الحديث عن عودة الانتعاش إلى سوق الإسكان البريطانية سابق لأوانه

خبراء عقار في لندن: سوق العقار لم تخرج من أزمتها بعد

العقار البريطاني لم يخرج من كبوته بعد
TT

ظهرت في الأسابيع الأخيرة بعض المؤشرات الإيجابية في أسواق العقار البريطانية، مثل ارتفاع في المؤشر العام لأسعار العقار وزيادة في نشاط الاقتراض العقاري. وجاءت هذه المؤشرات ضمن علامات مشجعة عن استئناف النشاط والنمو في الاقتصاد البريطاني. وبعد أكثر من عام من الخمول والركود في أسواق العقار وفي الاقتصاد، تبدو هذه المؤشرات مغرية للاعتقاد بأن عودة الانتعاش لقطاع العقار البريطاني باتت وشيكة.

ولكن بعض الاقتصاديين العقاريين في أقسام الأبحاث ضمن شركات العقار الكبرى مثل «نايت فرانك» وشركات الأبحاث الاقتصادية مثل «كابيتال ايكونوميكس» يؤكدون أن هذه المؤشرات وقتية، وأن سوق العقار لم تخرج من أزمتها بعد، وأن المزيد من التراجع مرجح لهذا العام أيضا.

وكانت المؤشرات الصناعية البريطانية ومبيعات القطاع الاستهلاكي قد أظهرت نتائج إيجابية مع بداية هذا العام، كما تراجعت معدلات التضخم، مما خفض من ضغوط الأسعار على الميزانيات الخاصة. وأظهر مؤشر جمعية البناء «نيشن وايد» ارتفاعا طفيفا في أسعار العقار خلال شهر يناير (كانون الثاني) الماضي بنسبة 0.6 في المائة، بينما أظهر مؤشر التسجيل العقاري للأراضي ارتفاعا في القيمة منذ بداية العام بنسبة 1.1 في المائة. كما أظهرت إحصاءات بنك إنجلترا أن معدل اعتماد الإقراض العقاري وافق على 58 ألف قرض، وهو أعلى معدل منذ نهاية عام 2009.

ولدى جمع هذه المؤشرات معا تبدو الصورة إيجابية، ولكن الواقع يؤكد أن أسعار العقار ما زالت في اتجاه سلبي، حتى ولو كان ظاهر السوق يشير إلى أن الأسعار راكدة. ويقول ايدي ستانفيلد من شركة «كابيتال ايكونوميكس» إن هذه المؤشرات يجب أن يتم التعامل معها بحذر شديد، لأنه على الرغم من وجود تحسن ظاهري في أسعار العقار، فإن الأرقام العامة تخفي تفاصيل المتغيرات الإقليمية في الأسواق. وعلى الصعيد الإقليمي تخفي الأرقام سلبيات الأسواق وتراجع الطلب. فالشمال البريطاني ما زال في مرحلة كساد وتراجع، بينما ما زالت أسعار لندن تتصاعد.

علاوة على ذلك، فإن العدد الكبير لاعتمادات قروض العقار خلال شهر يناير الماضي يعد تراجعا بالمقاييس التاريخية لهذا الشهر. بل إن هذا المعدل ما زال أقل من أسوأ شهور أزمة العقار السابقة في عقد التسعينات، وهي فترة كانت أسعار الفائدة خلالها أعلى بكثير مما هي عليه الآن. ويضيف ستانفيلد أن حجم الصفقات القليل لا يعبر بأي حال عن وضع السوق ولا عن حجم العرض والطلب فيها فهو بمثابة عينة عشوائية.

