كارثة الرهن العقاري غيرت ملامح عالم العقار

من مناخ متفائل ونشاط بناء الى ساحة من الذعر

العقار الجيد يحافظ على قيمته في اوقات انهيار الأسعار («الشرق الاوسط»)
TT

تغيرت معادلة العقار في العالم من مناخ متفائل يبحث عن مناطق جديدة لجني الارباح وتمويل سهل لمن يريد الاستثمار ونشاط بناء يجري على قدم وساق لتلبية الطلب المتزايد، الى ساحة من الذعر بعد سقوط صندوقي تمويل عقاري في الولايات المتحدة وانقشاع السحب عن مدى تورط العديد من البنوك الاميركية والاوروبية في ازمة تمويل رديء لم يعرف احد ابعادها. واعترف مدير بنك «نورثرن روك» البريطاني الذي كاد ينهار ان ذلك اليوم الذي غير عالم العقار والتمويل كان يوم 9 أغسطس (آب) الماضي الذي جفت فيه منابع التمويل المصرفي تماما.

في ذلك اليوم اعلن بنك باريبا الفرنسي، الذي سبق واكد ان درجة تعرضه للخسائر في سوق التمويل الاميركي عالي المخاطر Sub-Prime طفيفة، انه بصدد وقف عدة صناديق استثمارية بسبب تورطها في خسائر جسيمة. واضطر البنك المركزي الأوروبي الى ضخ 95 مليار يورو الى النظام المالي وأكد انه يتحمل كافة الالتزامات الائتمانية للبنوك في منطقة اليورو. وتبعه الاحتياطي الفيدرالي بضخ 24 مليار دولار الى الاسواق المالية الاميركية. وبدلا من تعزيز الاطمئنان في الاسواق المالية، ساد الذعر في البورصات من هذه الخطوات غير المسبوقة التي اشارت في حد ذاتها الى حجم المشكلة.

وفي اليوم التالي انهار مؤشر فاينانشيال تايمز لاكبر مائة شركة وسجل اكبر خسارة في اربع سنوات حجمها 63 مليار استرليني من قيمة الاسهم في غضون عدة ساعات. لكن تراجع البورصات لم يكن أسوأ ما حدث، بل مقدمة لما سوف يحدث. والحقيقة ان التطورات السلبية ظلت تتراكم خلال الاسابيع التي سبقت يوم الانهيار ولكن تحت مسميات اخرى، مثل اعلان شركة استرالية اغلاق صندوقين عقاريين بسبب «خسائر متعلقة بعدم توازن العرض والطلب». ولكن بعد اغسطس (آب) لم يكن في استطاعة احد ان ينكر حجم ازمة الرهن العقاري التي كان احد اوجهها ان واحدا من سبعة مقترضين في القطاع كان متأخرا في دفع اقساط عقارية لاكثر من شهرين.

وتشير بعض مصادر السوق ان شركات استثمارية عدوانية، من امثال «كي كي آر» وتكساس باسيفيك، كانت تشتري الشركات الرابحة قصرا بتمويل هائل – وسهل - من البنوك، ثم تعيد بيعها او تفككها وتبيعها لقطاعات مختلفة محققة أرباحا خيالية. وسجلت هذه الشركات في عام 2006 رقما قياسيا من الاقتراض بلغ 500 مليار دولار. واستمرت على المنوال نفسه خلال العام الماضي، وسجلت في النصف الاول بعض العمليات القياسية بشراء شركة طاقة بمبلغ وصل الى 44 مليار دولار معظمها بالاقتراض، ثم اشترت أيضا شركة اتصالات كندية بمبلغ 49 مليار دولار.

وفي بريطانيا كان السيناريو نفسه يتكرر بمخططات لشراء شركة سينزبري للسوبر ماركت واي إم إي. كما اختفت شركة إي سي إي الصناعية من مؤشر البورصة بعد ان اشترتها شركة هولندية. ولكن مع تراجع أسعار الأسهم تراكمت الخسائر على الشركات المشترية بسبب تراجع قيمة ما اشترته أحيانا بأكثر من النصف، مع بقاء التزامات القروض كما هي. احدى الصفقات الصغيرة كانت لشراء 40 في المائة من شركة عقارية بريطانية بمبلغ 900 مليون استرليني، لكن بعد عدة اسابيع تراجعت قيمة الاسهم واصبحت قيمة الشركة بالكامل حوالي 700 مليون استرليني.

أسواق العقار: وفي أسواق العقار بدأ التفكير، وللمرة الأولى منذ بداية التسعينات، في الحقيقة المرة أن قيمة العقارات غدا قد تكون اقل مما هي عليه اليوم، وهو ما لم يكن واردا حتى صيف العام الماضي. ويذهب البعض الى توقع ان فترة عودة العقار الى معدلاته الحالية بعد موجة التصحيح المقبلة قد يستغرق 12 عاما. وقد تكون هذه مبالغة لو انها ليست صادرة من شركة محاسبة خبيرة بحجم برايس ووترهاوس كوبرز.

