عقارات مصراتة الليبية خرجت من جحيم الحرب إلى نار غلاء الأسعار

الطلب عليها أكثر من العرض بحثا عن مسكن بديل

آثار الحرب تبدو على جانب من العقارات في شارع طرابلس الرئيسي بمصراتة («الشرق الأوسط»)
TT

لا يوجد في مدينة مصراتة مبانٍ متعددة الطوابق إلا في ما ندر، وهذا ليس السبب الوحيد وراء ارتفاع أسعار العقارات في هذه المدينة التي تعد ثالثة كبرى مدن ليبيا، سواء قبل ثورة 17 فبراير التي أسقطت حكم العقيد الراحل معمر القذافي، أواخر العام الماضي، أو بعدها، حيث تجاهد البلاد حاليا من أجل إعادة إعمار ما خربته الحرب الداخلية طيلة ثمانية أشهر. لكن المهندس خالد أبو شيبة، وهو مسؤول في إحدى شركات مصراتة المتخصصة في صناعة الهياكل المعدنية والمباني الجاهزة، قال إن الكثير من العوامل الأخرى تلعب دورا في ارتفاع أسعار المباني والأراضي في مصراتة، من بينها تهدم أعداد كبيرة من العقارات والبيوت خلال الحرب. وتقول تقديرات غير رسمية إن نحو ثمانين في المائة من عقارات مصراتة تضررت خلال الحرب سواء بشكل كلي أو جزئي. واستمر القتال في المدينة، من فبراير (شباط) حتى مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين أول)، الماضي، بضراوة وعنف تخللهما قصف طيران حلف الناتو وصواريخ النظام السابق ومدفعيته.

وتابع أبو شيبة أن من بين أسباب ارتفاع أسعار العقارات أيضا أشياء أخرى.. «ربما لأن المباني تهدمت ولأن الوضع الاقتصادي ما زال جامدا حتى الآن.. لا توجد سيولة ولا يوجد بديل لتخفيض الأسعار، لأن الطلب على العقارات في مصراتة يتميز بأنه أكثر من العرض».

وتقع مصراتة على مساحة واسعة من الأرض التي تتخللها الشوارع الطولية والعرضية إلى جانب ثلاثة طرق دائرية تربط الأطراف بقلب المدينة في دوائر حلزونية. وتنتشر المباني ذات الطابق الواحد والطابقين، وحتى ثلاثة طوابق على هذه المساحة الكبيرة، والسبب في الحرص على عدم زيادة ارتفاع الطابق وقوع مصراتة في نطاق منطقة زلازل، كما يقول المسؤولون المحليون.

وتشرف مصراتة على البحر الأبيض المتوسط، شرق العاصمة طرابلس بنحو 208 كيلومترات شرقا، عند الحافة الغربية لخليج السدرة، ويبلغ عدد سكان المدينة وحدها أقل قليلا من نصف مليون نسمة. ويترقب المستثمرون العقاريون فتح الباب لتملك الأراضي على البحر لفتح مشروعات سياحية كبرى، وعدم الاكتفاء بالعمل بالنظام القديم الذي يحرم أصحاب المشروعات من تملك الأراضي الواقعة شمال الطريق الساحلي للمدينة.

وللمدينة شواطئ بديعة لم تستغل بالشكل الذي يحقق دخلا إضافيا للدخل العقاري الذي يحققه بالفعل ملاك الأراضي والعقارات القابلة للبيع أو التأجير. وتتراوح أسعار المتر المربع من الأراضي القريبة من الطرق الدائرية بين 300 دينار إلى 500 دينار ليبي (الدينار يساوي 90 سنتا أميركيا تقريبا). وعرض مالك أرض تبلغ مساحتها 630 مترا مربعا على الطريق الدائري قرب منطقة التومي وكوبري قزير، بسعر 400 دينار للمتر.

وتركت عدة مئات من العائلات بيوتها التي تضررت بشدة من الحرب في الشارع الرئيسي في مصراتة، وهو شارع طرابلس الثري والحيوي، وتعيش في الوقت الحالي في بيوت مستأجرة أو لدى ذويهم في مصراتة أو خارجها. وهذا تسبب في رفع أسعار إيجار البيوت وزيادة أسعار التملك أيضا، بسبب صعوبة ترميم البيوت التي تضررت بشدة وتحتاج إلى مبالغ باهظة من أجل إعادة بنائها، وبالتالي تسعى عائلات كثيرة لشراء بيوت جاهزة إلى حين إيجاد الوقت والتمويل الكافي لهدم العقارات التي لم تعد تصلح للسكن، وإعادة بنائها مرة أخرى. وفي الوقت الحالي يبلغ سعر منزل صغير مكون من طابق واحد على مساحة 350 مترا مربعا في الضاحية الغربية من مصراتة نحو ربع مليون دينار ليبي. والمنزل مبني على مساحة 145 مترا مربعا وحوله حديقة مزروعة بالأشجار، وغرفة ضيفة ملحقة بالمبنى على مساحة 45 مترا. ويجد قطاع من أهل مصراتة من ملاك العقارات الكبيرة التي لم تتضرر من الحرب فرصا مربحة، لكن على مستوى محدود، من خلال تأجير عقاراتهم، بألوف الدنانير شهريا، لشركات دولية تسعى لوضع أقدامها في ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، خصوصا مع الركود الاقتصادي الذي أفقد الكثير من العائلات أعمالها الاقتصادية.

