تهافت استثماري عقاري على بولندا بعد تألق أسواقها

وسط إنشاء ناطحات سحاب جديدة ومجمعات سكنية

أسواق العقارات الأوروبية تنتظر الانتعاش
TT

تعكس العاصمة البولندية وارسو كما كبيرا من المتناقضات، بين أحدث العقارات السكنية والتجارية ومنافذ البيع العصرية، والمنشآت القديمة المتهالكة الباقية من العصر الشيوعي. وفي شمال المدينة تنطلق ناطحة سحاب جديدة اسمها «وارسو سباير» بطول 220 مترا، تضم مائة ألف متر من مساحات العقار متنوع الاستخدام، تنفذها شركة العقار البلجيكية «غيلامكو» وتنتهي منها في عام 2014.

ويوضح مشروع الناطحة مدى جاذبية قطاع العقار البولندي في عام 2012 الذي تصفه شركة الاستشارة العقارية «سي بي إيليس» بأنه أحد أهم مقاصد الاستثمار العقاري في أوروبا هذا العام. ومع تعداد يصل حجمه إلى 38 مليون نسمة، تعتبر بولندا من الدول المؤثرة في أوروبا. وكانت بولندا هي الدولة الوحيدة التي سجلت نموا اقتصاديا خلال فترة الأزمة المالية في عام 2009. وفي العام الماضي سجل الاقتصاد البولندي نسبة نمو بلغت أربعة في المائة.

وتستفيد بولندا من الواقع الأوروبي الذي فقدت فيه دول أخرى في وسط أوروبا مثل المجر وبلغاريا جاذبيتها العقارية. وتحول العديد من مستثمري العقار الذي نشطوا في منطقة وسط أوروبا في الماضي إلى التركيز على بولندا. ولذلك تضاعف حجم التعاملات في العقارات التجارية في بولندا ثلاثة أضعاف في عام 2010، إلى ملياري يورو. وتقول أبحاث شركة «جونز لانغ لاسال» إن الانتعاش البولندي من شأنه أن ينتشر بعد حين إلى كل منطقة وسط أوروبا.

وعلى الرغم من الارتفاع الشديد في حجم الصفقات البولندية فإن حجم السوق ما زال محدودا. ففي مدينة برلين وحدها عقدت صفقات في قطاع العقار التجاري حجمها 2.3 مليار يورو في عام 2010، أي أكثر مما تحقق في كل بولندا. وأحد أسباب محدودية حجم سوق العقارات البولندية هو أن المستثمر الأجنبي ما زال يركز على العاصمة وارسو، وبنسبة 80 في المائة من إجمالي الاستثمار العقاري الأجنبي في بولندا.

ولأن وارسو ما زالت تفتقر إلى نوعية العقار المكتبي الحديث الذي يبحث عنه المستثمر الأجنبي، تركزت الاستثمارات على الإمدادات المتاحة. ويقول جانوس ستاروسيك، من شركة «كومفورت إنترناشيونال» الاستشارية، إنه لو كانت هناك مجمعات مكاتب حديثة في وارسو وبحجم أكبر من المتاح لزاد الاستثمار العقاري الأجنبي فيها بلا شك. وتؤكد شركة «إيليس» أن لديها مستثمرين يبحثون عن مكاتب حديثة في قلب وارسو لكنهم لا يجدون شيئا مناسبا.

وتسيطر شركات وصناديق الاستثمار العقاري من ألمانيا والنمسا وهولندا على أسواق العقار البولندية. وتقول هذه الشركات إن بولندا حققت نسب نمو اقتصادي متميزة في السنوات العشر الأخيرة، وسجلت وارسو أعلى مستويات الخدمات والعقارات المستدامة على قدم المساواة مع مدن أوروبا الغربية. وخلال العام الأخير اشترت شركة «يونيون إنفستمنت» الألمانية عدة عقارات في بولندا منها مبنى «هواريزون بلازا» المؤجر بالكامل كمكاتب للشركات، وقامت بتطوير مبنى آخر في منطقة ليبينسكي كمجمع عقاري حديث وراء واجهة تقليدية في وسط المدينة.

كما اشترت الشركة مجمعا آخر اسمه «زيبرا تاور» بمساحة 18 ألف متر مربع للاستخدام التجاري. وحققت الشركة البائعة، وهي مجموعة «إس آند بي» من النمسا، مكاسب طائلة من المشروع الذي بدأت إنشاءاته في ذروة الأزمة المالية في عام 2008. وقال مستشارون في السوق إن الشركات التي استمرت في عمليات البناء بغض النظر عن الأزمة المالية حققت أكبر المكاسب، والسبب هو أن العقارات القليلة التي تأتي إلى السوق الآن تثير الكثير من الاهتمام من المستثمرين، وترتفع في أسعارها.

