«الشقق العمياء» تفقد نصف قيمتها السوقية على كورنيش القاهرة

البناء غير المخطط حجب عنها منظر النيل الخلاب

TT

هل تخيلت يوما أن تسمع عن مصطلح «الشقق العمياء»؟ هذا النوع من الشقق يوجد في عمارات لها شرفات تشبه العيون الواسعة، تطل على كورنيش القاهرة وكانت ترى النيل. لكن في الوقت الحالي، أقيمت أمامها عمارات جديدة حجبت عنها رؤية الشاطئين الأخضرين، وبالتالي فقدت أكثر من نصف قيمتها السوقية.

وتعيش البلاد في فوضى عارمة أثرت على ملايين الناس في كل مكان، لكن طبقة صغار المستثمرين في الشقق القريبة من النيل يعتبرون حظهم هو الأسوأ منذ سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك مطلع العام الماضي، حيث انتشر البناء العشوائي غير المرخص وغير المخطط على كل أرض فضاء على كورنيش النيل.

وبسبب هذه الظاهرة، أصبحت الكثير من الشقق التي كانت حتى بداية عام 2011 ترى النيل بالعمى بعد أن حالت العمارات الجديدة بينها وبين رؤيتها للفراغ المفتوح على مياه النيل. وكان بناء العمارات غير المرخصة يجري ليلا منذ بداية ثورة 25 يناير، لكن وبعد أن اطمأن كبار المقاولين إلى حالة الفراغ الإداري والأمني في العاصمة المصرية، أصبح البناء يجري نهارا جهارا وفي عز الظهر.

وحكاية المنافسة الشرسة بين العمارات ذات الشرفات التي ترى النيل والعمارات التي يتم بناؤها أمامها فتحجبها عن رؤية الكورنيش، ترجع إلى عام 2008، كما يقول المقاول ناصر شحاتة، وهو صاحب شركة للعقارات بجنوب العاصمة.

ويضيف شحاتة أن ذلك حدث ذلك حين استغل المئات من رجال المال ضعف الإدارة المحلية في مصر بشكل عام وفي القاهرة بشكل خاص في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، وقاموا بشراء ما تبقى من الأراضي الزراعية والأراضي الفضاء الواقعة على كورنيش القاهرة، في المنطقة الممتدة من حلوان جنوبا حتى منطقة شبرا شمالا، مرورا بشريط الكورنيش المميز الواقع بين مبنى المحكمة الدستورية ومنطقة ساحل الغلال القديمة.

ويقول شحاتة: «يأتي صاحب المال ويشتري قطعة أرض بنظام وضع اليد.. يا إلهي! هذا يعني أن المشتري سيقيم عمارة ارتفاعها لا يقل عن سبعة عشر طابقا، وسعر الشقة فيها لا يقل بأي حال عن مليون جنيه. وإذا امتلكت شقة هنا فأنت مليونير، لأن سعرها سيرتفع عاما بعد عام. لكن البناء العشوائي وفوضى المباني، أطاح بأحلام المئات ممن يمكن التعرف عليهم بسهولة. شققهم لم تعد ترى النيل. ويقفون هنا وهو يعرضونها للبيع، لكن العائد لا يزيد على نصف ما دفعوه. إنها خسارة تقصم الظهر!».

وخسر شحاتة ثلاث عمارات كانت قيد الإنشاء خلف برج القانونيين الشهير والقريب من مستشفى المعادي العسكري، وهو برج يرتفع لأكثر من عشرين طابقا ويسكنه علية القوم. وقامت السلطات المحلية بهدم أساسات عمارات شحاتة وأزالتها في عامي 2009 و2010 ضمن حملة قادها محافظ القاهرة وقوات الشرطة لفرض القانون، بناء على شكاوى من سكان برج القانونيين وغالبيتهم من رجال المال والسياسة والفن، بعد أن شعروا بغابة العمارات الشيطانية تزحف نحوهم وتحاصر البرج الذي يقطنون فيه ويطل على النيل ويشار إليه بالبنان.

ويقول شحاتة إن السلطات في ذلك الوقت (أي قبل سنتين) لم تقم بإزالة عماراته الثلاث فقط، بل قامت أيضا بإزالة عمارات أخرى أقيمت من دون ترخيص على أراض غير مسجلة بأسماء المدعين بملكيتها على جانبي شارع آل البيت وامتداده، وفي الأراضي المجاورة لمبنى المحكمة الدستورية، وفي الأراضي الفضاء ذات المساحات الصغيرة الموجودة في محيط المستشفيات الراقية مثل «السلام الدولي» و«النيل بدراوي».

