ملكية العقار الأميركي تتحول من حق مشروع إلى حلم أرستقراطي

إدارة الرئيس أوباما تواجه ضغوطا متزايدة لإصلاح أوضاع سوق العقار.. خصوصا مع تراكم خسائر دافعي الضرائب

الملكية العقارية ظلت حلما أميركيا لعقود طويلة («الشرق الأوسط»)
TT

بدأت الإدارة الأميركية في إعادة حساباتها فيما يتعلق بإصلاح الخلل الهيكلي في سوق العقار بأميركا، الذي تحولت بموجبه ملكية العقار من حق مشروع للعائلات إلى حلم يتحقق فقط حينما تكون هناك قدرة مالية هائلة وقادرة على تحويل الحلم إلى حقيقة. وتتعامل الإدارة من واقع السوق التي انخفضت فيها نسب الملكية إلى أدنى مستوياتها منذ عهد الرئيس كلينتون، وبات الواقع العقاري بمثابة كابوس مرعب تحت وطأة الديون والطرد من البيوت.. وتحاول الإدارة الحالية أن تحقق حالة توازن يتعايش معها الشعب الأميركي مع الواقع الجديد ولا يلوم الإدارة عما أصاب سوق العقار، خصوصا مع اقتراب انتخابات الكونغرس في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.

ولا ترى الإدارة بديلا عن الإصلاح الجذري لتوفير العقار بشروط مناسبة على المدى البعيد، حتى ولو كانت العقارات مؤجرة وليست مملوكة، وهي تأمل ألا يتأثر الحزب الديمقراطي سلبيا بهذه المتغيرات في الانتخابات النصفية.

وحتى عهد قريب كان السلوك الأميركي في الزواج والبحث عن عقار لشرائه من أساسيات المعيشة بالأسلوب الأميركي. ومنذ الستينات كانت هذه الحقيقة واقعا لأكثر من ثلثي الأميركيين. ولكن مع وقوع الأزمة المالية بسبب الاقتراض السهل في عصر الطفرة وتراكم القروض الرديئة على عقارات انهارت قيمتها، تحول الحلم الأميركي في ملكية عقار لكل أسرة إلى كابوس لصغار المشترين وللحكومة أيضا. وبعد أن ظلت الحكومات السابقة تشجع الملكية العقارية وتسهل الاقتراض من أجلها، تحولت السياسة المالية إلى أولويات أخرى، وتراجع حق الملكية إلى آخر الأولويات.

ويشير واقع أسواق العقار الأميركية إلى أن نسبة 10 في المائة من كل المقترضين عقاريا متأخرون عن سداد القروض لأكثر من ثلاثة أشهر، وهو ما يزيد بنسبة أكثر من الضعف عما كان عليه الوضع يوم الانتخابات الرئاسية السابقة في عام 2008. ليس هذا فقط، بل تشير دراسة أجراها بنك «دويتشه» الألماني إلى أن الدوائر الانتخابية الديمقراطية تعاني من نسب أكبر للمتعثرين في قروضهم العقارية.

وقد يشير هذا إلى أن الحزب الديمقراطي قد يشهد نسبا أكبر من غضب الناخبين الأميركيين عن الحزب الجمهوري المنافس.

وتواجه إدارة الرئيس أوباما ضغوطا متزايدة لإصلاح أوضاع سوق العقار، خصوصا مع تراكم خسائر دافعي الضرائب جراء مساندة مؤسستي الإقراض «فاني ماي» و«فريدي ماك» اللتين تدعما سوق الإقراض العقاري حاليا بضمان معظم القروض الجديدة.

وتعقد حاليا في عدة ولايات اجتماعات استشارية بين خبراء الإسكان ومديري البنوك والمقترضين من القطاع الخاص ومسؤولين حكوميين من أجل إيجاد معادلة ترضي معظم الأطراف. كما أن الكثير من أعضاء الكونغرس يعدون بأن يكون إصلاح سوق العقار الأميركية إحدى الأولويات في الدورة المقبلة.

