قصور إيطاليا الفريدة في معمارها تجذب مستثمرين فريدين

على رأسها قصور البندقية

قصر غريتي في البندقية الى يسار الصورة («الشرق الاوسط»)
TT

يبدو أن قصور إيطاليا، الشهيرة بروعة معمارها وتاريخها الطويل، أصبحت سوقاً لمستثمري العقارات غير التقليديين. ومع مرور السنين، بل القرون، أصبح بعض هذه القصور والمباني التاريخية في حاجة إلى «عمليات تجميل» تعيد لها شبابها. ومن بين هذه القصور قصر «تناغلي» الذي يعود تاريخه للقرن السابع عشر، وهو معروض الآن للبيع بـ 9 ملايين دولار. ويقول ديفيد غوتشيني، ابن مالك القصر الحالي، إن لهذا القصر تاريخا طويل، فقد شهد مؤامرات واغتيالات فضلاً عن الزوار المشاهير مثل بابا الفاتيكان وعدد من أشهر الأسر الاقطاعية عبر التاريخ. وأضاف إن أول ملاّك القصر في القرن السابع عشر هم أسرة «باتشي» التي حكمت إقليم «أورفيتو» منذ القرن السادس عشر من قلعتها الشهيرة باسم «كارنانو». وبعد مذبحة وقعت في عام 1553 بين فرعين متصارعين داخل الأسرة قرر بابا الفاتيكان مصادرة القلعة، الأمر الذي دفع بالأسرة إلى شراء قصر «تناغلي» في نفس العام، وعاشت فيه لأكثر من 75 عاماً حين اُجبرت على بيعه في عام 1630 لسداد ديون كثيرة تراكمت عليها. لكن الأسرة ذاتها أعادت شراء القصر في عام 1664 بعد أن تحسن وضعها المالي، واحتفظت به منذ ذلك الوقت وحتى عام 1957 عندما قضى شتاءٌ بارد على محصول الزيتون في إيطاليا ووقعت الأسرة مرة أخرى فريسة للإفلاس.

وكان المشتري الجديد هو رئيس نادي «روما» لكرة القدم الذي كان يرغب في تحويله إلى منتجع للاعبين بحيث يبتعدون عن اغراءات المدن الكبيرة وحياتها الليلية. لكن المشتري الجديد أيضاً أفلس فباع القصر لرجل ثري من مدينة «فيتيربو». وبعد فترة قصيرة قررت زوجة الثري وأبناؤه أنهم لا يحبون هذا القصر فباعوه في عام 1986 لوالد ديفيد غوتشيني الذي كان طياراً في القوات الجوية الإيطالية. وأوضح غوتشيني أن القصر كان في حالة يرثى له إذ تعرض لإهمال بشع على مدى سنوات عديدة، وحتى المرة الوحيدة التي خضع فيها لقليل من الصيانة لم تراع هذه الصيانة الملامح التاريخية للقصر، فشوهته بدلاً من أن تجمّله. وأضاف أن والده أنفق الكثير من المال على مدى عشرين سنة ليعيد القصر إلى سابق عهده. وفي بعض الأحيان كان يحضر خبراء لتركيب دهان الحائط من نفس المواد الطبيعية التي كانت مستخدمة قبل 3 قرون.