ومن المفارقات الواضحة في السوق اختلاف الظروف وفقا للمناطق، فعبر 15 عاما ظلت العاصمة لندن ومنطقة الجنوب الشرقي تخالف التيار المتراجع سواء كان بتماسك الأسعار أو حتى بارتفاعها في بعض المناطق الساخنة في لندن. ولكن الأسعار تتراجع في مناطق أخرى، خصوصا في الشمال الإنجليزي وفي ويلز، حتى في فترات الانتعاش القصيرة التي ترتفع فيها الأسعار مؤقتا ثم لا تلبث أن تتراجع.

ويتفق ريتشارد دونيل مدير الأبحاث في شركة «هوم تراك» العقارية على ضرورة الحذر في الاعتماد على المؤشرات السائدة في السوق حاليا، وقال إن من الخطر قراءة أكثر مما ينبغي في المؤشرات الجديدة. وهو يركز على ضعف حجم الصفقات كعامل رئيسي في خمول الأسواق، ويشير إلى معلومات من مصلحة الضرائب حول عدد عمليات شراء العقارات سواء كانت نقدا أو بقروض عقارية. وتشير أرقام مصلحة الضرائب إلى إجراء 68 ألف عملية شراء عقاري خلال شهر يناير الماضي، وهو أقل معدل عن أي شهر سابق خلال عام 2011. وكان معدل صفقات العقار في العام الماضي نحو 80 ألف صفقة شهريا، كما كان معدل الصفقات في بداية عام 2007 نحو 115 ألف صفقة شهريا.

وأحد العوامل المؤثرة وراء الارتفاع الطفيف النسبي الذي شهده شهر يناير الماضي هو انتهاء مهلة الإعفاء على ضرائب التمغة على الصفقات العقارية التي تقل قيمتها عن 200 ألف إسترليني للمشترين الجدد، وانتهت هذه المهلة (اليوم) 24 مارس (آذار) 2012. وكانت مهلة مماثلة في عام 2009 قد أفرزت ارتفاعا مؤقتا في صفقات الشراء، سرعان ما عاد السوق بعدها إلى طبيعته.

ومع كل الإثارة الإعلامية عن قرب وصول الانتعاش العقاري، ما زال متوسط سعر العقار البريطاني مجمدا عند حد 162 ألف إسترليني مقارنة بمتوسط سعر بلغ 186 ألف إسترليني في عام 2007. ويمكن التعرف أكثر على وضع سوق العقار البريطانية بالمقارنة مع سوق الأسهم وما يحدث فيها أثناء الأزمات.

عند النظر لأسعار الأسهم يُعرض سعران؛ أحدهما للعرض والآخر للطلب، وتعقد الصفقات بسعر متوسط ما بين الاثنين وفقا لحالة السوق. وفي وقت الأزمات تتسع الفجوة بين السعرين للتعبير عن حالة عدم الاستقرار وعدم وضوح الرؤية لتحديد القيمة. وفي سوق العقار هناك أيضا مساحة متسعة ما بين عروض البيع من مالكي العقار وعروض الشراء من المستثمرين. وترصد شركة «هوم تراك» هذا المؤشر الذي تطلق عليه اسم «Spread» بين سعري العرض والطلب. وتعقد الصفقات حاليا، وفقا لهذا المؤشر بأسعار لا تزيد على نسبة 94 في المائة عن الثمن المطلوب في العقارات، مما يعني وجود فجوة نسبتها 6 في المائة في الأسواق الحالية. وهو معدل متوسط بين نسبتي 88 في المائة من الأسعار أثناء أحلك فترات الكساد العقاري، و98 في المائة في عام 2002 عندما كانت الأسعار ترتفع بسرعة.

وعلى الرغم من أن موقع «رايت موف» يشير إلى أن الفترة التي يستغرقها بيع عقار بريطاني في الوقت الحاضر تبدو قياسية وتتخطى المائة يوم، فإن الواقع يبدو أكثر تعقيدا ويعتمد على السعر والموقع والمنطقة وتمتد فترة الانتظار أحيانا إلى أكثر من 15 شهرا، وتعتمد على خفض كبير للثمن. ولا يستطيع أي طرف في السوق تغيير المعادلة الفاعلة في الوقت الحاضر بشقيها السلبيين، وهما الأزمة الاقتصادية العالمية وندرة الأموال المتاحة للإقراض العقاري.

