في 2012.. العقار الأميركي ما زال «أقرب إلى القاع منه إلى القمة» في 2012

بعد 4 سنوات من التراجع والخسائر

جانب من مدينة سان فرانسسكو
TT

الزائر لولاية كاليفورنيا هذا العام سوف يلاحظ الكثير من المتغيرات على وجه الحياة العامة، بداية من استخدام الأميركيين لسيارات أصغر حجما، ونهاية بتراجع لافتات بيع أو مصادرة العقارات من البنوك. ولكن هذا لا يعني أن سوق العقار الأميركي مقبلة على انتعاش قريب، فهو هدوء من النوع الذي يصاحب خمول الأسواق وعدم حركتها.

وما زالت أزمة العقار الأميركي مستمرة بعد أربع سنوات من التدهور والخسائر، بعد عقد أو أكثر من إرث سنوات الإقراض غير المسؤول من البنوك. ويمكن القول إن سوق العقار الأميركي بدأت في الاستقرار هذا العام، وإن كان استقرارا على القاع، مع اختلاف في الرأي بين الخبراء في أن عام 2012 قد يشهد نقطة التحول إلى استعادة النمو، أو أن النمو سوف يبدأ في العام المقبل.

السنوات الأربع الماضية كانت الأسوأ في سوق العقار الأميركي في العقد الأخير، وذلك لأسباب تمويلية بدأت مع أفول عام 2007 وافتضاح أمر التمويل بالصكوك، في ما عرف باسم فضيحة «صب برايم مورغيتش» التي تحولت إلى أكبر أزمة عقارية، ليس فقط في أميركا، بل في معظم أنحاء العالم.

وبسؤال بعض شركات بيع العقار في لوس أنجليس عما يأملونه في أسواق عام 2012 عبر أحدهم عن الوضع ببساطة في أنه يرغب في سوق هادئة ومتوازنة بغض النظر عن مستوى الأسعار. وهو يريد سوقا تتعادل فيها العوامل المؤثرة في العرض والطلب، بحيث تطرح العقارات للبيع في السوق، ويقبل المستثمرون على شرائها. وهو أمل يبدو متواضعا ولكنه يعني الكثير لشركات لم تشهد عبر أربع سنوات سوى أسواق تتراكم فيها العقارات المعروضة للبيع ولكن بلا أي مشترين في السوق، مع انهيار في الأسعار.

وتعتقد شركات أخرى أن السوق «أقرب إلى القاع منه إلى القمة»، وفق تعبيرها، بمعنى أن هوامش الهبوط لم تعد كبيرة كما كان الوضع في السابق، وقد تصل الأسعار إلى قاع السوق ثم تبدأ في الصعود مرة أخرى. ويشرح كبير الاقتصاديين في شركة «موديز»، دافيد ويسن، أن أسعار العقار الأميركي لا تتحرك في فراغ وإنما ترتبط بالكثير من العوامل الاقتصادية الأخرى. وهي ترتبط بمعدل الأجور ونسب التوظيف وأداء الاقتصاد بوجه عام، وفي هذا المجال يعتقد البعض أن المؤشرات الإيجابية، على الأقل في سوق الوظائف الأميركية، بدأت تظهر هذا العام. ولكن مؤشر «ريكس» لأسعار العقار يرجح أن تبقى الأسعار على حالها خلال عام 2012، بما يعني نسبة صفر من النمو. وإذا دخل على المعادلة عامل التضخم فهذا يعني أن القيمة الحقيقية للعقارات الأميركية سوف تستمر في اتجاهها السلبي هذا العام، وإن كان بنسب أقل.

وهناك بعض جهات البحث، مثل موقع إلكتروني اسمه «بروبرتي كرمبل»، تبدي الكثير من التشاؤم إزاء أسعار العقار الأميركي خلال عام 2012، ويقول باحث على الموقع إن السبب الوحيد الذي منع سقوط الأسواق سقوطا مريعا في العامين الأخيرين هو بقاء أسعار الفائدة على معدلاتها المتدنية تاريخيا. ويعتقد الباحث أن الاحتياطي الفيدرالي سوف يعيد النظر في أسعار الفائدة بهدف رفعها في الربع الأول من عام 2013، ولكنه لم يحاول أن يتكهن بأثر ذلك على أسعار العقار الأميركي حينذاك، نظرا لغياب الكثير من المؤشرات الأخرى مثل حالة الاقتصاد الأميركي ومستويات البطالة ومعدلات الأجور السائدة.