وتحقق عقارات وارسو حاليا عوائد تصل إلى 6.4 في المائة في قطاع المكاتب في وسط العاصمة. لكن الندرة الحالية لن تستمر طويلا، حيث تتوقع شركة «كوشمان آند ويكفيلد» أن ترتفع الإمدادات في وارسو خلال عامي 2013 و2014 لكي تضيف ما بين 300 ألف و400 ألف متر مربع من مساحات المكاتب الجديدة. ويمثل هذا نموا سنويا يبلغ نحو 10 في المائة في حجم سوق العقار. وتتولى تنفيذ هذه المشروعات الجديدة شركات أوروبية غير بولندية. وتقدم سوق عقارات المكاتب البولندية فرصة جيدة للتطوير حيث زاد حجم السوق بنحو نصف مليون متر مربع في عام 2011 الماضي كما زادت العوائد الإيجارية إلى 26 يورو للمتر المربع الواحد.

ومع ذلك يقول تقرير شركة «إيليس» إن تطوير العقارات في بولندا ليس مسألة سهلة، فمن الصعب الحصول على التراخيص اللازمة، خصوصا في وسط العاصمة، كما أن تعاقدات التأجير طويلة الأجل التي تستمر لمدة عشر سنوات والتي يفضلها المستثمرون ليست هي القاعدة في بولندا. وتفضل الشركات المستأجرة للمكاتب في بولندا توقيع عقود لا تزيد على خمس سنوات. ومع ذلك فإن إعادة تأجير المكاتب الشاغرة تتم بسهولة.

من المشاكل الملحة التي تواجه مطوري العقار عدم وضوح حقوق الملكية في بعض المناطق، حيث توجد أحيانا العديد من ادعاءات الملكية على مساحات الأراضي نفسها. ولم تنجح الحكومة البولندية بعد في حل هذا الإشكال القانوني على الرغم من عدة محاولات قانونية. كما أن سجل ملكية الأراضي الرسمي لا يعتد به في حالات النزاع. وينصح الخبراء بأنه في حالة وجود مطالبات بالملكية، فإنه على المستثمر الأجنبي أن يتفاوض مع الملاك القدامى حتى يمكن التوصل إلى تسوية. ويفسر هذا الوضع الزمن الطويل الذي تستغرقه بعض المشاريع في وسط وارسو.

مسألة أخرى يجب أن يضعها مستثمر العقار الأجنبي في بولندا في اعتباره وهي مخاطر العملة. فقد صرفت بولندا النظر عن الالتحاق باليورو خلال عام 2012. ويبدو عام 2015 الآن مشكوكا فيه. ويدفع مستثمرو العقار ثمن أعمال التصميم والبناء بالعملة البولندية (زلوتي) التي تتذبذب قيمتها إزاء الدولار واليورو باستمرار. لكن الإيجارات في بولندا مربوطة باليورو وبعضها يدفع فعلا باليورو، ولذلك فالمستثمر يعرف مقدما حجم العوائد المتوقعة مقومة باليورو.

أما سوق العقارات التجارية خارج العاصمة وارسو فهي صغيرة وهامشية، ففي مدينة كراكاو التي يقطنها 750 ألف نسمة تم تأجير 75 ألف متر مربع من عقارات المكاتب في عام 2010، ومثلها العديد من المدن الصغيرة الأخرى في بولندا. لكن حجم وأهمية هذه المدن يزيدان باستمرار. وتقدم بعض هذه المدن فرصا بعوائد أكبر من وارسو للمستثمر الأجنبي.

وتزداد فرص المشروعات العقارية في المدن البولندية في مجال منافذ البيع التجارية والتي بلغ حجمها نصف مجموع الاستثمار العقاري في بولندا في عام 2010. وما زال الاستثمار في المنافذ التجارية دون المتوسط الأوروبي، ولا توجد مناطق تسوق كافية في المدن البولندية وفي العاصمة. ويعد أهم مركز تسوق هو «الممر الذهبي» بجوار محطة القطارات الرئيسية في العاصمة. ويزيد حاليا حجم الاستثمار العقاري في المنافذ التجارية عنه في قطاع المكاتب، وهو تيار كان سائدا قبل الأزمة المالية في عام 2008.