والازمة العقارية كما تراها شركة المحاسبة العالمية ليست في تراجع أسعار العقار الآن وإنما في موجة ارتفاعها خلال العقد الأخير، بنسبة 190 في المائة في بعض الاسواق. وفي بريطانيا مثلا كان متوسط سعر العقار حوالي 62 الف استرليني في عام 1996، بينما يبلغ الآن 186 الف استرليني. وبالتأكيد لم تتطور الاجور بالنسبة نفسها الأمر الذي كسر القاعدة التاريخية بين متوسط سعر العقار ومتوسط معدل الاجور، وكان هذا المتوسط يصل في الماضي الى خمسة اضعاف الاجر السنوي، بينما هو الآن يزيد على تسعة اضعاف الاجر السنوي، وهو مستوى لم يصله العقار تاريخيا من قبل.

ولكن ما جعل المعدل المتضخم الحالي لأسعار العقار محتملا هو انخفاض أسعار الفائدة ومعدلات التضخم تاريخيا ايضا. واتاحت المعدلات المنخفضة فرصة الاقتراض بمبالغ كبيرة مع دفع اقساط شهرية ممكنة بالاجور الحالية. ولكن هذا الوضع يضع المقترض في وضع حرج، وهذا هو احد جوانب ازمة الرهن العقاري. فأي ارتفاع، ولو طفيف، في اسعار الفائدة ينتج عنه عجز المقترض لمبالغ عالية عن سداد اقساط قروضه. كما ان حجم القروض لا يتراجع بسرعة مع مرور الوقت كما كان الحال ايام التضخم المرتفع، فالقروض المرتفعة تبقى مرتفعة في اعبائها لفترات طويلة. وما زالت بعض اوساط السوق تقول ان موجة التصحيح الحالية قد تتبلور الى انهيار، وان علامات مثل هذا الانهيار بدأت بأزمة الرهن العقاري الاميركية. فمع تراجع اسعار العقار وبقاء القروض على حالها، تصل السوق بعد ذلك الى مرحلة «القيمة السلبية» للعقار. وفي هذه المرحلة يفوق حجم القرض قيمة العقار نفسه، فيكون الاستثمار العقاري في هذه الحالة عملية اقتصادية خاسرة تماما لانها تعتمد على اصول متراجعة القيمة. وتتعرض البنوك لمخاطر من نوع آخر، حيث تتزايد الديون الرديئة عليها وتتراجع ملاءة اصولها لان قروضها تكون مكشوفة بلا ضمانات كافية.

فعند إعادة احد المقترضين عقاره الى البنك للتخلص من أعبائه، يخسر البنك هوامش كبيرة لدى بيع العقار في المزاد لاستعادة اصل القرض عليه.

وتقول تقارير أخرى أيضا ان نسبة المتأخرين عن سداد الأقساط العقاري في أوروبا هي الأعلى حاليا منذ بداية التسعينات. وتصاحب ذلك إحصاءات تشير إلى وجود عدد قياسي من المفلسين رسميا للتخلص من ديونهم المتراكمة سواء كانت عقارية أو لشركات ائتمان.

ومن ناحية التمويل العقاري، لم تعد اسعار الفائدة الاساسية هي معيار السوق في تكاليف الاقراض، فالبنوك تضع حاليا شروطها التي قد تتضمن تكاليف باهظة على الشرائح الاقل ملاءة. وتضيف البنوك ما يسمى تكلفة «تدبير القرض» وكانت في الماضي تكلفة رمزية، اما الآن فتصل الى عدة آلاف من الدولارات.

كما تشترط البنوك نسبة إقراض قصوى لا تزيد على 80 في المائة من قيمة العقار، خوفا من تراجع أسعار العقار إلى «قيمة سلبية».

وفي مثل هذا المناخ فإن الوسيلة الوحيدة لتجنب انهيار عقاري هو ان تعود أسعار العقارات إلى مستواها الطبيعي تدريجيا، ويعني هذا تجمد أسعار العقار لمدة عشر سنوات في المستقبل على الأقل. وفيما يرجح البعض موجة تصحيح حادة في غضون أشهر، فان الرأي السائد حتى الان هو أن تستمر معدلات العقار في الاستقرار او الارتفاع الطفيف بمعدلات اقل من التضخم لفترات طويلة. اما اذا استمرت فترات الزيادة العالية فإن هذه الزيادة من شأنها دعم احتمال الانهيار وانفجار الفقاعة. ويقول مصرفيون ان اسواق العقار تختلف عن البورصة، فموجات التصحيح في البورصة تحدث فجأة بصورة درامية وتستمر في التراجع عدة اشهر ثم تعود الى الارتفاع مرة اخرى. ولا يعرف بها المستثمر الا بعد وقوعها. اما في اسواق العقار فهي تقع على زمن اطول يمتد لسنوات وبصورة اقل درامية. وفي الماضي كان بقاء الأسعار على ما هي عليه يعتبر تراجعا لان الأسعار الأخرى ترتفع بصورة أعلى نظرا لوجود تضخم مرتفع، اما الان ومع تدني التضخم فيتعين على اسعار العقار ان تنخفض بصورة اكبر حتى يحدث التصحيح السعري المطلوب.

