن قسم العقارات السكنية في «كلوتونز» أندرو ستانفورد، كما أكد الكثير من المراقبين البريطانيين والمختصين في عالم العقار وأرقامه، وكما أشارت «الشرق الأوسط» مرات عدة خلال الشهر الماضي، أن التراجع على أسعار العقارات يعود إلى كثرة المعروض والموجود في الأسواق من العقارات نسبة إلى الطلب الشحيح والقليل هذه الأيام وبعد التغيير الحكومي في البلاد الذي وعد بتغيير اقتصادي جوهري على الكثير من الأصعدة. لكن أيضا كما أكد الكثير من المراقبين، أن بيع العقارات الفاخرة أو الممتازة لا يزال يشهد طلبا واهتماما كبيرين من الكثير من المهتمين المحليين والدوليين الباحثين عن فرص استثمارية طويلة الأمد واستثمارات بعيدة عن أسواق المال المتقلبة على خلفية تراجع سعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل العملات الأجنبية الأخرى وخصوصا الدولار واليورو.

وفي نفس الوقت تشهد سوق العقار الفاخر تقلبات في حد ذاتها، فبينما كان الاهتمام يتركز على العقارات الغالية الثمن التي يتعدى سعرها الـ5 ملايين جنيه (7.5 مليون دولار) في الفترة السابقة، بدأ الاهتمام حاليا يتركز على العقارات التي لا يتعدى سعرها الـ2.5 مليون دولار (3.75 مليون دولار). وحسب تقرير المؤسسة يبدو أن المستثمرين الكبار الباحثين عن العقارات الغالية الثمن والقصور القديمة والمنازل الفاخرة المعروفة، ينتظرون حاليا حصول عملية تصحيح على الأسعار، وهي عملية متوقعة منذ الآن حتى نهاية العام المقبل على أقل تقدير، كما أن هؤلاء المستثمرين ومعظمهم من الأجانب وخصوصا الشرق الأوسط والصين وروسيا وألمانيا وآيرلندا والولايات المتحدة الأميركية، يحاولون تنويع استثماراتهم العقارية نفسها والتحرك باتجاه أسواق أخرى لا تزال الأسعار فيها تشكل فرصا ممتازة.

ورغم هذا الاهتمام الأجنبي الكبير الذي أغرق أسواق العقارات الفاخرة والمهمة في بريطانيا وخصوصا العاصمة لندن بما لا يقل عن 6 مليارات جنيه (9 مليارات دولار) بداية العام الحالي، فإن الأسواق الفاخرة لا تزال تعتمد على الاهتمام المحلي بشكل عام، وعملية التغيير في الاهتمام بين الجانبين أسهمت ببقاء الأسعار نسبيا على حالها في هذا القطاع المهم في الربع الثالث من هذا العام في معظم المناطق المهمة في العاصمة لندن رغم تراجع الأسعار بنسب مهمة في عدة مناطق، مثل هامرسميث وفولهام وكيزينغتون.

ويؤكد التقرير أن هناك تراجعا ملحوظا على نمو الأسعار في هذا القطاع الفاخر، ولا يتوقع أن يتوقف هذا التراجع العام المقبل، بل على العكس قد يتفاقم ويسوء العام المقبل إذا ما عادت معدلات الفائدة إلى الارتفاع نتيجة الأوضاع الاقتصادية في البلاد في المستقبل القريب ووقف ما يعرف بـ«التيسير النقدي» أي طباعة المزيد من أوراق العملة المحلية للمرة الثالثة منذ بدء الركود الاقتصادي العالمي.