عقارات المستقبل تولد من الطاقة أكثر مما تستهلك

تعتمد على الموارد المتجددة

المنشآت الحديثة في أوروبا تولد نسبة كبيرة من الطاقة من موارد متجددة
TT

المنافسة العقارية في مجمعات ومكاتب المستقبل سوف تتأسس على الإدارة الفعالة لموارد الطاقة المستدامة، بحيث تكون كفاءة الاستخدام من أبرز أدوات التسويق العقاري وزيادة الكفاءة الحدية للشركات، وفقا لتقرير من شركة «جونز لانغ لاسال» العقارية. ولن تقتصر الكفاءة العقارية في استهلاك الطاقة على العقارات الجديدة، فلا ارتباط بمعدل الكفاءة وعمر العقار لأن العقارات القديمة يمكن أن تخضع للتحديث في هيكلية استخدام الطاقة فيها.

وفي ألمانيا طور طلبة الهندسة المعمارية نماذج لعقارات المستقبل تولد من الطاقة أكثر مما تستهلك، مما يجعلها بمثابة محطات مصغرة لتوليد الطاقة. وهي تعتمد على عدة نماذج للطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الحرارية الأرضية. وتطلق الجامعة على هذه العقارات اسم «عقارات الطاقة الزائدة».

وتخضع العقارات الجديدة في الوقت الحاضر للكثير من القواعد البيئية والقوانين بحيث يجب عليها أن تلتزم بتوليد نسب معينة من الطاقة التي تستخدمها. وينص قانون الطاقة المستدامة الأوروبي على أن المنشآت الجديدة بداية من عام 2021 لن تستطيع أن تستهلك ما تشاء من الطاقة، وإنما عليها الالتزام بتوليد نسبة من الطاقة المستهلكة من موارد متجددة. ولن يسمح القانون الأوروبي بتوليد كل طاقة المنشآت الإدارية والمجمعات من مصادر حفرية أو كربونية. وتعتمد بعض الأبراج الألمانية، مثل برج شركة «باير» الطبية في مدينة كولون على مصادر الحرارة الجوفية لتغطية نسبة كبيرة من حاجته من الطاقة. ويعود تاريخ إنشاء المبنى إلى الخمسينات، وهو ما يؤكد أن كفاءة استخدام الطاقة لا تقتصر على المنشآت الحديثة. وتجذب المنشآت عالية الكفاءة المستثمرين والمستأجرين على حد سواء لأنها توفر لكلا الفريقين هوامش أعلى من الأرباح وتمنحهما فرصة منافسة تعد هي الأفضل في السوق.

وتقتصر مشروعات الطاقة المستدامة حاليا على المنشآت كبيرة الحجم لأن هوامش التوفير تكون كبيرة مما يجعل الاستثمار مجديا. وتلجأ بعض المجمعات الأوروبية، مثل مجمع «باير»، إلى الاستفادة من المصادر الحرارية الجوفية عن طريق حفر لمسافات عميقة وتوصيل أنابيب ومضخات إلى مصادر الحرارة الجوفية المستقرة التي قد توفرها طبقات من الماء. وتحافظ هذه المصادر الجوفية على درجة حرارة مستقرة طوال فترات العام مما يجعلها مصادر مفيدة للمنشآت، خصوصا في فصول الشتاء الباردة. وتتكلف عملية الحفر وتركيب المضخات نحو 150 ألف يورو، وهي نسبة جيدة للمباني الكبيرة التي لا تقل قيمتها عن 12 مليون يورو. ويساهم هذا الاستثمار في رفع درجة كفاءة المبنى لأن تكاليف توليد الحرارة للتدفئة بهذا الأسلوب لا تزيد عن ربع تكاليف التدفئة بالوسائل التقليدية.

من التجارب الأخرى الناجحة مشروع تحويل برجي البنك الألماني «دويتشه بنك» في فرانكفورت إلى أبراج عالية الكفاءة في استخدام الطاقة، وتغيير اسمها إلى «الأبراج الخضراء». وكان الهدف هو تخفيض استهلاك الطاقة بنسبة 89 في المائة. ولجأ البنك إلى الكثير من الوسائل من تسخين وتبريد الأرضيات إلى استخدام الطاقة الشمسية في تسخين المياه للتدفئة في المبنى. وكانت إحدى الفوائد غير المتوقعة أن كل تجهيزات الطاقة القديمة داخل المبنى تم التخلص منها، مما أتاح مساحة مكاتب إضافية قدرها 850 مترا مربعا.

ويشير خبير طاقة مستدامة بريطاني إلى أن من الأسهل أن تتضمن المنشآت الجديدة وسائل توفير الطاقة فيها أثناء عمليات البناء والتجهيز عنها في المنشآت القديمة التي يتم تركيب هذه التجهيزات فيها بعد اكتمالها. وهناك الكثير من الوسائل والطرق التي يمكن بها تحسين وسائل استهلاك الطاقة في المنشآت، وهي تأتي في صيغة متكاملة بعد إجراء دراسة على المبنى من جميع النواحي.