ويشتمل القصر، المكوّن من ثلاثة طوابق، على تسع غرف نوم وتسعة حمامات ملحقة بكل غرفة وثلاث غرف جلوس وسبعة صالونات بالاضافة إلى حديقة مساحتها 2000 متر مربع وحقول تحيط بالقصر وتتبع له تبلغ مساحتها 7.4 فدان. وبعد أن مات رب الأسرة العام الماضي قررت أرملته العيش في العاصمة الإسبانية مدريد مع أحد ابنائها، لذا فقد عُرض القصر للبيع. ويقول روجر كومبيز، من وكالة «بيروجيا» العقارية إن مشتري هذا القصر «يجب أن يكون أكثر من مجرد شخص ثري. فهو لا بد أن يقدر معالم وملامح القصر التاريخية ويحافظ عليها». من جهة أخرى شرعت بلدية مدينة البندقية الايطالية في بيع 13 قصراً وفيلا من مبانيها التاريخية في مزادات علنية تأمل الحكومة في أن توفر لها أكثر من 175 مليون دولار. وتأتي هذه المزادات ضمن حملة واسعة تقوم بها السلطات الايطالية للاستفادة من تاريخ ايطاليا العريق الذي يعود الى العهد الروماني. ومن بين المباني المعروضة للبيع قصر «بونفاديني» الشهير بلوحاته الكلاسيكية على أسقف الغرف والقاعات، وفيلا «فوسكاري كونتاريني» التي تطل على القناة الكبرى بالقرب من جسر «ريالتو». وغالبية القصور والفيلات الـ 13 تقع في مناطق شهيرة يزداد عليها اقبال المستثمرين الاثرياء، مثل منطقة «ليدو» وجزيرة «مورانو». وقد اشتهرت إيطاليا بقصورها العريقة ومبانيها التاريخية، لكن كثيرا من هذه القصور تحولت في العصر الحديث الى فنادق فاخرة. وقد يكون هذا هو الحال في مدينة البندقية أكثر من بقية مدن إيطاليا. فمثلا قصر «غريتي» الذي بُني في عام 1515 كمقر لحاكم المدينة تحول فيما بعد الى سكن لسفراء الفاتيكان، ثم أصبح الآن أحد أفخر الفنادق في «فينيسيا» حيث يزوره أعضاء الأسر المالكة ومشاهير هوليوود. وقد وصفه الروائي الأميركي الشهير أرنيست هيمنغواي بأنه أفضل فندق في أفضل مدينة للفنادق. وتعود قصور الحكام في مدينة البندقية الى القرن التاسع الميلادي، واستمرت في الازدهار حتى انهيار جمهورية «فينيسيا» في عام 1797. لكن المدينة اشتهرت عبر العصور بالفنادق والقصور منذ القدم بحيث أصبح أحياناً يصعب تحديد ما اذا كانت كلمة قصر تعني فندقاً أم قصراً حقيقياً. وأفضل مثال على ذلك هو قصر «لوندرا» الذي يقرب من ساحة «سانت ماركو»، إذ شُيد هذا القصر في عام 1860 كفندق وليس كقصر رغم أنه يُطلق عليه هذا الاسم، ربما لأنه يشبه القصور في استخدامه للرخام الأبيض الذي تشتهر به إيطاليا. وفي المقابل فهناك قصر «كابيساني» الذي شُيد في القرن الثالث عشر (قبل أن تظهر فكرة الفنادق) ثم تحول إلى أحد أفخر الفنادق في المدينة. غير أن كثيراً من سكان المدينة يعارضون بيع القصور لسببين: الأول أنه سينقل ملكية هذه المباني من أيدي الدولة الى القطاع الخاص الذي غالباً ما سيحوّلها الى فنادق بدلاً من قصور ـ والثاني، أن زيادة الفنادق حتما ستزيد عدد السياح الذين، اصلا، تعج بهم المدينة. وقد عبرت إحدى الصحف المحلية عن غضبها بقولها إن بيع هذه القصور أشبه بالمرأة التي تبيع حُليها. وأضافت الصحيفة إن مدينة البندقية ليست للسياح فقط، فعلينا أن نتذكر أن هناك مواطنين يعيشون فيها منذ قرون، وأنهم يفضلون الاحتفاظ بنوع من الحياة الطبيعية بما في ذلك الاعتزاز بمعمارهم الجميل ومبانيهم التاريخية. لكن المسؤولين الحكوميين يشيرون من جانبهم الى أن السياحة في واقع الأمر توفر مصدر عمل ودخلاً أساسياً لكثيرين من سكان المدينة العريقة. ويؤكد أعضاء الحكومة المحلية، ذات الاتجاه اليساري، أن هذه الأموال ضرورية لتفادي الوقوع في الافلاس. كما أنهم يشيرون الى أن القصور والفيلات المشار إليها غير مستغلة بالشكل السليم لأنها تُستخدم حالياً كمكاتب حكومية، بل إن أحد أرقى هذه القصور يُستخدم كمركز للشرطة. غير أن المعارضين يفضلون أن تنفق الحكومة – في حال بيع القصور فعلا ـ دخل المبيعات على إنشاء مشاريع محلية تستطيع توفير العمالة للسكان لتقليل الاعتماد على السياحة. لكنهم يعتقدون أن الحكومة تسعى الى الربح السريع من السياحة عبر تحويل القصور الى فنادق.

من جهة أخرى فإن المدينة العائمة تتعرض لخطر الغرق ببطء بسبب ارتفاع مستويات المياه في البحر الادرياتي، كما أنها تعاني منذ فترة من ارتفاع في عدد الفيضانات، الأمر الذي اصبح يقلق المستثمرين العقاريين. وعلى سبيل المثال، فإن مياه الفيضانات تغمر ميدان «سانت مارك» أكثر من 50 مرة كل عام، كما أن ارتفاع مستوى البحر الادرياتي يهدد بأن يغمر أجزاء كبيرة من المدينة خلال العشرين عاما المقبلة، اذا لم تفعل السلطات شيئا لوقف ارتفاع المياه. وكادت هذه المشكلة تهدد الاستثمارات العقارية في المدينة حتى شرعت الحكومة الايطالية أخيراً في بناء مشروع ضخم أطلقت عليه اسم «موسى» وتبلغ تكلفته 5 مليارات دولار، وهو عبارة عن إنشاء 80 سداً أو حاجزاً حديدياً في قاع البحر عند مدخل كل قناة مائية الى المدينة بهدف التحكم في حركة المد والجزر، وحجز الأمواج العالية من الدخول الى شوارع المدينة المائية. وبهذه الطريقة يصبح ارتفاع المياه ثابتاً أو يتحكم فيه الإنسان تماما مثلما هو الحال في السدود العادية. وبالفعل فقد أنفقت الحكومة حتى الآن أكثر من 1.1 مليار دولار على هذا المشروع الذي يُتوقع أن ينتهي في عام 2010، ومن ثم يعطي دفعة قوية للاستثمارات العقارية، خصوصاً الفنادق نظرا الى أعداد السياح الكبيرة التي تزور المدينة طوال العام.