وتقول شركة «رايت موف» إن العقارات المعروضة للبيع في بريطانيا حاليا تبقى معروضة في الأسواق لفترة تصل إلى 105 أيام بحد أدنى ارتفاعا من 80 يوما قبل أن يتم البيع.

ومن المتوقع أن تتراجع المؤشرات مرة أخرى مع عودة ضريبة التمغة ورفعها من أربعة إلى خمسة في المائة على العقارات التي يزيد ثمنها على مليون جنيه إسترليني. وعملت بعض شركات القانون والعقار على مدار الساعة في الأسابيع الماضية لكي تنهي صفقات هذا القطاع قبل الموعد المحدد حتى لا يضطر المشتري إلى دفع آلاف الجنيهات لمصلحة الضرائب.

وسوف يقع العبء الأكبر لهذه الضرائب الجديدة على صفقات العقار في لندن ومنطقة الجنوب الشرقي التي تستأثر بنسبة 82 في المائة من جملة صفقات العقار التي تزيد في قيمتها على مليون إسترليني، وفقا لتقرير موقع العقار «زوبلا».

وتضع هذه الضرائب الكثير من الأعباء على البائعين والمشترين الذين يقعون ضمن سلسلة بيع وشراء حتى لو كانت الضريبة تؤثر على حلقة واحدة من السلسلة. وبلغ الأمر أن بعض المشترين يسمحون للبائعين بالبقاء في العقارات بعد بيعها لعدة أسابيع، حتى تتم الصفقات قبل انتهاء المهلة القانونية مع نهاية العام المالي الحالي. وتتضمن الصفقات تعاقدات للسماح للبائع بالبقاء ولكن من دون منحه حقوق المستأجر. وفي بعض الحالات يوافق المشترون على تأجير العقار للمالك القديم لفترات تمتد إلى أربعة أشهر حتى يجد البائع العقار المناسب للانتقال إليه.

ونتج عن هذا الوضع صفقات وضع فيها المشترون شرطا هو استكمال الإجراءات قبل يوم 24 مارس (آذار) وإلا يتم خصم التكلفة الإضافية من الثمن. ويخشى خبراء العقار أن تؤدي الضريبة إلى توقف الصفقات مرحليا في هذا القطاع في الشهور المقبلة، أو تؤدي إلى خفض الأسعار في القطاع إلى ما دون المليون إسترليني من أجل إتمام الصفقات بضريبة أقل.

وتقول إحصاءات السوق إن معدل أسعار العقار السكني تراجعت في العام الأخير بنسبة 2.8 في المائة وفقا لمؤشر بنك هاليفاكس، وهو أكبر تراجع منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2009. وقال كبير الاقتصاديين في البنك، مارتن إيليس، إن التوجه العام يشير إلى تراجع بنسبة مماثلة هذا العام أيضا. وهو يعزو السبب في ذلك إلى غموض الوضع الاقتصادي وعدم وجود دلائل على انتعاش اقتصادي بعد.

وأشار الاقتصادي هاورد ارشر إلى أن مؤسسات مالية أخرى، ومنها مؤسسة «غلوبال انسايت» التي يعمل بها، تعتقد أن نسبة التراجع كانت أكبر من ذلك وتصل إلى 3.4 في المائة. ولكنه أضاف أن التركيز يجب أن لا يكون على النسب المجردة وإنما على التوجه العام للأسواق، وهي مؤشرات تؤكد في الوقت الحاضر أن سوق العقار البريطاني في اتجاه تراجعي، أو مجمدة في أفضل الأحوال. وهو يعتقد أن الأسعار سوف تنخفض بنسبة خمسة في المائة هذا العام وبمثلها خلال العام التالي.