وهو يشير إلى أن بقاء أسعار الفائدة منخفضة إلى ذلك الحين هو لأسباب سياسية تتعلق بانتخابات الرئاسة في نهاية العام الحالي، وأيضا لمنح البنوك فرصة استعادة التوازن بعد إنقاذها من كارثة الإقراض غير المسؤول. ويستنتج الموقع أن الاستثمار الأفضل في عام 2012 ما زال هو إيداع النقد في حسابات توفير مصرفية أو الدخول في مشاريع استثمارية أخرى غير العقار.

من المتشائمين أيضا غاري شيلينغ، مؤلف كتاب اسمه «عصر التخلص من الديون»، الذي يؤكد أن هناك ما يقرب من 2.5 مليون عقار أميركي شاغر ويزيد عن الحاجة في أسواق اليوم لأسباب مالية تتعلق بالتكلفة وعدم القدرة على الشراء. وهو يقول إن السوق الأميركية لن تصل إلى مرحلة الانتعاش إلا بعد امتصاص هذه الفوائض واستعادة التوازن في السوق. وهو يعتقد أن تحقيق ذلك قد يستغرق أربع سنوات على الأقل. ويزيد من سوء الوضع أن البنوك التي تصادر العقارات تطرحها في الأسواق مرة أخرى للبيع بأي ثمن لكي تتخلص منها، وهذا بدوره يضغط على الأسعار.

وأغرب ما يقوله شيلينغ أن أسعار العقار الأميركية يجب أن تنخفض بنسبة 20% خلال العامين المقبلين من أجل الوصول إلى نقطة التوازن في السوق. ولكنه يعترف أن مثل هذا الانخفاض من شأنه أن يدفع الاقتصاد الأميركي كله إلى الكساد. وسوف يعني هذا ارتفاع نسبة المقترضين بقيمة أعلى من عقاراتهم من 22% إلى 40%. وهذا بدوره سوف يزيد من حالات الإفلاس وقد يزيد من تراكم العقارات غير المباعة في السوق. وقد تراجعت نسبة ملكية العقار الأميركي من 69% إلى 67% في العامين الأخيرين.

وينتهي شيلينغ إلى نتيجة أن الاقتصاد الأميركي قد يقبل على مرحلة كساد جديدة في عام 2012 إذا تضافرت العناصر السلبية في السوق، وبغض النظر عن السياسة التي يتبعها الاحتياطي الفيدرالي. وكان شيلينغ قد توقع بنجاح في عام 2007 الحجم الهائل لأزمة «صب برايم» في الوقت الذي كان الكثير من الاقتصاديين الآخرين يؤكد أن حجم القروض في هذا القطاع صغير ويمكن للبنوك امتصاصه بسهولة.

مؤلف آخر اسمه روبرت بروكتر، مؤلف كتاب «هزيمة الكساد»، الذي توقع بنجاح كساد عام 1987، ذكر في كتابه في وصف وضع سوق العقار الأميركي في عام 2012 أن «التطرف يجلب التطرف»، فما حدث منذ الكساد العظيم في ثلاثينات القرن الماضي هو تراكم الديون لمدة تزيد عن السبعين عاما. وأضاف أن نقطة الضعف بدأت في التخلص من معيار الذهب وإصدار النقود بناء على الديون وليس على الأصول. وتسارع هذا التيار في الثمانينات والتسعينيات. وزاد الطين بلة أن البنوك وجدت مقترضين مفلسين وأقرضتهم آلاف الدولارات من أجل شراء عقارات لم يكن باستطاعتهم تمويلها.