وهناك الكثير من الأسباب التي جعلت الأزمة الأميركية أخطر من مثيلتها الأوروبية، ففي كل من أستراليا وآيرلندا وإسبانيا وبريطانيا تعد نسبة الملكية العقارية أكبر منها في الولايات المتحدة بسبب تداعيات الأزمة.

وكان السبب الأساسي أن المشتري الأميركي أتيحت له فرص أكبر للتمويل الرخيص عبر بنوك أعادت تدوير القروض، ومعظمها من نوع «صب برايم» عالي الخطورة، في أدوات مالية تشبه السندات أعادت بيعها إلى مستثمرين حول العالم.

ويرى المحللون أيضا أن السياسة الحكومية الأميركية دفعت باتجاه الملكية الفردية للعقار عبر تسهيلات ضريبية وضمانات ائتمانية. في أوروبا كانت البنوك تقوم بالمهمة وتطلب من المشتري دفع حصة لا تقل عن 10 في المائة من ثمن العقار قبل السماح له بالاقتراض. وفي بريطانيا ألغت الحكومة البريطانية التخفيضات الضريبية التي كان يحصل عليها المقترض العقاري، وذلك منذ عام 1999.

وفي الماضي كانت حكومة ثاتشر المحافظة تشجع سكان المساكن الشعبية على شرائها، مع تقديم حوافز لهم في الأسعار والتمويل، ولكن هذه السياسة انتهت في عصر حكومة العمال التي حكمت منذ عام 1997 وحتى بداية هذا العام.

وفي دول أوروبية أخرى مثل ألمانيا تم تخفيض الدعم المقدم على القروض العقارية، بينما استمر الدعم الحكومي الأميركي.

وفي أوروبا انتهى عصر تشجيع الملكية العقارية اصطناعيا بتقديم الحوافز، وهو درس لم تتعلمه الولايات المتحدة بعد، ولكنها تدرس حاليا كيفية التعامل معه. وبدلا من النظرية القائلة إن الملكية العقارية أفضل من الإيجار، لأنها تسهم في استقرار العائلات والمجتمعات، حيث أطفال أصحاب العقارات ينجزون أفضل في المدارس عن أطفال المستأجرين. الآن انعكس الوضع بدراسات أخرى تقول إن المهم هو الاستقرار العائلي وليس ملكية العقار أو إيجاره، ولا فرق بين الملكية والإيجار طالما أن المستأجر مستقر في عقاره لفترات طويلة.

أما النظرية الثانية لضرورة ملكية العقار، فمن الناحية الاستثمارية البحتة يقول أصحابها: لماذا إهدار الأموال في الإيجار بينما يستطيع المستثمر أن يبني استثمارا جيدا في العقار بأقساط تكون أحيانا مشابهة في القيمة لقيمة الإيجارات، وقد يكون هذا صحيحا في أوقات الطفرة، مثل فترة الفقاعة الأخيرة، ولكن على المدى البعيد لا تنمو العقارات إلا بنسبة مساوية لنسبة التضخم.

ويقول روبرت تشيللر، الباحث الاقتصادي في جامعة ييل، إن استثمار مائة دولار في العقار في عام 1933 يساوي الآن 178 دولارا، بينما استثمار المبلغ نفسه في الأسهم كان سيوفر قيمة قدرها 932 دولارا، ومن غير حساب العوائد الدورية.

كما أن شراء العقارات يتضمن تكاليف قانونية وعمولات أخرى، وفي حال الأسواق العادية المستقرة، يتعين على المشتري أن يبقى في عقاره لمدة خمس سنوات على الأقل من أجل تعويض هذه التكاليف. ولكن في أسواق اليوم انخفضت الأسعار بنسبة 30 في المائة منذ عام 2006.