وتضيف أبحاث جمعية العقار البريطانية «نيشن وايد» أن أحد أسباب تجمد السوق هو اختفاء المشترين الجدد لأسباب كثيرة. وقال كبير الاقتصاديين في الجمعية روبرت غاردنر إن هذا الوضع لن يتحسن إلا بعد عودة الثقة إلى سوق التشغيل وتراجع معدلات البطالة. ويتأثر صغار السن الذين يمثلون الشريحة الأكبر بين المشترين الجدد بوضع سوق العمل، وهم الآن يعانون من أكبر نسب بطالة منذ 20 عاما خصوصا بين الخريجين.

ويعاني المشترون الجدد أيضا من صعوبات التمويل حيث يحتاج المشتري إلى مقدم يتراوح بين 10 و20 في المائة من قيمة العقار، وهو ما يماثل ادخارا نسبته 15 في المائة لمدة ثماني سنوات لشراء عقار ثمنه متوسط، أي في حدود 162 ألف إسترليني (250 ألف دولار). وهناك بنوك قليلة في بريطانيا، من بينها «نورثرن روك» المؤمم حاليا، تعرض قروضا عقارية بنسبة 90 في المائة من أجل جذب المشترين الجدد. ومع ذلك يعتقد غاردنر أن أكبر رادع أمام المشترين الجدد هو أسعار العقار الباهظة التي تفوق قدرتهم على السداد. وتمثل هذه الأسعار في الوقت الراهن خمسة أضعاف الدخل السنوي، أي أكبر من النسبة التاريخية المقبولة وهي أربعة أضعاف الدخل السنوي.

* حلول وسط

* من بين الحلول الوسط للتعامل مع مشكلة صعوبة بيع العقارات بسبب الأزمة الائتمانية هو التحول إلى التأجير. وهناك أعداد متزايدة من البريطانيين الذين يتحولون إلى تأجير عقاراتهم كبديل للبيع الرخيص. ويطلق الإعلام على أصحاب هذه العقارات لقب «المستثمرين بالصدفة» لأنهم غير فئة المستثمرين الذين ظهروا قبل عقد من الزمان لشراء العقارات بغرض تأجيرها وتحقيق الأرباح.

وتقول شركة «بلاتفورم» التي تعمل كجمعية تعاونية لتأجير العقار، إن 20 في المائة من الطلبات التي تصلها لتأجير عقارات هي من مالكيها الذين لا يستطيعون بيعها ويضطرون لتأجيرها من أجل الانتقال إلى مناطق أخرى سعيا وراء الوظائف أو لأنهم يريدون عقارا أكبر حجما. وتتخصص شركة «بلاتفورم» في مد القروض العقارية لهؤلاء بضمان عقاراتهم المؤجرة من أجل شراء عقارات جديدة مناسبة لهم. وهي تعمل برأسمال حجمه 600 مليون إسترليني هذا العام. وتقول جمعية لأصحاب العقارات إن التيار ما زال متصاعدا لأن نصف الأعضاء الجدد فيها في العام الماضي كانوا من أصحاب العقارات الذين دخلوا مجال التأجير بالصدفة. ويتوجه هؤلاء إلى التأجير لتغطية أقساط القروض العقارية، في انتظار تحسن الأسعار في السوق قبل البيع.

وتقول مؤسسة «ارلا» لوكلاء تأجير العقار إن معدلات الإيجار ما زالت تسير إلى ارتفاع. وتصل معدلات الإيجار إلى نحو خمسة في المائة في المتوسط في الوقت الحاضر، بالعلاقة مع أسعار العقار. ويمثل نشاط الإقراض المتوجه إلى تأجير العقارات نحو 10 في المائة من إجمالي الإقراض في بريطانيا، مقارنة بنسبة 7.5 في المائة عام 2010. ويصل حجم هذا القطاع في بريطانيا حاليا إلى 14.1 مليار إسترليني.