وهو يصف نهاية الألفية بأنها كانت فترة تمثل عشرينات القرن الماضي قبل الكساد العظيم الذي تلته عقود من عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

ولكن موقع «زيلو» العقاري يقدم صورة أكثر إيجابية وربما واقعية أكثر من التوقعات المتشائمة، حيث يقول خبراء الموقع إن السوق الأميركية سوف تصل إلى قاع هبوط الأسعار خلال عام 2012، ولكن ليس معنى هذا عودة الصعود مرة أخرى بعد بلوغ القاع، وإنما البقاء لعدة سنوات بمستويات متدنية من النمو حتى يتم استيعاب كل جوانب الأزمة سواء من فوائض العقار أو من رواسب الديون المصرفية.

ولا ينفي الموقع واقع سوق العقار الأميركي الصعب حيث يعترف بأن القروض المتعثرة بلغت نسبة قياسية قدرها 28.4%، وأن مليوني عقار دخلت مرحلة المصادرة بينما 1.5 مليون عقار أخرى تعد في خطر لتأخر أقساطها بأكثر من ثلاثة أشهر. ولم تعد مصادرة العقار تقتصر على الطبقات الفقيرة وإنما امتد إلى قطاع الإسكان المتوسط الذي تزيد فيه القروض عن ربع مليون دولار.

وتعترف البنوك التي استعادت ملكية العقارات المصادرة بأنها تحاول تعويض خسائرها في أسرع فرصة ممكنة، وهي تبيع نسبة 37% من العقارات بأسعار أقل من قيمة القروض.

ويقول تقرير من موقع «ريالتي تراك» الأميركي إن أسوأ الولايات التي تعاني من مشكلات الديون الرديئة هي أريزونا وكاليفورنيا ونيفادا وميتشيغان. ولكل منها أسبابه الخاصة، ففي ميتشيغان كان التأثير السلبي الأكبر هو من تراجع صناعة السيارات في الولاية. ويرى الزائر آثار الأزمة واضحة في عقارات مهجورة وأخرى معروضة للإيجار بأسعار زهيدة لا تتعدى 200 دولار في الشهر. ويشكو أهالي هذه الولايات من أن سقوط عقار واحد في براثن الديون والمصادرة يؤثر سلبيا على أسعار بقية العقارات القريبة منه. وينتج عن هذا التأثير حلقة مفرغة من عقارات تتراجع في قيمتها وسقوط المزيد من أصحاب هذه العقارات في فخ «القيمة السلبية»، أي الديون التي تزيد عن قيمة عقاراتهم.

وتريد الحكومة الأميركية إعادة هيكلة سوق الإقراض العقاري، ولكن خبراء السوق يحذرون من المساس بشركات تدعم سوق الإقراض العقاري التي تتوكأ على أسس هشة حاليا، فلا أحد يريد أن «يهز القارب» على حد تعبير خبير في واشنطن. ولكن ترك الوضع على ما هو عليه ليس خيارا مطلوبا أيضا، حيث يقول بارني فرانك رئيس لجنة الخدمات المالية في الكونغرس إن إصلاح القطاع المالي يبدأ من إصلاح قطاع التمويل العقاري الذي كان سبب الأزمة أصلا.

وعدم التعامل بحكمة مع الوضع الحالي من شأنه أن يؤثر على المقترضين لتمويل العقار من المواطنين الأميركيين وأيضا من المستثمرين الأجانب. وإحدى نقاط الخلاف هي مدى الضمان الحكومي الأميركي لمؤسسات الإقراض العقاري في حالة إقبال الحكومة على إعادة الهيكلة. ويعتقد الكثير من أعضاء لجنة الخدمات المالية في الكونغرس أن الحكومة لا يجب أن تضمن هذه الشركات، وأن على المستثمرين تحمل مخاطر إعادة الهيكلة على أساس أنها السبيل الوحيد للمحافظة على استمرار هذه المؤسسات في السوق.

