العقار الأوروبي رهينة أزمة اليورو

المبيعات مجمدة في بعض الدول لرفض البيع بالأسعار السائدة

TT

ما زالت أسواق العقار الأوروبية تعاني من التجمد، باستثناء المدن الرئيسية والعواصم التي تعاند التيار لأنها تنافس على المستوى الدولي. ومن غير المتوقع أن يتغير واقع الأسواق الأوروبية إلا بعد ظهور تحسن ملحوظ ونتائج إيجابية للإنجاز الاقتصادي في هذه الدول. ولكن هذا التحول غير وارد حتى الآن مع مؤشرات أن الاقتصاد البريطاني يعاني من موجة كساد ثانية هي الأطول في تاريخه الحديث لأنها مستمرة منذ تسعة أشهر، وتوجهات الاقتصاد الإسباني السلبية التي قد تدفع إسبانيا إلى طلب العون المباشر من مجموعة اليورو. ولم يتحسن الوضع الاقتصادي بعد في دول أخرى مثل إيطاليا وفرنسا.

وحتى الاستثمار في المدن الأوروبية الكبرى يأتي الآن بهدف الحفاظ على القيمة وليس بغرض زيادتها. ويتمتع القليل من هذه العقارات بعوائد إيجارية مستقرة من مستأجرين بتعاقدات طويلة الأجل. ويسعى كبار المستثمرين إلى الاستحواذ على العقارات ذات النوعية المتفوقة مما يعزز أسعارها أكثر. وليس من المتوقع أن يتغير هذا النمط قريبا لعقارات جيدة في وسط المدن الكبرى عليها طلب شديد وتتصاعد أسعارها بينما بقية الأسواق خاملة بصفقات قليلة وأسعار متراجعة.

وتعاني الأسواق الأوروبية حاليا من عدة عوامل سلبية مؤثرة في أسواق العقار؛ منها تراجع الإنفاق الحكومي العام وارتفاع معدلات الضرائب مع نسب بطالة متزايدة، وإجراءات تقشف في كل المجالات، مما يزيد من الضغوط المعيشية ويضغط على القيم العقارية. وتنعكس المعاناة أيضا على العقارات التجارية التي تعاني من نسب مديونية عالية يصل حجمها العالمي إلى 6800 مليار دولار وفقا لأبحاث شركة «دي تي زد». ومعظم هذه الديون في أوروبا والولايات المتحدة.

وكان يمكن أن يؤدي هذا الدين إلى فقاعة ديون تجارية رديئة على غرار الديون السكنية الرديئة التي فجرت الأزمة المالية في عام 2008، إلا أن البنوك تعتمد هذه المرة على أسعار الفائدة المتدنية قياسيا، والتي تعد بمثابة الدعم الحكومي لأسعار الفائدة، وأيضا دفعات النقد التي تضخها بعض البنوك المركزية لتحريك اقتصاداتها. وتبقى مشكلة أخرى هي عدم رغبة البنوك في الإقراض العقاري حاليا، أو أي نوع من الإقراض، لأن بعضها يمتلك العديد من الأصول الرديئة الناتجة عن قرارات سيئة في الماضي. ولكن بعض البنوك بدأ يتساهل في الإقراض العقاري بشرط أن تكون العقارات جيدة وتقع داخل مدن أو مراكز مالية ولها عوائد إيجارية مضمونة وعليها طلب استثماري واضح.

وهناك تفاوت واضح بين الأسواق الأوروبية في الوقت الراهن؛ فبينما تستقر السوق الألمانية وتجذب إليها مزيدا من الاستثمار، فإن توجهات السوقين؛ الإسبانية والبرتغالية ما زالت سلبية بسبب نظرة الدول الأخرى إلى متاعب هاتين الدولتين من الناحية الاقتصادية. أما سوق العقار البريطانية، وإلى حد كبير الفرنسية أيضا، فهما تعانيان من الانقسام الواضح بين عقارات المدن الكبرى وعقارات المناطق الأخرى؛ فالأولى مستقرة ومنتعشة، بينما الضواحي والأرياف متراجعة.

