حي «أكدال» في الرباط تحول إلى غابة إسمنت.. وأسعار بعض شققه وصلت إلى مليون دولار

«مظاهر اجتماعية» جذبت إليه مستثمرين أجانب من العراق وإسبانيا وفرنسا

ساحة من الساحات القليلة التي بقيت في حي «أكدال» (تصوير: منير أمحميدات)
TT

عرفت أسعار العقارات في حي «أكدال» في وسط العاصمة المغربية، ارتفاعا استثنائيا في الآونة الأخيرة، ولأول مرة في المغرب، وفي ظاهرة غير مسبوقة، ترتبط أسعار العقارات بجوانب اجتماعية وبحركة سياحية، حيث أصبح هذا الحي الذي يعد حي الطبقة الوسطى في الرباط لا يكاد ينام، بعد أن انتشرت فيه مطاعم ومقاه تبقى حتى الفجر، مما جلب إليه مستثمرين في مجال العقار من خارج المغرب، خاصة من والعراق وإسبانيا وفرنسا. وبات الحي يعرف حركة عمرانية نشطة تتمثل في تحويل الفيلات القديمة إلى عمارات سكنية مكونة من أربعة طوابق، بحيث لم تعد هناك قطعة أرض واحدة خلاء في الحي، وتحول «أكدال» إلى «غابة إسمنت» في قلب الرباط.

وفي هذا الصدد يقول عزيز هلاكي الذي يعمل في مجال العقار «وصلت أسعار العقار في (أكدال) إلى مستويات قياسية، إذ إن العمارات الجديدة تبدأ بعرض شققها بأسعار معقولة نسبيا، لكن كلما تم بيع شقة يرفع صاحب العمارة سعر ما تبقى من شقق، وهو يجد أن الطلب يبرر ذلك». ويرى هلاكي أن الأمر «وصل الآن إلى مستويات خيالية».

خلال السبعينات كان حي «أكدال» في الرباط الحي المفضل للشرائح المقتدرة وكبار موظفي الإدارات الحكومية، وكان منطقة سكنية لا توجد بها إدارات أو شركات، كما كانت توجد بها حدائق ومساحات خضراء كبيرة شاسعة. حيث كان يمنع تشييد العمارات وبنايات بطوابق في هذا الحي. لكن مع مطلع الثمانينات انقلبت أوضاع الحي حين تقرر السماح ببناء عمارات وبنايات تتكون من أربعة طوابق، وأقبل المقاولون والمنعشون العقاريون على «أكدال» وراحت أسعار الأراضي تعرف تصاعدا مستمرا، حتى أضحى الحي من أغلى أحياء العاصمة المغربية، ثم جلبت إليه المطاعم والمقاهي الراقية زبائن جددا، وأجانب، مما أدى إلى أن تقفز أسعار الشقق إلى أزيد من ثمانية ملايين درهم، أي في حدود مليون دولار، وهو رقم خرافي لشقة في بلد كالمغرب.

حاليا لم يعد «أكدال» قبلة زبائن جدد من داخل وخارج المغرب لعماراته فقط، بل كذلك قبلة لشركات مغربية وأجنبية، في حين انتقلت إليه بعض الوزارات، وكذلك مؤسسات جامعية وعدد لا يحصى من مكاتب وعيادات الأطباء والمهندسين والمحامين وخبراء المحاسبة والوكلاء التجاريين، وأدى انتقال بعض الإدارات الحكومية إلى «أكدال» إلى أن يفضل كبار الموظفين السكن في الحي لقربه من مكان العمل. كما أصبح الحي المشهور بمحلاته التجارية التي تبيع ماركات العالمية من الملابس والعطور.

وبسبب وجود عدد كبير من المؤسسات الجامعية والإدارات والشركات الصغيرة في «أكدال» كان الإقبال في البداية على الشقق الصغيرة بغرض الإيجار، لكن بعد ارتفاع الأسعار في الحي والتغيرات العمرانية التي حدثت فيه تحول البناء من الشقق صغيرة إلى الشقق الكبيرة، إلى حد أن هناك شققا هي عبارة عن طابق كامل، بسبب إقبال مستثمرين أجانب، خاصة العراقيين والإسبانيين، الذين أعجبهم نمط الحياة الاجتماعية في هذا الحي، خاصة أن المطاعم والمقاهي التي تعمل حتى الفجر وهي ذات طابع سياحي، إضافة إلى الأمن ونظافة الحي مقارنة مع الأحياء الأخرى في العاصمة المغربية.