ويتفق مسؤولون حكوميون أميركيون، ولو بطريقة غير مباشرة، مع الاعتقاد بأن العقار ليس استثمارا جيدا على المدى البعيد. وهذا الشهر تحدثت كبيرة الاقتصاديين في الاحتياطي الفيدرالي، كارين بينس، في اجتماع لجمعية الاقتصاديين الأميركيين قائلة إن العقارات ليست استثمارا جيدا، مؤكدة أنها تتحدث عن تجربة شخصية وليس بالنيابة عن الاحتياطي الفيدرالي؛ فهي تشير إلى أن العقارات تجمد الكثير من رأس المال فيها بطريقة لم يمكن تجزيئها لو أراد المستثمر، فهو لا يستطيع أن يقتطع غرفة من عقاره ويبيعها إذا ما أراد بعض السيولة، بعكس الأسهم والسندات. كما أن أسعار العقارات مرتبطة ارتباطا وثيقا بمستويات التوظيف في السوق، فهي تنخفض في قيمتها أثناء وقت الأزمات، وهو الوقت الذي يحتاجها فيه المستثمر العقاري.

وهناك جانب سلبي آخر في التركيز على الاستثمار العقاري، وهو أن الولايات المتحدة حولت الكثير من جهدها الاستثماري نحو دعم شراء العقار، على حساب الاستثمار في جوانب أخرى مثل التعليم والصحة والبنية التحتية والتكنولوجيا. وكان حجم الإقراض العقاري في ذروة الفقاعة العقارية يماثل نصف إجمالي الديون الاستثمارية، وهو ما يعادل ضعف المعدل العادي.

وتحاول عدة جهات استثمارية أميركية في الوقت الحاضر إصلاح هذا الخلل بتوجيه الاستثمار نحو تصنيع المنتجات وليس إلى صكوك بيع وشراء العقارات وإعادة تدويرها.

ولكن البعض يحذر من الابتعاد كثيرا أو سريعا عن الوضع القائم حاليا بدعم أسواق العقار، لأن هذا من شأنه أن يعرض الانتعاش الهش إلى الانهيار. ويقول خبراء إن على الحكومة الأميركية أن تعمل من أجل تشجيع سوق الإسكان، والتأجير عن طريق تقديم حوافز ضريبية للمستأجرين ولشركات البناء في هذا النمط العقاري. ولكن هذا التحول لن يكون سهلا بعد عقود من إدمان الملكية العقارية بأي ثمن عبر أجيال من الأميركيين.

أحد النماذج التي توضح الوضع الحالي في أميركا، الذي لم يتعدل بعد، حالة الزوجين ريتشارد وأليس اللذين كانا يبحثان عن عقار للشراء بعد الزواج والإنجاب، وهما لا يملكان أكثر من أربعة آلاف دولار كمقدم لمثل هذا العقار، وهو مبلغ لا يصلح في أي بلد آخر لمقدم سكن العقار وليس للشراء. ولكن ريتشارد وزوجته وجدا العقار المناسب في ولاية إيداهو، وهو مسكن مستقل مكون من خمس غرف وحمامين يبلغ ثمنه 106 آلاف دولار، وتملكه مؤسسة مالية، بعد أن تم إخلاء السكان الأصليين منه لعدم قدرتهم على سداد الأقساط العقارية.

الحل جاء من خلال برنامج تقدمه ولاية إيداهو للمشترين الجدد من أجل تشجيع شراء العقارات الخالية في الولاية، والمحافظة على قيمتها من الانهيار، وتكفل هذا البرنامج بتوفير الائتمان اللازم الذي تضمنه مؤسسة «فاني ماي» من أموال دافعي الضرائب، عبر تعهد بإعادة شراء العقار في حالة تعثر ريتشارد وعائلته في الدفع، مع شرط الالتزام بالدفع لمدة ستة أشهر.