ويقول شحاتة الذي صفى أعماله مؤخرا خوفا من تقلبات السلطة السياسية وقوانينها، إن السلطات أيام النظام السابق لم تكن لتتحرك لولا الشكاوى التي تقدم بها سكان من ذوي الحيثية ممن فوجئوا بأن العمارات الجديدة التي ظهرت في ذلك الوقت فجأة أصبحت تحجب عنهم الكورنيش، وتصيب شققهم وأبراجهم بالعمى.

وإذا سألت المقاول ناصر شحاتة عن الحال اليوم، يقول لك إنه أصبح أسوأ من السابق، لأن جميع العمارات التي تمت إزالتها في أيام مبارك الأخيرة، عادت لترتفع من جديد. ويزيد قائلا: «الآن أصبحت الفوضى أكبر من ذي قبل، والتجرؤ على السلطات وتحدي القانون أوسع نطاقا. والعمارات التي تم هدمها خرجت من الأرض من جديد لتتحدى نظام الرئيس محمد مرسي، وارتفعت أطول من السابق وحجبت المزيد من الشقق والأبراج الأخرى التي لم تعد ترى النيل».

وسواء في موجة البناء الأولى في أعوام ما قبل أحداث 2011، أو في موجة البناء الثانية الجارية الآن، يعتبر أكثر المتضررين ممن ساقهم حظهم العاثر طيلة السنوات الخمس الأخيرة لاقتناء شقة ترى الكورنيش، هم المصريون العاملون بالخارج، خاصة في دول الخليج، وبعض أصدقائهم العرب، كما يقول أحمد الحلواني - سمسار العقارات في شارع آل البيت المجاور للمقر الإلكتروني للبنك الأهلي في بداية كورنيش ضاحية المعادي.

في السابق، لم يكن أحد يسأل عن رخصة بناء مثل هذه العمارات. وفي الوقت الحالي، لا أحد يسأل أيضا. مجرد وجود الشقة قرب النيل يكفي. وهكذا أقبل عليها المشترون باعتبارها «شقق لُقطة»، كما يروي الحلواني.. شقق لها سعر مرتفع صحيح، ولها سعر لا تقدر عليه الطبقات المتوسطة، لكنها شقق لها مستقبل، وتعد في حد ذاتها نوعا من الاستثمار طويل الأجل بالنسبة لمدخرات أولئك الذين سيمضون سنوات أخرى من العمل في خارج البلاد.

في البداية، أي منذ تفجر ثورة 25 يناير العام الماضي، كان البناء يبدأ في الساعات الأولى من الليل، حيث تهدر الشاحنات في الطرق الهادئة قادمة بالحديد والإسمنت والعمال والروافع، وينتهي العمل قبل الساعات الأولى من الصباح، ليستأنف في الليلة التالية وذلك بسبب الخوف من السلطات، حيث يجرم القانون البناء من دون تخطيط أو ترخيص أو من دون التزام بارتفاعات للمباني وغيرها. لكن في الوقت الحالي، أصبح البناء وحركة الشاحنات التي تنقل المعدات والعمال أمرا معتادا في وضح النهار دون خوف من أي عقاب.

وبالتالي، كلما ظهرت عمارة تطل شققها على النيل، أقيم أمامها في أقل من شهر عمارة جديدة تحجب الأولى عن رؤية الكورنيش. ويقول الحلواني: «إن غالبية هذا النوع من الشقق تفقد نصف قيمتها السوقية في أحسن تقدير، لأن الذي اشتراها اشتراها وهي تطل على منظر النهر، والآن إذا أراد بيعها سيبيعها كشقة ليست لها ميزة رؤية الكورنيش، مما يجعلها تحصل على لقب (شقق عمياء)، فشرفاتها لم تعد ترى النيل ولا الخضرة المنتشرة على شاطئيه ولا المراكب العابرة في ساعة الغروب».

فعلا.. يكفي أن تقف في شرفة عمارة مكونة من سبعة عشر طابقا لتجد المناظر المفتوحة على النهر التي كانت تميزها قبل أيام قد اختفت وضاع معها نصف قيمتها في سوق العقارات، ناهيك بالخسائر المستقبلية بالنسبة لمن لا يفكرون في البيع بالخسارة حاليا.