ويتشدد الجمهوريون في لجنة الكونغرس حول هذه المسألة، ومنهم النائب سكوت غاريت الذي يقول إن دافعي الضرائب الأميركيين لا يجب عليهم دعم المستثمرين الأجانب في شركات التمويل العقاري، خصوصا أنها مؤسسات لا تحمل ضمانات حكومية صريحة. ولكن هذا التصريح، الذي من شأنه إزعاج الأجانب المستثمرين في المؤسسات المالية الأميركية المدعومة حكوميا، ليس هو الرأي السائد بين أعضاء لجنة الخدمات المالية، بل إن وزير الخزانة الأميركي تيم غيثنر أوضح أنه لا شكوك هناك حول الضمانات الممنوحة إلى المؤسسات المالية التي تعمل بدعم حكومي.

ويبلغ حجم الدعم الحكومي الأميركي لمؤسسات التمويل العقاري التي كانت قد أشرفت على الإفلاس مبلغا هائلا لا يقل عن 177 مليار دولار، وهو أكبر حجما من الدعم الذي قدمته الحكومة الأميركية لصناعة السيارات بمبلغ 117 مليار دولار.

من الصعوبات الأخرى التي قد تواجه مشتري العقار الأميركي احتمال نهاية قريبة للقروض ثابتة الفائدة التي اعتادت عليها السوق الأميركية. فعلى خلاف أسواق أخرى مثل كندا وبريطانيا وفرنسا التي تعتمد فيها القروض العقارية على أسعار فائدة متغيرة أو ثابتة لفترات بسيطة لا تتعدى عدة سنوات، فإن معظم القروض الأميركية ثابتة الفائدة لفترات تتراوح بين 15 و30 عاما. ومع نهاية الدعم الحكومي المؤسسي للسوق قد تنتهي القروض ذات الفوائد الثابتة، وبالتالي تزداد مصاعب المشتري الأميركي، خصوصا في فترات الأزمة.

وقد ينتهي أيضا تمويل الإسكان العقاري لمحدودي الدخل بعد إعادة هيكلة قطاع التمويل العقاري الأميركي، فلم يكن مطلوبا من المشتري في السابق دفع أكثر من ثلاثة في المائة من مقدم الثمن لشراء عقار، وهذا غير وارد حاليا.

وأخيرا إذا تم تخصيص شركات تمويل العقار الأميركية لكي تعمل مثل جمعيات البناء البريطانية مثلا فسوف يتعين عليها أن تعيد بناء رأسمالها، وهو تمويل غير متاح حاليا. ويتعين على شركات الإقراض العقاري الاحتفاظ بنسبة رأسمال تصل إلى 5% من قيمة القروض التي تقدمها. ويصل إجمالي القروض المقدمة فعلا من هذه الشركات حاليا إلى 5500 مليار دولار، أي أن عليها أن تحتفظ بمبلغ 250 مليار دولار كرأسمال احتياطي، وهو مبلغ غير متاح لها في الوقت الحاضر.

ولهذه الأسباب سوف تكون عملية إعادة هيكلة شركات الإقراض العقاري الأميركية عملية طويلة الأجل ومعقدة. ولم تتضمن الميزانية الأميركية الأخيرة أي تفاصيل عن توجهات الإصلاح في هذا المجال. ولكن كلما استمر قطاع العقار الأميركي في التراجع جرى تأجيل المشكلة إلى المستقبل.

ولكن على الرغم من مناخ عدم وضوح الرؤية فإن الأمر الواضح هو أن الطراز السابق لم يعد يصلح للمستقبل، وبينما يختلف الجميع على توجهات المستقبل فهم على الأقل يتفقون على أن العودة إلى ما كان عليه الوضع في الماضي عملية غير مجدية. وهذا في حد ذاته تغيير كبير.

وتمنح هذه المعلومات قدرة للمستثمر الدولي لكي يدرك أن أسواق العقار الأميركي لم تصل إلى بداية طريق الانتعاش بعد، وأن عليه الانتظار لبعض الوقت قبل أن يدخل هذه السوق، إلا إذا رأي فرصة سانحة قد لا تعوض لعقار يباع بأقل من قيمته، وهي فرص متاحة في الكثير من المواقع الأميركية، خصوصا في المدن الرئيسية.