* ألمانيا

* انعكس إنجاز الاقتصاد الألماني القوي ونسب النمو التي حققها بمتوسط أربعة في المائة في العامين الماضيين على أسواق العقار الألمانية التي ارتفعت فيها الأسعار وزادت الصفقات إلى ما يزيد على ستة مليارات يورو في الربع الأول من العام الحالي. وتؤيد التوقعات المزيد من النمو في السوق الألمانية لكي تزيد الصفقات في نهاية هذا العام على 20 مليار يورو. وإذا ما تحول تركيز المستثمرين بعيدا عن العقارات المتميزة إلى المزيد من المخاطرة بالابتعاد قليلا عن المدن الرئيسية، فإن حجم التعامل قد يزيد إلى أكثر من 24 مليار يورو.

ومع ذلك، يجب القول إن نشاط السوق الألمانية لم يصل بعد إلى معدلات ما قبل الأزمة المالية في عام 2008، ولكن إحدى العلامات المشجعة عودة الاهتمام بالعقار التجاري، خصوصا المنافذ التجارية، وهو انعكاس للنشاط الاقتصادي المزدهر في ألمانيا حاليا. ويصل حجم هذا القطاع حاليا إلى نحو 40 في المائة من إجمالي التعاملات، مقابل أقل من 30 في المائة في عام 2009. وأشار بحث ميداني أجرته شركة «إنريف» إلى أن نسبة الثلث من المستثمرين تنوي الاتجاه إلى قطاع المنافذ التجارية، بينما قال ربع المشاركين في البحث إن قطاع المكاتب هو الذي يغريهم حاليا.

ولكن بعض السحب ما زالت تحجب الثقة الكاملة في مستقبل قطاع العقار الألمانية؛ منها ديون بعض الحكومات الأوروبية، وقيمة اليورو نفسه. ولكن انتعاش الاقتصاد الألماني انعكس إيجابا على قطاع العقار النمساوي أيضا؛ حيث ارتفعت أسعار عقارات مدينة فيينا التي تفوقت على 28 مدينة أوروبية أخرى في نشاط الاستثمار العقاري بها.

* إسبانيا

* ما زال الوضع في إسبانيا يمثل أسوأ ما في الفقاعة العقارية الأوروبية، فهناك آلاف الوحدات العقارية الشاغرة من شقق سياحية ومشاريع فنادق ومكاتب ومراكز تجارية، ومشروعات غير مكتملة، بينما البنوك الإسبانية عاجزة عن التمويل وتطلب دعما حكوميا. وينعكس الوضع الاقتصادي المزري في إسبانيا ونسب البطالة المرتفعة على الشعور العام لمستثمري العقار سواء في الداخل أو من الخارج. وتملك البنوك الإسبانية حاليا آلاف الوحدات العقارية التي عادت إليها في تعاقدات تمويل رديئة ولا تدري البنوك كيف تتصرف فيها مع عدم وجود طلب عقاري في السوق بالمرة.

وكانت البنوك وشركات التمويل الإسبانية قد استغرقت في التمويل العقاري العشوائي حتى عام 2007، ولكن الأصول العقارية انخفضت في قيمتها منذ ذلك الحين بنحو 40 في المائة، وإذا باعت البنوك الإسبانية عقاراتها بالأسعار السائدة حاليا، فسوف تخسر النسبة نفسها من قيمة قروضها أو أصولها.

وتعاني إسبانيا بوضوح من حالة إمدادات عقارية أكثر من الطلب المتوفر في السوق. وحتى منتصف العقد الماضي كانت إسبانيا تبني 900 ألف وحدة عقارية سنويا، أي أكثر من إجمالي مشروعات العقار في بريطانيا وفرنسا وألمانيا معا. ويقول أندرياس إيسكاربنتر، مدير الفرع المحلي من شركة «لاسال» العقارية، إن التصحيح في إسبانيا شمل العقارات التجارية أيضا التي انخفضت إيجاراتها بنسبة 30 في المائة. ويضيف أن أصحاب العقارات التجارية لا يرغبون في البيع بالخسارة، بينما عقاراتهم تغطي تكاليف القروض من الإيجارات في الوقت الحاضر. ومن ناحية أخرى، لا يريد أصحاب العقارات السياحية بيع عقاراتهم في قاع السوق ما داموا غير مضطرين لذلك.

