لا مكان للموظفين والفقراء لتملك مساكن في كردستان العراق

سعر المتر المربع في بعض أحياء أربيل أعلى من كاليفورنيا

جانب من مدينة السليمانية
TT

أضاع سردار محمد، صاحب محل تجاري بوسط مدينة أربيل، فرصتين كانتا ستجعلان منه ثريا، الأولى عندما تجمع بيده مبلغ محترم من المال يكفي لشراء دارين سكنيتين بأحد أحياء مركز مدينة أربيل منتصف التسعينات، لكنه آثر المضاربة في سوق العملات، فخسر جزءا كبيرا من هذا المال جراء اضطرابات السوق. والمرة الثانية عندما عرض عليه سعر خيالي لشراء محله الصغير (دكان واحد) يقع بالمنطقة التجارية المزدحمة المعروفة بأسواق «حنان» وسط مدينة أربيل فرفض بيعه، حتى استملكته الحكومة أخيرا لتحويل ذلك السوق إلى متنزه يعرف اليوم ببارك المدينة المحيط بالقلعة، وعوضته بقطعة أرض لا يساوي ثمنها اليوم خمسة آلاف دولار.

في المقابل، كان السعد من نصيب صديقه جلال قادر الذي كان مقيما بالنرويج، فجمع مبلغا من المال هناك وجاء إلى أربيل قبل سقوط النظام السابق واشترى له أربع دور سكنية بأحياء مختلفة من المدينة بسعر لا يتجاوز مائة ألف دولار، واليوم يساوي ثمن الدور الأربع ما يقرب من ثمانمائة ألف دولار.. الدنيا حظوظ كما يقال.

وفي الوقت الذي يحتفل فيه جلال بوصول دخله إلى عتبة المليون دولار، يندب سردار حظه العاثر وما زال يحلم بامتلاك بيت سكني له، ويبدو أن حلمه بات عصيا على التحقيق براتبه الحالي كموظف بالحكومة. فبحسبة بسيطة خرجنا بها مع صديق، فإن الموظف الشاب المعين حديثا وغالبا ما يكون براتب لا يتجاوز 300 دولار، لو ادخر كامل راتبه من دون أن يصرف منه دولارا واحدا لمدة عشر سنوات فلن يستطيع تدبير المبلغ الكافي لشراء وحدة سكنية له. وهذه مشكلة كبيرة ومزمنة في العراق الذي يعوم فوق بحيرة من النفط، والملايين من أبنائه محرومون من امتلاك وحدة سكنية خاصة بهم.

كان الأمر هينا لفترة من الوقت وتحديدا خلال نهاية التسعينات وبداية الألفية التي كانت أسعار العقارات فيها مستقرة إلى حد ما، لكن مع سقوط النظام السابق وحين تحسنت الظروف المعيشية لمعظم الطبقات، وما رافق ذلك من انفتاح كامل على التجارة الحرة وفتح الحدود أمام تدفق الاستثمارات، فإن الأسعار التهبت إلى درجة الحريق الشامل كما يصف ذلك المواطن عبد الرحمن علي الذي أكد لـ«الشرق الأوسط» أن أي دار أو قطعة أرض سكنية تطل على أي شارع من شوارع المدينة الرئيسية (منها الشارع الثلاثيني أو الأربعيني أو الستيني أو المئوي) يباع المتر المربع الواحد منها بحدود 3 - 4 آلاف دولار. وقال «كل هذه الدور وقطع الأراضي تعتبر تجارية ولذلك هذا هو سعرها». بل إنه لفت نظرنا بالقول «إن شارع سيطاقان المعروف بانتشار محلات بيع المواد الكهربائية فيه يباع المتر المربع الواحد هناك بـ9 - 10 آلاف دولار». وكان عبد الرحمن يرد بذلك على تساؤل «الشرق الأوسط» عن أسباب استئجاره لـ3 دكاكين بمساحة تقدر بـ50 مترا مربعا لفتح معرض للأجهزة الكهربائية التي يتعامل بها وبمبلغ 5 خمسة آلاف دولار شهريا، بدلا من شراء دار سكنية له وتحويلها إلى معرض.

