عقارات شمال أوروبا تنمو.. وجنوبها سيبقى ضعيفا لسنوات

أزمة الديون قسمت أسواق العقار الأوروبية

جانب من الانشاءات الجديدة في لندن
TT

تنعكس أزمة الديون الأوروبية على أسواق العقارات في أوروبا، بحيث تنقسم الأسواق الآن بين شمال قوي اقتصاديا وعقاريا وجنوب ضعيف ومثقل بالديون. وترى أوساط العقارات الأوروبية أن هذا الوضع لن يتغير في المدى المنظور حتى تجد الدول في جنوب أوروبا مخرجا من أزمتها المالية وتستعيد قواها الاقتصادية. بل إن بعض الأوساط ترى أن الفجوة الحالية تتوسع بدلا من أن تنكمش. لكن ليس من المتوقع أن تخرج أي من دول جنوب أوروبا من منطقة اليورو على الرغم من الصعوبات الاقتصادية، ومع ذلك بدأت الثقة في منطقة يورو قوية وموحدة تتآكل.

وتشمل الدول الضعيفة داخل منطقة اليورو كلا من البرتغال وآيرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا، وهي تمثل في ما بينها نقاط ضعف أوروبية وصداعا لدول الشمال التي تتزعمها ألمانيا، لأنها دول تحتاج إلى دعم دائم حتى لا تتسبب في انهيارات داخل منطقة اليورو. وينعكس هذا الانشقاق بين الشمال والجنوب على قرارات الاستثمار العقاري، حيث يقول فولكر نوفاك، عضو مجلس إدارة شركة «يونيون للاستثمار العقاري» في ألمانيا، إن الطلب العقاري يبحث عن أقل المخاطر في السوق ولذلك يتجه أكثر إلى شمال أوروبا ويغفل جنوبها تماما في الوقت الحاضر.

وتعتمد قرارات المستثمرين على حالة الاقتصاد الواقعي في الدول الأوروبية قبل دخول رؤوس الأموال إليها. فالأسواق الناجحة تعتمد على اقتصاد قوي تنخفض فيه نسب البطالة وينشط فيه الاقتصاد بنسب نمو جيدة، تضمن التوسع المالي والاستثمار في أدوات ووسائل حديثة تضمن التفوق الاقتصادي وتقلل من التكلفة. وهذا بدوره يولد طلبا على الاستثمار العقاري ويسهم في استقرار ونمو أسواق العقار في الدول الناجحة اقتصاديا.

بالإضافة إلى ذلك يعتمد الطلب العقاري أيضا على الاستثمار الأجنبي، وهو استثمار يتجنب المخاطر بأنواعها، من تراجع أسعار العملة إلى تراجع قيمة العقارات نفسها. ويجد المستثمر نفسه في مجموعة اليورو بين نقيضين هما ألمانيا واليونان. فخلال العام الماضي سجلت ألمانيا نموا اقتصاديا قدره 2.9 في المائة، بينما انكمش الاقتصاد اليوناني بنسبة 5.5 في المائة، وفقا لأرقام مكتب الإحصاء الأوروبي. وبينما زاد الاقتصاد البولندي بنسبة أربعة في المائة العام الماضي، تراجع الاقتصاد البرتغالي بنسبة ثلاثة في المائة. ومن المتوقع أن تماثل نتائج هذا العام ما تحقق في العام الماضي، وبذلك يكون الاختيار الواضح للمستثمر هو الاتجاه باستثماراته العقارية نحو الاقتصادات التي تحقق نموا، وتلك الاقتصادات توجد في شمال ووسط أوروبا ولكن ليس في جنوبها.