ومع وجود نسب بطالة محلية تصل إلى أكثر من 20 في المائة، ليس من المتوقع أن يوجد طلب محلي على فوائض العقارات الإسبانية في المدى المنظور. ومن المتوقع أن يتواصل التراجع العقاري في إسبانيا حتى يصل إلى نقطة التوازن بين العرض والطلب. ومع ذلك، فإن هناك بوادر في السوق الإسبانية لنشاط شراء أجنبي يلتقط الفرص بأسعار منخفضة سواء في القطاع التجاري أو السياحي. ويبحث المستثمرون الأجانب عن العقارات الجيدة التي يسهل تسويقها في ما بعد.

* البرتغال

* يعاني قطاع العقار البرتغالي من مشكلات مشابهة لتلك التي يعاني منها القطاع في إسبانيا. وتتعرض البرتغال لحملة تكهنات حول مدى حاجتها إلى الإنقاذ الاقتصادي من مشكلاتها الهيكلية وديونها، ووفقا لهذه التكهنات، فإن البرتغال سوف تحتاج إلى الإنقاذ قبل إسبانيا. ويقول خبراء عقار محليون إن مثل هذه الشائعات تؤثر على الأسواق المالية، وبالتالي على أسواق العقار. ولا تعاني البرتغال من مشكلة إمدادات فائضة بالحجم الإسباني، ولكن معاناتها الأساسية هي في عدم الثقة في المستقبل.

وتوجد علامات مشجعة في سوق العقار البرتغالية هذا العام مع ارتفاع حجم الصفقات والاهتمام من مستثمرين أجانب يرون بعض الفرص الجيدة السانحة محليا. ولكن الأمر المؤكد هو أن مرحلة الانتعاش لم تصل إلى قطاع العقار البرتغالي بعد.

* بريطانيا

* ما زال النمط السائد في بريطانيا هو انتعاش المدن الكبرى وتراجع الضواحي والمناطق الريفية. وفي لندن، تخطى مستوى الأسعار والإيجارات ما كان عليه قبل الأزمة المالية وزاد عن معدلات عام 2007. ويشعر العديد من خبراء العقار في لندن أن هذا التيار سوف يستمر بسبب نقص المساحات والعقارات المعروضة في وسط لندن. وينعكس وضع لندن على الإنجاز العام لقطاع العقار البريطاني الذي يسجل نموا إيجابيا منذ عام 2010.

ومع ذلك، لا تبدو الأسواق العقارية خارج لندن مشجعة حتى الآن. وتقول إحصاءات السوق إن معدل أسعار العقار السكني تراجعت في العام الأخير بنسبة 2.8 في المائة، وفقا لمؤشر بنك «هاليفاكس»، وهو أكبر تراجع منذ أكتوبر (تشرين الأول) عام 2009. وقال كبير الاقتصاديين في البنك، مارتن إيليس، إن التوجه العام يشير إلى تراجع بنسبة مماثلة هذا العام أيضا. وهو يعزو السبب في ذلك إلى تردي الوضع الاقتصادي وعدم وجود دلائل على قرب انتعاش اقتصادي بعد.

وأشار الاقتصادي هاورد آرشر إلى أن مؤسسات مالية أخرى، ومنها مؤسسة «غلوبال إنسايت» التي يعمل بها، تعتقد أن نسبة التراجع كانت أكبر من ذلك وتصل إلى 3.4 في المائة. ولكنه أضاف أن التركيز يجب أن لا يكون على النسب المجردة وإنما على التوجه العام للأسواق، وهي مؤشرات تؤكد في الوقت الحاضر أن سوق العقار البريطانية في اتجاه تراجعي، أو مجمد في أفضل الأحوال. وهو يعتقد أن الأسعار سوف تنخفض بنسبة خمسة في المائة هذا العام.