والجدير بالذكر أن حي سيطاقان الذي يتحدث عنه علي كان يعتبر منطقة شعبية متخلفة جدا، ويربأ الكثيرون من سكان المدينة بأنفسهم عن السكن فيها، وما زالت دورها السكنية مبنية على الطراز القديم، لكن الشارع الرئيسي الذي يخترق ذلك الحي شهد إقبالا كبيرا بسبب انتشار محلات بيع المواد والأجهزة الكهربائية فيه.

وقبل فترة خرجت صحيفة محلية بتحقيق صحافي حول أسعار العقارات ببلدة كلار الكردية التابعة لمحافظة السليمانية، وهي كانت بالأساس ناحية صغيرة تحولت مؤخرا إلى قضاء تابع للسليمانية. وأشار ذلك التحقيق إلى أن سعر قطعة أرض سكنية بذلك القضاء لا تتجاوز مساحتها 300 متر مربع وصل لمبلغ 180 ألف دولار. وأشار التحقيق إلى أن سعر 300 متر مربع من الأرض في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة لا يتجاوز ثلاثين ألف دولار.

وبسؤال حسين محمد، وهو صاحب مكتب للعقارات بحي أربيل الجديدة، عن أسباب هذا الارتفاع الجنوني بأسعار العقارات أجاب «لسنا مسؤولين عن ذلك، السوق مضطربة أساسا، والسبب الرئيسي هو قرارات الحكومة». وأوضح «قبل سنوات كانت الأسعار مستقرة إلى حد ما، وبعد صدور قرار من الحكومة بصرف القروض العقارية نزلت الأسعار، ولكن بعد أن بدأت الحكومة تصرف تلك القروض مع فرض الفائدة عليها، امتنع المواطنون عن تسلمها باعتبارها غير شرعية، وارتفعت الأسعار مرة أخرى. وحين نجح بعض علماء الدين في إقناع البرلمان والحكومة بإلغاء الفائدة عادت الأسعار إلى النزول مرة أخرى. ومع ازدحام المعاملات وتأخر صرف القروض ارتفعت الأسعار مجددا، وهكذا ترى أن كل قرارات الحكومة تؤثر على أسعار السوق».

ويرى لقمان، وهو صاحب مكتب عقارات في أربيل أيضا، أن تلكؤ الحكومة في إنجاز مشاريع الإسكان هو أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار العقارات، ويقول «الحكومة هنا في كردستان لا تهتم بمشاريع الإسكان كما يجب، بين كل خمس سنوات تبني مشروعا واحدا سكنيا، وفي ظل تزايد الطلب فإن تلك المشروعات تعتبر كقطرة في بحر الطلب، ولذلك فإن تلكؤ الحكومة عن تنفيذ مشاريع الإسكان سيؤثر على أسعار العقارات لأن الطلب مرتفع». وأشار إلى عامل آخر يسهم في رفع أسعار العقارات وهو تدفق الأموال بيد بعض المواطنين الذين يستثمرونها في شراء العقارات، فيشترون أراضي ودورا ثم يبيعونها بالأسعار التي يريدونها، فهذه تجارة مربحة ومريحة أيضا، لا تحتاج إلى كثير من الخبرة ما دام الشخص قادرا على الشراء والبيع.

من جانبه، يقول هيدي محمد، موظف شاب تعين حديثا «أنا تعينت أصلا بسبب تشجيع زوجتي لي بالانخراط بالعمل الحكومي، وكانت تردد دائما على مسامعي اترك العمل الحر وتعين، عسى أن نحصل على قطعة أرض من الحكومة نبني عليها دارا في المستقبل».

ورغم أن مدن أربيل والسليمانية ودهوك قد توسعت في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، فإن هناك بطئا شديدا في توزيع قطع الأراضي السكنية، حتى إن موظفا قال «لم تعد هناك قطع أراض يمكن للحكومة أن توزعها على موظفيها، فأصبحنا نحن طبقة الموظفين، المعذبين في الأرض، فلا رواتبنا تكفي لسد إيجارات السكن، ولا الحكومة تتكرم علينا بتخصيص قطع أراض لنبني عليها ولو غرفة واحدة تجمع شمل عوائلنا».