وتقول سوزان سيمبا المشرفة على هذا البرنامج إن نسبة الإفلاس فيه تبلغ نحو 7.5 في المائة، وهي نسبة أقل من النسبة التي تتحملها وكالات الضمان الفيدرالي لذوي الدخول المحدودة لتشجيعهم على ملكية العقارات، ولا تطلب منهم مقدم قروض أكثر من ثلاثة في المائة. ولكنها بالمقاييس التجارية ما زالت نسبة عالية بالمقارنة مع البنوك التجارية التي تجري بحثا عن مصادر دخل طالب القرض، وتطلب منه مقدما عقاريا لا يقل عن 10 في المائة من قيمة العقار.

ويقول مراقبون إن هذا البرنامج يماثل النظام الذي أدى إلى الأزمة المالية في المقام الأول، فالسوق الأميركية حاليا ما زالت في مرحلة هبوط، وهؤلاء الذين يدفعون نسبا بسيطة من مقدم قروضهم العقارية سوف يكتشفون بعد سنوات قصيرة أن حجم القرض على العقار أكبر من قيمة العقار نفسه، وبذلك قد يتكرر وضع ترك العقارات شاغرة للتخلص من الديون وإعادة الكرة مرة أخرى.

جذور الفقاعة العقارية الأميركية تعود إلى الكساد العظيم

* يعود حلم ملكية العقار الأميركي إلى فترة الثلاثينات من القرن الماضي، عقب الكساد العظيم الذي بدأ في عام 1929؛ فقد قال الرئيس هربرت هوفر في خطاب فوزه في عام 1929 إنه سوف يسعى نحو مجتمع مبني على أساس الملكية العقارية، وبعد ذلك بخمس سنوات صدر أول قانون أميركي لتشجيع ملكية العقار كجزء من برنامج «العهد الجديد»، الذي بدأه الرئيس روزفلت، وتولى البرنامج مهمة تسهيل القروض العقارية عن طريق مؤسسات حكومية ائتمانية مثل «فاني ماي» و«فريدي ماك» تقوم بشراء القروض العقارية من البنوك لكي تحررها من قيود الائتمان وتمنحها الفرصة لإعادة استثمار رؤوس أموالها في السوق مرة أخرى.

في البداية كانت القروض العقارية قصيرة المدى لمدة لا تزيد عن خمس سنوات، وكانت بأسعار فائدة عالية، مما جعلها تقتصر على فئات المجتمع الثرية فقط. ولكن المؤسسات الائتمانية الحكومية ابتكرت أسلوب القروض طويلة الأجل بأسعار فائدة ثابتة، مما أتاح الاستقرار للأسواق، وفتحها أمام قطاعات أوسع في المجتمع. وبعد الحرب العالمية الثانية توسعت برامج الائتمان العقاري مع انتشار السكن في الضواحي حول المدن، ومع ضمانات تقديم القروض للجنود العائدين من الحرب، وفي نهاية الستينات ارتفعت نسبة الملكية العقارية بين أفراد الشعب الأميركي إلى نحو 64 في المائة، وهي نسبة كانت غير مسبوقة.

وبدأت بوادر الفقاعة في عصر الرئيس كلينتون، الذي قدم تسهيلات إضافية للقروض العقارية بخفض المقدم المطلوب، وتخفيف شروط الإقراض. وقال كلينتون وقتها إن قصة النجاح العقاري الأميركي هي أفضل إنجازات القرن العشرين في أميركا.

وبلغت الملكية العقارية الأميركية ذروتها في عام 2006، أي قبل انفجار فقاعة «صب برايم» للقروض الرديئة، وبلغت نسبة 69 في المائة، ولكنها سرعان ما انخفضت مرة أخرى إلى معدلات سابقة للفقاعة. وهي الآن تقف عند نحو 67 في المائة، ولكنها من المتوقع أن تنخفض أكثر إلى مستويات يمكن أن تحتملها السوق، وأن تمولها بسهولة.