ولا يقتصر اهتمام المستثمرين فقط على أسواق شمال أوروبا القوية، بل يتركز على أنواع العقارات الجيدة والحديثة نسبيا التي تضمن نوعية جيدة من المستأجرين وبالتالي عوائد مستقرة في المدى الطويل. وتثبت الإحصاءات صحة هذا الافتراض، حيث بلغ حجم الصفقات في قطاع العقار التجاري في ألمانيا في الربع الثالث من العام الماضي مبلغ 6.2 مليار يورو، بزيادة 64 في المائة عن الفترة نفسها من العام الأسبق. وبلغت نسبة الزيادة 60 في المائة في الدول الاسكندنافية و26 في المائة في فرنسا. واستفادت هذه الدول من مرحلة عدم الاستقرار في الأسواق المالية والبورصات التي نتج عنها تحول الاستثمارات نحو العقار.

وتتوسع في دول شمال أوروبا عمليات شركات العقار باستخدام المزيد من الأيدي العاملة ودخول المزيد من المشاريع العقارية. وتدل إحصاءات البطالة الأوروبية على أن أقل نسب البطالة توجد في دول شمال أوروبا، بينما أعلاها تقع في دول الجنوب. وتصل نسبة البطالة في ألمانيا إلى 6.5 في المائة، بينما تصل هذه النسبة إلى 21 في المائة في إسبانيا. وفي الربع الأول من هذا العام بلغ حجم الاستثمار في العقارات التجارية الألمانية نحو 8.4 مليار يورو.

أما في إسبانيا فقد تراجع الاستثمار العقاري بنسبة النصف خلال العام الماضي، وفقا لتقرير من شركة «سافيلز» العقارية. وكانت النسبة الأكبر من العقارات الإسبانية المباعة مصدرها البنوك التي صادرتها وفاء للديون المتراكمة عليها، ومن البلديات المحلية التي تحاول تدبير بعض السيولة في مرحلة الكساد.

ويعاني الاقتصاد الإسباني من حالة ضعف عام تتراجع معه نسب النمو وتزداد نسب البطالة. ويستطيع السائح أن يرى بنفسه لوائح «للبيع» تطل عليه من معظم نوافذ العمارات السياحية المنتشرة في المدن الإسبانية. وكان الإسبان قد اشتروا العديد من الشقق السياحية بقروض مصرفية، ولكن مع فقدان الوظائف أو البقاء في وظائف غير مضمونة تخلص هؤلاء من عقاراتهم.

وتعاني دول جنوب أوروبا من مستويات عالية من الديون الحكومية الناتجة عن ضعف إيرادات الضرائب من ناحية وضعف الإنجاز الاقتصادي من ناحية أخرى. وفي حالة اليونان مثلا لا يتعدى حجم الديون اليونانية نسبة 150 في المائة من إجمالي الناتج القومي، ولكن بسبب انكماش الاقتصاد اليوناني سنة بعد أخرى تنخفض أيضا قاعدة الدخل القومي له. وما لم تحصل اليونان على دعم من الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي فإنها قد لا تستطيع أن تدفع أجور موظفي الحكومة فيها في عام 2013. ولا يختلف الوضع كثيرا في دول جنوب أوروبا الأخرى.

أما في ألمانيا فالوضع مختلف، حيث أعلنت وزارة الخزانة الألمانية مراجعة العوائد الضريبية التي رفعت بها القيمة المتوقعة بين عامي 2012 و2015 بنحو 40 مليار يورو. ولهذا يتوقع الخبراء أن يستمر هذا الفارق بين شمال أوروبا وجنوبها في المدى المنظور.

وتتأثر في دول جنوب أوروبا العقارات السياحية والتجارية بنسبة أكبر من المنافذ التجارية. ويستغرق الأمر أحيانا نحو سنة كاملة قبل أن يظهر تأثير الاقتصاد الفعلي على سوق العقار، لكن ذلك يختلف من سوق لأخرى. وما يحير الخبراء الآن هو توجهات المستقبل وهل سيتسع الشق بين شمال أوروبا وجنوبها أم أن هذه الفروق سوف تلتئم مع مرور الزمن.