ويقول المراقبون إن بطء عجلة الاقتصاد في مصراتة من الأسباب المهمة الأخرى وراء ارتفاع أسعار العقارات، بالنسبة للسكان المحليين على الأقل.. واضطر رجل متقاعد، يدعى حسونة، قرب شارع بنغازي بمصراتة، إلى تأجير منزله وهو من طابق واحد وتبلغ مساحته ثلاثمائة متر مربع، لشركة نفط تستخدمه سكنا لموظفيها الإداريين، بثلاثة آلاف دينار شهريا. ويقول حسونة الذي انتقل مع زوجته للسكن في شقة مساحتها سبعون مترا، جنوب المدينة، إن هذا استثمار جيد في وقت عصيب لا يكاد يحصل فيه على راتب التقاعد البالغ نحو سبعمائة دينار إلا كل ثلاثة أو أربعة أشهر، بسبب عدم الاستقرار في البلاد.

وكثيرا ما تجد في الصحف المحلية ومواقع الإنترنت في مصراتة إعلانات عمن يبحثون عن مسكن للإيجار المؤقت بالنسبة لمن تضررت بيوتهم، أو التملك بالنسبة للعائدين إلى المدينة بعائلاتهم بعد عقود عاشوها في الخارج هربا من النظام السابق القمعي. ويقول مسؤول محلي إن الكثير من أبناء مصراتة الذين كانوا يعيشون في أوروبا وأميركا وكندا وغيرها «يعودون، ولديهم استعداد لشراء أراض في أماكن مميزة لبناء بيوت، أو شراء بيوت جاهزة، للاستقرار فيها بشكل نهائي في وطنهم الأم.. هذا أيضا يجعل مجاراتهم أمرا صعبا بالنسبة لمن يعتمدون على رواتبهم أو أعمالهم الصغيرة في الداخل.. بشكل عام، الاستثمار في العقارات أصبح من الاستثمارات عالية الكلفة».

ووضع أحدهم إعلانا في صحيفة محلية: «أنا أبحث عن منزل إيجار مؤقت لا يزيد على 700 دينار في الشهر، لمدة خمسة أشهر، إلى أن أتمكن من إنهاء تشطيبات منزلي». ويقول إعلان آخر: «راجع إلى تراب وطني في مصراتة الغالية وأريد شراء فيلا تتسع لعائلة كبيرة وتكون مزودة بحديقة وقرب الطريق الدائرة الأول أو الثاني أو الثالث. الحديث في السعر بعد المعاينة». وتوجد أيضا عروض لتأجير مبانٍ واسعة في قلب المدينة لأصحاب المتاجر الشهيرة التي دمرتها الحرب، كأماكن مؤقتة لحين إعادة بناء محالهم في أماكنها السابقة. وإلى جانب كل هذا «الهوس» بالاستثمار العقاري في مدينة ما زالت غالبية عقاراتها مثقوبة ومتهاوية بفعل الدانات والمدفعية، تنشط حركة البناء وإعادة الإعمار، وزاد عدد الشركات التي تقدم خدمة تجهيز مبانٍ جديدة في أسرع وقت، خصوصا من خلال تقنية المباني سابقة التجهيز من حيث الحوائط الحاملة والجدران المصنعة سلفا. ويضيف المهندس أبو شيبة، في رده على أسئلة لـ«الشرق الأوسط»، قائلا إنه في الوقت الحالي «يوجد إقبال من جانب أهل مصراتة على المباني سابقة التجهيز، لكن من خلال التساؤلات فقط عن سعر وقيمة هذا النمط الجديد.. لكن قرار الشراء والتعاقد ما زال بطيئا»، مشيرا إلى أن أكثر المناطق المتضررة هي شارع طرابلس، لأنه واجهة المدينة ويعتبر هو القلب منها، إلا أنه لا توجد منطقة في مصراتة إلا وتضررت، وبالتالي تحتاج إلى إعادة إعمار، معربا عن اعتقاده بأنه إذا استقرت الأوضاع «يمكن أن تتسع مصراتة للاستثمارات العقارية من العرب والأجانب أيضا».