وإذا كان المبنى يتمتع بسقف مسطح أو مائل ولا تحجب عنه منشآت أخرى أشعة الشمس المباشرة يكون توليد الطاقة باستخدام الألواح الشمسية هو الحل الأسهل. وتحول الألواح الشمسية الطاقة الحرارية والضوئية إلى طاقة كهربائية. وفي مواقع أخرى يمكن استكمال عمليات البحث عن مصادر حرارية جوفية أثناء إرساء أساسات المباني الجديدة بأعمدة الإسمنت المسلح التي تخدم في هذه الحالة غرضين هما دعم المبنى من ناحية وتوصيل الحرارة الجوفية إليه من ناحية أخرى. وتعد التكاليف الإضافية في هذه الحالة هامشية. وتبدو الطاقة الجوفية وسيلة مأمونة في الحصول على الطاقة الحرارية، إلا في حالات نادرة، نتج عنها بعض التشققات في أساسات المباني التي تعتمد على هذا النوع من الطاقة. ولكن دراسة تربة الموقع قبل الشروع في الحفر تجعل المهمة مضمونة في أغلب الحالات.

وفي أحد المشروعات البريطانية يستهلك مجمع سوبر ماركت من الطاقة نصف ما تستهلكه المجمعات المماثلة، وذلك عن طريق استغلال الكثير من مصادر الطاقة الشمسية والحرارية الجوفية واستعادة الحرارة من أبراج التبريد واستخدام مصابيح موفرة للطاقة. ومع ذلك فالمشروع ليس جديدا وإنما بني في عام 1984 وأدخلت عليه أفكار توفير الطاقة في العام الحالي.

وفي مشروع آخر لشركة «غازيلي» البريطانية للتطوير العقار والخدمات اللوجسيتية بنت الشركة مركزا للخدمات في شمال إنجلترا يغطي كل تكاليف الطاقة فيه من مصادر مستدامة. وتشمل هذه الوسائل خلايا شمسية على سطح المركز، ونقطة توليد طاقة من النفايات. ويوفر المشروع الذي تبلغ مساحته 35 ألف متر مربع نحو 300 ألف إسترليني سنويا. وفي مشروع لشركة المياه السويسرية قدرت التكاليف الإضافية لمصادر الطاقة البديلة بنحو خمسة في المائة إضافية، ولكن هذه التكلفة في المبنى الذي استكمل في عام 2006 سوف تغطى بالكامل من توفير تكاليف الوقود خلال فترة 13 عاما.

ومن القضايا التي تطرح للمناقشة الآن كيفية التعامل مع منشآت تقام لأغراض التأجير العقاري، حيث يتحمل المستثمر تكاليف إضافية بينما يستفيد المستأجر من تكاليف الوقود المنخفضة. والحل المطروح هو الاتفاق على زيادة هامشية في الإيجارات تعوض المستثمر عن التكاليف الإضافية. ولكن درجة الوعي بهذه القضية لم يتبلور بعد لدى المستأجرين.

ومن الصعوبات التي تواجه حساب نسبة توفير تكلفة الوقود في المنشآت الحديثة أن أسعار الوقود العضوي تتغير على نحو يومي. ولكن الفوائد واضحة وتضيف إلى قيمة العقارات الجديدة التي تكتسب تقنيات جديدة على نحو دوري. وتصل درجة الكفاءة الآن إلى التحول نحو مرحلة تولد فيها العقارات الجديدة من الطاقة أكثر مما تستهلك. ولذلك فهي تعمل وكأنها محطات طاقة مصغرة.

ويشرح الاقتصادي الأميركي جيريمي ريفكند نظرية جديدة يسميها «الثورة الصناعية الثالثة» بأنها تعتمد على إنتاج عناصر الاقتصاد من منشآت وشركات ومصانع ومنازل طاقتها بنفسها، ثم يتم تبادل الطاقة وفق الحاجة إليها مع تبادل المنافع الناتجة عن بيع الطاقة. وهو يعتقد أنه في خلال 25 عاما سوف تنتج ملايين العقارات طاقة تماثل ما تنتجه محطات الطاقة العملاقة الآن.

وما يبدو على أنه ضرب من الخيال يتحقق الآن على نطاق ضيق، فقد نجح طلبة في جامعة درمشتاد الألمانية بناء نماذج لمنازل «الطاقة الفائضة» التي تنتج من الطاقة أكثر مما تستهلك. وتبني عدة شركات ألمانية، من بينها شركة «فولكس فاغن» للسيارات، نماذج تعتمد على مصادر طاقة بديلة غير مركزية توفرها نقاط محلية في المواقع التي توجد فيها المصانع. وتعتمد الفكرة على وجود فوائض طاقة في الشبكات المحلية من البيوت والمنشآت التي تنتج أكثر مما تحتاج إليه من الطاقة وتبث الفائض إلى الشبكة العمومية مرة أخرى.