وتضيف أبحاث جمعية العقار البريطانية «نيشن وايد» أن أحد أسباب تجمد السوق هو اختفاء المشترين الجدد لأسباب عديدة. وقال كبير الاقتصاديين في الجمعية روبرت غاردنر إن هذا الوضع لن يتحسن إلا بعد عودة الثقة إلى سوق التشغيل وتراجع معدلات البطالة. ويتأثر صغار السن الذين يمثلون الشريحة الأكبر بين المشترين الجدد بوضع سوق العمل، وهم الآن يعانون من أكبر نسب بطالة منذ 20 عاما خصوصا بين الخريجين.

ويعاني المشترون الجدد أيضا من صعوبات التمويل؛ حيث يحتاج المشتري إلى مقدم يتراوح بين 10 و20 في المائة من قيمة العقار، وهو ما يماثل ادخارا نسبته 15 في المائة من الأجر المتوسط لمدة 8 سنوات لشراء عقار في فئة المدخل، ثمنه في حدود 162 ألف جنيه إسترليني (250 ألف دولار). وهناك بنوك قليلة في بريطانيا، من بينها «نورثرن روك» المؤمم حاليا، تعرض قروضا عقارية بنسبة 90 في المائة من أجل جذب المشترين الجدد. ومع ذلك، يعتقد غاردنر أن أكبر رادع أمام المشترين الجدد هو أسعار العقار الباهظة التي تفوق قدرتهم على السداد. وتمثل هذه الأسعار في الوقت الراهن خمسة أضعاف الدخل السنوي، أي أكبر من النسبة التاريخية المقبولة وهي أربعة أضعاف الدخل السنوي.

* فرنسا

* تسير فرنسا على نمط مشابه للنمط البريطاني في انتعاش العاصمة والمدن الكبرى، وتراجع في الأرياف. ويوجد نشاط متزايد في عقارات باريس بأنواعها مع تصاعد تدريجي في الأسعار. وفي العام الماضي، بلغت نسبة النمو بشكل عام في قطاع العقار الفرنسي 4.4 في المائة؛ معظمها في باريس. وتشهد فرنسا تدفقا للاستثمار الأجنبي إلى درجة أن نسبة 46 في المائة من الصفقات العقارية حاليا تذهب لأجانب.

من المناطق الأخرى التي تبدو الآن الأكثر استقرارا وجذبا للاستثمار الأجنبي بعد باريس، كل من بروفانس وسان تروبيه وكاب دانتيب. ولكنها ما زالت تقتصر على قطاع النخبة، حيث تقول شركات العقار إن المشتري في بروفانس يحتاج إلى ميزانية لا تقل عن 1.5 مليون يورو لشراء عقار متميز في المنطقة. أما إذا كانت الميزانية أقل من ذلك، فالعقارات المتاحة هي المزارع التي تحتاج إلى ترميم أو الشقق الحديثة في وسط المدن. وفي الوقت الذي يتراجع فيه مؤشر الأسعار، فإن قطاع النخبة حافظ على قيمته، ولم تعرض عقارات بأقل من القيمة المدفوعة فيها بعد. وتقدر شركات العقار أن نسبة شراء الأجانب للعقارات في بروفانس تصل إلى نحو 60 في المائة. ويواصل الأجانب شراء العقارات في المنطقة غير عابئين بتحولات الأسعار، نظرا لنوعية الخدمات المعيشية وتماسك قيمة العقار على مر السنين. وتربط المنطقة شبكة مواصلات جيدة ببقية أنحاء فرنسا عبر خطوط حديدية سريعة، كما توجد بالقرب منها العديد من المطارات الدولية في مرسيليا ونيس ومونبيلييه.

أما في منطقة سان تروبيه على الساحل الفرنسي الجنوبي أو الريفييرا الفرنسية، فبعض الأسعار مستقرة، بينما بعضها الآخر ما زال في اتجاه صعودي. وكانت المنطقة في الماضي حكرا على الفنانين ونجوم السينما، ولكن هؤلاء باعوا عقاراتهم بعد الارتفاع الجنوني في الأسعار في السنوات العشر الماضية. وهم يعودون إليها سنويا مستأجرين أو ضيوفا في الفنادق القريبة منها.