وفي قطاع الفنادق، تم إنشاء 124 فندقا تضم 5500 غرفة في أنحاء بولندا العام الماضي، وكان بعض هذه الفنادق موجها لاستقبال المد السياحي الناتج عن تنظيم بطولة أوروبا لكرة القدم في بولندا وأوكرانيا هذا العام. وهناك العديد من المنشآت الجديدة التي تطورت بفضل هذه البطولة، منها مراكز التسوق الملحقة بمحطات السكك الحديدية. وتبني وارسو حاليا خط مترو تحت الأرض بسبع محطات، يعد هو الثاني في العاصمة. كما تم استكمال الطريق السريع الذي يربط وارسو بفرانكفورت، وهو أول طريق سريع يمر بالعاصمة البولندية.

وما زالت السوق البولندية تمثل الكثير من الغموض أمام مراقبي العقارات في غرب أوروبا، فهم لا يتفقون على تعريف السوق ما بين سوق ناشئة أو متطورة. لكنهم على الأقل يتفقون على أنها سوق واعدة ولا بد من الوجود فيها. وتقول إحصاءات شركة «إيليس» إن الاستثمار الأجنبي في منطقة وسط أوروبا خلال أول خمسة أشهر من العام الماضي بلغ 4.4 مليار يورو، بزيادة 180 في المائة بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الأسبق.

وتتسابق البنوك الألمانية على الإقراض لمشاريع العقار البولندية ولمشترين العقار في بولندا أيضا، وهو نشاط يعكس الثقة في هذه السوق وحجم العوائد المتوقعة التي تفوق العديد من الأسواق الأخرى. وتقول توقعات النمو الاقتصادي إن بولندا تسير نحو تحقيق نسبة نمو تصل إلى أربعة في المائة هذا العام، وهي أفضل النسب الأوروبية.

وبالمقارنة مع غرب أوروبا تقدم بولندا عوائد إيجارية على المنافذ التجارية تصل إلى ما بين 6 و6.5 في المائة، مقارنة بما بين 5 و5.5 في المائة في بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وليس من المتوقع أن تتجه بولندا إلى فقاعة عقارية لسبب بسيط وهو أنها تستغرق وقتا طويلا في إنجاز المشروعات إلى درجة يصعب معها تكوين فقاعات سعرية. وهذا التأني في التنفيذ له فائدة كبيرة في منع الفقاعات السعرية.

* التمويل هو العامل الحيوي في النمو العقاري الأوروبي

* تتميز بولندا عن غيرها من الدول الأوروبية برغبة البنوك في الإقراض لمشاريعها العقارية، نظرا للعوائد الجيدة المتوقعة منها. لكن متاعب أسواق العقارات الأوروبية الأخرى تنبع من أن البنوك الدولية تمتنع حتى الآن عن الإقراض العقاري فيها. ويقول متعاملون في لندن إنه من المستحيل العثور على بنك يقرض حاليا على عقارات في اليونان أو في البرتغال لغير المقيمين في هذه الدول. ويقول مدير التمويل الخاص في شركة «سافيلز»، شون آدامز، إن سوق اليونان ما زالت مغلقة للتمويل بسبب أزمة ديون اليونان. وأضاف أن الشركة خسرت بذلك بعض الصفقات المهمة منها صفقة شراء فيلا بمبلغ 2.5 مليون يورو أراد المشتري أن يقترض من الثمن نصف مليون يورو فقط لكنه لم يجد بنكا واحدا يرغب في هذا الصفقة.

وعلى الرغم من أن بعض البنوك ما زالت تقدم قروضا عقارية للمشترين في البرتغال، فإن صفقات التمويل صعبة وتجري بمعدلات فائدة مرتفعة. وتظهر الصعوبة خصوصا في حالات إعادة تمويل القروض، التي ترتفع عليها الفائدة من نسبة ثلاثة في المائة إلى سبعة في المائة. ويصل معدل الفائدة في البرتغال حاليا إلى نحو تسعة في المائة، وتقدم البنوك نسبة تصل إلى 80 في المائة من قيمة العقار. كما يمكن أيضا تدبير قروض تزيد على المليون يورو، بنسبة فائدة تصل إلى 5.1 في المائة، بحد أقصى نسبته 60 في المائة من قيمة العقار، ورسوم تمويل قدرها واحد في المائة.

وتعتقد مصادر السوق أن سوق العقارات البرتغالية سوف تعود إلى الانتعاش قريبا لأنها لا تعاني من مشكلة زيادة الإمدادات التي تعاني منها السوق الإسبانية. كما تعد البرتغال من وجهات السفر السياحية المفضلة للأوروبيين.

أما في إسبانيا، فالاقتراض فيها أسهل من البرتغال ويتم بأسعار فائدة أقل تصل إلى 3.6 في المائة لنسبة 70 في المائة من قيمة العقار. ومع ذلك فلا يوجد أي طلب حاليا على العقارات الإسبانية على الرغم من وجود العديد من الفرص الجيدة والعقارات الرخيصة.