يقول باتريك ارتوس، كبير اقتصاديي بنك الاستثمار الفرنسي «ناتيكسيس»، إن الأمر المؤكد أن منطقة اليورو لن تتفكك، حيث إن الدول الأعضاء سوف تستدعي كل إمكانياتها من أجل الحفاظ على سلامة النظام النقدي الأوروبي ومنع انهيارها أو انسحاب دول منها. ويضيف توباياس غوست، أستاذ اقتصاد العقار في جامعة ريغنسبورغ، أنه من غير المتوقع أن تعود أوروبا مرة أخرى إلى عملاتها الوطنية السابقة. ومع ذلك فهو يقدر نسبة خروج دولة مثل اليونان أو البرتغال من منطقة اليورو بنحو 50 في المائة.

أما عن دول شرق أوروبا التي انضمت حديثا أو سوف تنضم إلى المستقبل، وفرص انضمامها إلى العملة الأوروبية الموحدة، فهو يقول إن رغبة الدول الجديدة في دخول العملة الموحدة تراجعت جذريا في العام الأخير، ومع ذلك فهو يشير إلى سويسرا التي ربطت عملتها الفرنك باليورو، ووجدت أن عملتها ما زالت جذابة عالميا. ويضيف غوست أن دول شرق أوروبا التزمت عندما تقدمت للعضوية باتخاذ اليورو عملة لها، لكن الاختلاف قد يكون على التوقيت.

لكنه يختلف في أنه لن تكون هناك عودة إلى توحيد أسعار الفائدة طويلة الأجل على السندات الحكومية. وهو يعتقد أنه من أخطاء تقديم اليورو في بداية عهده كان توحيد أسعار الفائدة على السندات الحكومية. ومع اختلاف نسب الديون في كل الدول الأوروبية، كان بمقدور دول مترنحة اقتصاديا مثل اليونان وآيرلندا والبرتغال وإسبانيا أن تقترض بالشروط المميزة نفسها التي تقترض بها دول قوية اقتصاديا مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا. وفي آيرلندا وإسبانيا تراجعت فوائد القروض فيهما إلى النصف بعد دخول منطقة اليورو. وكان هذا بمثابة دعوة مفتوحة لمطوري العقار فيهما للاقتراض الرخيص وتمويل مشاريع بغض النظر عن جدواها الاقتصادية لأن الأرباح فيها مضمونة على المدى القصير. وعندما كشفت الأزمة المالية أخطاء هذا الوضع، ليس من المتوقع أن تعود إليه دول أوروبا في المستقبل.

ويعتقد بيتر دامسيك، الاقتصادي في مؤسسة «سي بي آر إي» اللندنية، أن الوضع الآن يدفع مستثمر العقار الدولي إلى البحث عن المواقع الآمنة في أوروبا لاستثماراته، وأن هذه المواقع تشمل ألمانيا والسويد وفرنسا وبعض دول شرق أوروبا، وهي مواقع يتوقع لها أن تشهد المزيد من الجذب الاستثماري العقاري. وهو ينظر إلى سوق العقارات الأوروبية الآن على أنه مكون من طبقتين، وأن الفجوة بينهما تتسع في الوقت الحاضر ولا تتقلص.

ويعتقد دامسيك أن من يستثمر في دولة مثل اليونان أو البرتغال حاليا يجب أن يأخذ في حسبانه مخاطر الخروج من منطقة اليورو. وبالنسبة للعقارات التجارية يجب على المستثمر أن يتوقع عوائد أعلى في الدول عالية المخاطر من أجل تعويض ما يتحمله المستثمر من هذه المخاطر. وتصل درجة المخاطر المتوقعة إلى أقصاها في دولة مثل اليونان. وهو يعتقد أن أفضل استثمارات العقار في أوروبا في الوقت الحاضر هي في العقارات ذات لنوعية الجيدة في دول مستقرة اقتصاديا داخل منطقة اليورو. لكنه يستطرد بالقول إن التحولات لا تتوقف، وإن الوضع الحالي ليس هو نهاية المطاف، حيث استغرقت الأرجنتين عشر سنوات للخروج من حالة الإفلاس التي عانت منها. وقد لا تحتاج دول جنوب أوروبا، التي ينظر إليها الجميع الآن على أنها من الدرجة الثانية اقتصاديا، إلى مثل هذا الوقت لكي تستعيد عافيتها مرة أخرى.