وبسبب رواج المطاعم والمقاهي عرف الحي ظواهر جديدة، على سبيل المثال أصبح معظم سكانه يتفرجون جماعة على مباريات كرة القدم في المقاهي، خاصة مباريات الفرق الإسبانية، إلى حد أن المقاهي تفيض بزبائنه خلال المباريات المهمة، ولا يمكن لمن تأخر أن يجد مكانا شاغرا، رغم كثرة المقاهي الموجودة بالحي، والتي توجد في الشوارع الرئيسية، منها على سبيل المثال «شارع فال ولد عمير» الذي يتميز ببناياته الجميلة وأزقته النظيفة، ويتسم بالهدوء والأمن، وبفضل الازدهار الكبير الذي عرفه هذا الشارع، عرفت الشوارع الأخرى المتفرعة عنه مثل شوارع «فرنسا» و«الأبطال» و«الأطلس» إقبالا كبيرا على شراء الشقق، وهو ما أدى إلى ارتفاع مطرد في الأسعار.

كما أن دخول خدمات «الترام» الذي يمر من شارع فرنسا، في وسط «أكدال» أدى إلى زيادة الرواج التجاري، بل أصبح الحي نقطة جذب لأحياء أخرى بما في ذلك أحياء مدينة سلا المجاورة للرباط، حيث يفضل كثيرون من سلا، وهي مدينة ميتة تجاريا، البقاء في «أكدال» حتى منتصف الليل أحيانا، ثم استعمال «الترام» في العودة إلى منازلهم. كل هذه العوامل انعكست على ارتفاع ثمن العقار في «أكدال»، بحيث يتراوح سعر الشقة حاليا ما بين مليون درهم (ما يعادل 120 ألف دولار) إلى 8 ملايين درهم (ما يعادل مليون دولار تقريبا). ولم تعد هناك مساحات فارغة لتشييد المزيد من العمارات التي اكتظت بها الشوارع، ولم يتبق سوى بعض الفيلات التي تكون في الغالب في ملكية ورثة أو عليها نزاعات، أو في حالات قليلة جدا يريد سكانها وهم في الغالب من المتقاعدين البقاء فيها ما تبقى لهم من العمر.

ولم تعد هناك حاليا شقق صغيرة في «أكدال» في متناول صغار الموظفين أو للسكن الجماعي للطلاب، ذلك أن ارتفاع الإيجارات التي تبدأ من ثلاثة ألف درهم شهريا (360 دولارا) وهي عبارة عن شقة من غرفة واحدة ومطبخ وحمام صغير (مساحتها في حدود أربعين مترا مربعا) أدى إلى نزوح معظم الطلاب إلى مدينة سلا.

وعلى الرغم من ارتفاع أسعار هذا النوع من الشقق الصغيرة، فإنه لم يعد متوفرا كما يقول عاملون في مكاتب المعاملات العقارية، وإذا عرضت شقة من هذا النوع خلال الفترة، خاصة مع قرب قدوم فصل الصيف، فإن أقل سعر يبدأ من أربعة آلاف درهم شهريا (470 دولارا).

ومما ساعد على «هجرة» صغار الموظفين والطلاب إلى سلا، بسبب ارتفاع أسعار بيع وإيجار العقارات في «أكدال»، توفر خدمات الترام الذي أصبح سعر تذكرته في متناول جميع الشرائح وهي ستة دراهم (أزيد قليلا من نصف دولار).

وتوجد في عمارات «أكدال» أنواع مختلفة من الشقق، منها شقق صغيرة جدا (كارسونير) وهي عبارة غرفة وصالة صغيرة وحمام ومطبخ، ويتراوح إيجارها ما بين 3500 درهم شهريا (ما يعادل 420 دولارا) إلى 5000 درهم (ما يعادل 600 دولار)، وذلك حسب الموقع الذي توجد به الشقة. ويوجد نوع ثان هي الشقق الأصغر يطلق عليها المغاربة اسم «استوديو» وهي تتكون من غرفة واحدة متوسطة يوجد بها حمام ومطبخ صغير وإيجارها كان في حدود 2500 درهم (ما يعادل 300 دولار)، لكن هذا النوع من الشقق الآن لم يعد متوفرا قط. أما معظم الشقق الموجودة في «أكدال» التي تعرف إقبالا هي الشقق المكونة من ثلاث غرف كبيرة فيها غرفتان للنوم وصالون وحمامان ومطبخ، وتستأجر ما بين 5000 درهم شهريا (ما يعادل 600 دولار) إلى 7000 درهم شهريا (ما يعادل 830 دولارا).

وهناك كذلك الشقق الفاخرة والأغلى ثمنا، وهي توجد في الجزء الجنوبي من الحي ويعرف باسم «أكدال العالي»، وهي التي أصبحت توجد كثيرا في البنايات الجديدة، وهي الشقق المكونة من طابقين متصلين بحيث توجد بها خمس غرف، في الأعلى ثلاث غرف للنوم وحمامان، وهناك سلم مع الجزء التحتي، وهو عبارة عن صالونين وغرفة للجلوس ومطبخ، وهذه الشقق هي الأغلى سعرا وتقبل عليها أكثر الشرائح ذات الدخل المرتفع بحيث يصل إيجارها ما بين 10 آلاف درهم (ما يعادل 1180 دولارا) إلى 15 ألف درهم شهريا (ما يعادل 1770 دولارا).