وسوف يختلف تأثير التصحيح السعري العقاري بين منطقة واخرى، وتعاني منه بصورة اكبر المناطق الريفية التي يتدنى فيها معدل الاجور. ويقول صندوق النقد الدولي في اخر تقرير له ان «المستهلك سوف يتحمل في نهاية الامر اي صدمات عقارية في المستقبل». وعلى المستثمر ان يضع هذه التحولات العالمية في حساباته عندما يستثمر في عقارات عربية باهظة الثمن.

* أهم مؤشرات الانهيار العقاري

* تراجع معدلات الإنجاز الاقتصادي

* هناك عدة عوامل تشير في مجملها الى وقوع الانهيار العقاري، منها:

- اسعار الفائدة: في موجات الانهيار السابقة كان الارتفاع المفاجئ في اسعار الفائدة من محفزات الانهيار. وعلى رغم ان معظم المراقبين يستبعدون ارتفاع اسعار الفائدة في الوقت الحاضر الى معدلات عالية تصل مثلا الى ثمانية او تسعة في المائة، الا ان مثل هذه النسبة يمكن ان تقع. ولان حجم القروض العقارية حاليا يفوق في المتوسط معدلات الاقتراض السابقة، فان اي تحرك صعودي في اسعار الفائدة من شأنه ان يعرض العديد من المقترضين للمتاعب.

- التوظيف: من اوضح مؤشرات السقوط العقاري تراجع معدلات التوظيف، فمن فقد وظيفته لا يستطيع في الغالب ان يفي بأقساط العقار المتراكمة عليه. وتشير احصاءات التوظيف في الوقت الحاضر الى انها بدأت تتراجع مرة اخرى بعد فترات قياسية للتوظيف في السنوات الخمس الماضية.

- الكساد في اقتصادات العالم الرئيسية: مع تيار العولمة يتأثر اي اقصاد بما يجري من حوله في اقتصادات العالم الاخرى. فالبضائع الصينية الرخيصة توفر مستويات متدنية من التضخم في الاقتصادات الغربية، ولكن اذا انخفض الطلب عليها مثلا من اقتصاد اميركي متراجع، انعكس ذلك على نمو الاقتصاد الصيني. وينعكس وضع العقار الاميركي المتدني على بقية اسواق العقار في العالم وتعاني شركات في العديد من القطاعات الاستهلاكية حاليا من تراجع في معدلات ارباحها. ومع التراجع الاقتصادي، حتى في مواقع جغرافية اخرى، يمكن لقطاعات العقار ان تتأثر سلبا.

* كيف يمكن التعامل مع الكساد العقاري؟

* عندما يجد المقترض نفسه في عالم يسوده كساد عقاري غير متوقع، عليه ان يغير من حساباته السابقة التي كانت تعتمد على معادلة بسيطة وواضحة وهي ان العقار اذا لم يرتفع فهو يستقر. فالعقار ايضا يمكن ان يسقط وان يمرض مرضا شديدا ولو الى حين. وفي فترة الانهيار العقاري على المقترض ان يحاول القيام بسداد الحد الاقصى الممكن من قرضه العقاري في اقرب فرصة ممكنة. وفي حالات الخوف من فقدان الوظيفة يمكن التأمين لسداد القروض العقارية اثناء البحث عن عمل جديد. والخطوة الاولى في كل الاحوال هي التخلص من الديون، خصوصا تلك المتعلقة ببطاقات الائتمان لانها باهظة التكاليف.

ويجب على المقترض ألا يبالغ في اقتراضه لان هذا يعرضه الى «القيمة السلبية» لعقاره ويزيد من مخاطر عدم القدرة على السداد. ويجب عدم التحرك في السوق العقاري المنهار سواء بالبيع او الشراء حتى تستقر الامور. كما يجب تجنب انواع القروض التي يدفع فيها المقترض تكاليف او فوائد القرض فقط من دون اصل القرض. فالافضل المساهمة التدريجية في خفض قيمة القرض كلما كان ذلك ممكنا. وفي حالة ظهور متاعب مالية تؤثر في القدرة على السداد يجب الاتصال فورا بالبنك لشرح الموقف ومناقشة كيفية اعادة جدولة القرض على فترات زمنية اطول. ويمكن الاستعانة ايضا بجهات استشارة قانونية واجتماعية.

وبصفة عامة كلما تم سداد نسبة اكبر من القرض العقاري، زادت فرصة الامان في الازمات، وتبدأ مرحلة الامان العقاري بعد سداد نسبة اكثر من 20 في المائة من قيمة القرض. كما يساهم اختيار الموقع الجيد للعقار في الحفاظ على قيمته من الانهيار.