وتعتمد هذه المنشآت على مجموعة حلول منها شبكات ألواح الطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية. ونظريا، يمكن توفير طاقة كهربائية كافية للمدن من دون الاعتماد على الوقود الكربوني. ولكن حتى تتحول هذه الرؤية إلى حقيقة لا بد من تغيير الشبكات الكهربائية إلى ما يسمى «الشبكات الذكية»، وهي فكرة يعمل عليها عدد من علماء تخطيط المدن في الغرب في الوقت الحاضر. وتركز الدراسات على استهلاك الكهرباء أثناء فترات توليدها، أي في حالات الشمس الساطعة أو الرياح القوية، مع إمكانية تخزينها للاستهلاك في الأوقات الأخرى أيضا. وتجذب فكرة تخزين الطاقة الكثير من الأبحاث في الوقت الراهن.

وتدخل في عمليات بناء المنشآت التجارية الآن مواد جديدة يمكنها اختزان الطاقة الحرارية (أو البرودة) لعدة ساعات للاستفادة منها في عمليات التكييف سواء بالتدفئة أو التسخين. ولكن كل منشآت المستقبل يتم التخطيط لها على أساس أنها تعمل في عالم لا يعتمد على الطاقة الكربونية.

ويتم تطوير تعاقدات إيجارية في الوقت الحاضر تسمى «التعاقدات الخضراء» التي يتعهد فيها أصحاب العقارات والمستأجرون بالتعاون من أجل التحول إلى مصادر طاقة متجددة من شأنها إفادة الطرفين. كما بدأت بعض الحكومات الأوروبية في تطوير درجات كفاءة للعقارات التجارية تعتمد على بث الكربون منها، على غرار تصنيف السيارات وفقا لنسبة عادم الكربون المنبعثة منها.

ومن أفضل النماذج المتاحة حاليا مبنى شركة المياه الألمانية في مدينة غليسنكرشن، الذي يتم تغطية ثلثي تكاليف الطاقة فيه عن طريق موارد الطاقة المتجددة. وكان المبنى قد تم تشييده في عام 2004 على مساحة 7100 متر مربع. ويوجد حاليا نظام لمتابعة استهلاك الطاقة في العقارات الصناعية، تأسس منذ عام 2006، وهو يشير إلى أن التوفير الذي تحقق في تكاليف الطاقة في عام 2008 بلغ نسبة 54 في المائة من الإجمالي. وبالمقارنة بالمباني العادية التي تستهلك طاقة كربونية، وتنفق 150 ألف يورو سنويا على الطاقة، فإن المباني التي تعتمد على طاقة متجددة لا تزيد تكاليف طاقتها السنوية عن 80 ألف يورو.

وتتفاوت الدول الأوروبية في درجة كفاءة استخدام الطاقة المتجددة، ورغم الأبحاث المكثفة التي تجري في دول مثل ألمانيا وبريطانيا، فإنهما لا تقعان في مقدمة الدول المتفوقة في استخدام الطاقة المتجددة. وتشير إحصاءات الطاقة الأوروبية إلى أن النمسا هي أكثر الدول تقدما في استهلاك الطاقة البديلة حيث بلغت نسبة استخدامها في عام 2010 نحو 78 في المائة من جملة الاستهلاك. وتأتي إسبانيا في المركز الثاني بنسبة 29 في المائة، ثم إيطاليا بنسبة 21 في المائة، وأخيرا ألمانيا بنسبة 12.5 في المائة، فبريطانيا بنسبة 10 في المائة، والمجر بنسبة 3.6 في المائة.

ولا يعرقل التحول القوي نحو الاستثمار في تحسين استهلاك الطاقة في عقارات أوروبا سوى الأزمة الاقتصادية الحالية الناجمة عن تراكم الديون الأوروبية، وانهيار قيمة قطاعات عقارية كاملة في دول جنوب أوروبا. ومن شأن هذا الوضع الاقتصادي الصعب أن يستمر لعدة سنوات أخرى. ويرى البعض أن الحل الوحيد للتحول نحو الطاقة المتجددة بشكل ممنهج هو أن تفرض المفوضية الأوروبية شروطا صارمة على العقارات الجديدة، بحيث يتحتم عليها توليد نسبة معينة من الطاقة اللازمة لها من الموارد المتجددة. وتوجد حاليا الهيكلية القانونية لتطبيق مثل هذا القانون، ولكن مع ترك تحديد نسب الطاقة المتجددة لكي تحددها كل دولة على حدة وفقا لظروفها.