أما من يريد الشراء في «أكدال»، فيقول هلاكي، إن «الشقق في الحي تباع بالمتر المربع ابتداء من 15 ألف درهم للمتر مربع (ما يعادل 1770 دولارا) فما فوق، ويمكن أن يصل المتر المربع 30 ألف درهم (ما يعادل 3530 دولارا)، وذلك حسب الموقع ونوع الشقة والمواد التي استعملت في البناء». ويرى هلاكي، أن حي «أكدال» من الأحياء التي أصبح يفضلها الأجانب كثيرا بما في ذلك الدبلوماسيون، وأغلب الشقق الموجودة في «أكدال» هي في ملكية أصحابها يعرضونها للإيجار عن طريق سماسرة باستثناء بعض البنايات الجديدة وهي قليلة جدا وشققها معروضة للبيع.

وحول سبب تفاوت أسعار بيع الشقق في الحي، والتي تبدأ منخفضة ثم ترتفع مع مرور الوقت، أوضح هلاكي، أن ارتفاع أسعار الأرض في «أكدال» سببه ندرتها والإقبال الكبير عليها. وأوضح «عند تحديد الأسعار التي ستعرض بها الشقق للبيع فإن المقاول العقاري غالبا ما يستبق ارتفاع أسعار الأراضي، لذلك فإن تكلفة الأرض ضمن سعر الشقة لا يمثل الثمن الحقيقي الذي تم به شراء الأرض، حيث أقيم المشروع العقاري، لكن الثمن هو الذي سيتم به تجديد الرصيد العقاري للشركة المنتجة، وهذا ما يفسر العلاقة الطردية بين أسعار الشقق وأسعار الأرض، إذ إن ارتفاع سعر الأرض، بالإضافة إلى الارتفاع الكبير الذي عرفته أسعار مواد البناء والعمالة المتخصصة، كل ذلك ينعكس على أسعار الشقق». وأشار هلاكي إلى أن الفترة التي يكون فيها الإقبال كبيرا على استئجار الشقق هي فترة الصيف، خاصة خلال يوليو (تموز) من كل سنة، حيث يزور الأجانب المغرب ويفضلون الاستقرار بالرباط وبالأخص في «أكدال» نظرا لوجوده وسط العاصمة.

ويعتمد بناء العمارات في «أكدال» على شكل موحد تقريبا، بحيث تجد في مدخل العمارة بابا مغلقا لا يفتح إلا عن طريق مفتاح خارجي أو عن طريق الحارس الذي عادة ما يقيم في مدخل العمارة، كما توجد في المدخل صناديق بريدية في جميع العمارات، لذلك لا يشكو سكان «أكدال» من ضياع البريد، كما يوجد بجانب الباب مصعد وسلالم وبيت لحارس العمارة.

وكانت إحصائيات قد صدرت عن «بنك المغرب»، (البنك المركزي) أفادت بأن أسعار العقار ارتفعت في جميع المدن، باستثناء مدينة طنجة التي سجلت انخفاضا بنسبة 1 في المائة، في حين ارتفعت بنسبة تزيد قليلا على واحد في المائة، وأشارت الإحصائيات إلى أن العام الحالي عرف نموا بنسبة خمسة في المائة في سوق العقار المغربية، وذلك بفضل مساهمة مختلف أنواع عقار السكن في ذلك، ويعزو هذا النمو مؤشر أصول الأسعار العقارية إلى ارتفاع أسعار عقارات السكن بنسبة 3.4 في المائة، بدلا من 3.1 التي سجلت عام 2010، وتراجع بنسبة 2.2 في المائة خلال عام 2009. واعتبر المؤشر الصادر عن بنك المغرب والوكالة الوطنية للمحافظة العقارية (مؤسسة حكومية)، أن أسعار العقار ارتفعت في مختلف الأنواع، حيث ارتفعت أسعار الشقق بنسبة 4.3 في المائة، والمنازل بنحو 1.5 في المائة وعرفت الفيلات أقوى نسبة ارتفاع وصلت إلى 6.6 في المائة.

وأدى الإقبال الكبير على العقارات من طرف الأجانب، خاصة الأوروبيين، إلى تأثير مباشر على سوق العقارات، خاصة في المدن التقليدية مثل مراكش والصويرة وفاس وورزازات، لكن الشركات العقارية الدولية كانت حاضرة كذلك في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط، وقد شجعت عدة عوامل على إقبال الأجانب على العقار في المغرب منها القرب الجغرافي من أوروبا واعتدال المناخ والمزايا القانونية في مجال الضريبة وحرية انتقال الأموال والأرباح الناتجة عن هذا الاستثمار. ولا يخفي المستثمرون الأوروبيون، خاصة الإسبان اهتمامهم بما توفره السوق المغربية في ميدان العقار من إمكانات. وهو ما يفسر وجود عدة شركات إسبانية وفرنسية صغيرة تعمل في مجال العقار حاليا في حي «أكدال».