ليفربول عاصمة الثقافة: استثمرت أوروبيا لرفع اقتصاد المدينة.. وفشلت عربيا

ساعدت على زيادة قيمة العقارات وتحسين المستوى المعيشي

ليفربول البريطانية تعاني حاليا من تدني قيمة العقارات وسط توقعات بمساهمة فعاليات الثقافة فيها لرفع الاسعار («الشرق الاوسط»)
TT

تنتقل شعلة الثقافة الاوروبية من مدينة الى اخرى سنويا لكي تعكس حضارة البلد الذي تقع فيه ومزايا المدينة نفسها تاريخيا وثقافيا. وعبر العقود الثلاثة الماضية تألقت مدن اوروبية كانت في الماضي رمزا للتدهور الصناعي، وتحسنت اوضاعها المعيشية وارتفعت قيمة العقار فيها. وهي فكرة مطروحة للمدن العربية لتفعيل فكرة عاصمة العرب الثقافية من مجرد تسمية رمزية لا تعني الكثير الى ابراز معالم المدن العربية وتاريخها العريق في مهرجانات سياحية تستمر طوال العام، وبمشاركة حكومات عربية وشركات من القطاع الخاص. مثل هذه المشاريع الحقيقية يمكنها ان تزيح بعض الاهمال الذي تلقاه المدن العربية في القرن الواحد والعشرين.

هذا العام انتقلت شعلة عاصمة الثقافة الاوروبية الى مدينة ليفربول البريطانية، وهي تجربة جديدة للمدينة التي خرجت منها فرقة البيتلز والتي تعاني حاليا من مشاكل الركود الصناعي وتدني قيمة العقار فيها. ولن يمكن قياس نتيجة التجربة، سواء بالنجاح أو الفشل، سوى بمقارنة ما حدث للمدينة البريطانية الاخرى التي حصلت على الشرف نفسه، وهي مدينة غلاسكو، اكبر المدن الاسكتلندية حجما، والتي كانت مدينة الثقافة الاوروبية في عام 1990. وكانت غلاسكو تشتهر تقليديا بأنها مدينة صناعية متخصصة في الصناعات الثقيلة، خصوصا صناعة بناء السفن.

ومنذ ذلك الوقت تغيرت سمعة غلاسكو تماما من مدينة تعيش اتعس ايامها بعد نهاية عصرها الصناعي الذهبي الى مدينة تجدد شبابها بأحياء سكنية حديثة على نهر كلايد بدلا من المخازن المهجورة، وحي مالي يتخصص في الاستثمارات الدولية يقع في شمال المدينة. وجذبت المدينة اليها آلاف المحترفين الشباب في كافة التخصصات بعد ان شاهدوا التحول الجذري في روح المدينة.

وكانت نقطة التحول في تاريخها الحديث اختيارها عاصمة ثقافة اوروبية وتنظيم بعض الفعاليات فيها، الامر الذي اقتضى استثمارا في بنيتها التحتية بدعم من ميزانية الاتحاد الاوروبي. وتحولت المدينة من الصناعة الى الخدمات، وأضحت عاصمة سياحية يأتي اليها زائرون من جميع انحاء اوروبا. ومع تحسن السمعة وبناء بعض المعالم السياحية منها متاحف ومسارح ومدارس موسيقية متخصصة، تحولت غلاسكو الى مدينة يزورها الآن سنويا نحو ثلاثة ملايين زائر. ويبلغ دخلها السنوي من تنظيم المؤتمرات والمعارض وحدها حوالي 150 مليون جنيه استرليني (293.3 مليون دولار).

ويعترف اساتذة اكاديميون من جامعة غلاسكو ان اختيارها عاصمة ثقافية لاوروبا قبل 18 عاما لم يكن وحده كافيا لاحداث هذا التحول الهائل في المدينة، وانما كان احد المحفزات التي دفعت مجلس المدينة الى تبني العديد من المبادرات لاحياء انشطة متعددة واعادة اكتشاف روح غلاسكو بعد سنوات من الركود. ومن المهم توضيح ان بداية النهضة في المدينة نشأت في الثمانينات. وربما كان الجهد الذي بذلته المدينة لتحسين صورتها هو سبب اختيارها لحمل اللقب في عام 1990.

وكانت البداية بحملة سياحية لتجميل سمعة المدينة اطلقت عليها بلديتها اسم «غلاسكو افضل بكثير»، ثم اعقبت ذلك بمهرجان زراعي للحدائق ثم انتزعت اللقب بعد ان لفتت اليها الانظار الاوروبية.

ورغم ان بريطانيا دخلت في مرحلة كساد في التسعينات عرقلت نمو غلاسكو وحدّت من استفادتها الفورية من لقبها الاوروبي، إلا ان الفوائد عادت اليها في السنوات العشر التالية في صورة وقف تراجعها الاقتصادي بالمقارنة مع مدن اسكتلندا الاخرى وعودة النمو الى تعدادها الذي ظل متناقصا حتى بداية التسعينات. ومنح النشاط الثقافي في المدينة الكثير من الثقة في المستقبل لسكانها وعدل الكثير منهم من خطط الهجرة الى مدن اخرى.

وكانت المدينة حتى بداية التسعينات طاردة للعمالة الماهرة والعقول الاكاديمية واصحاب الثروات الخاصة الذين هجروها الى مدن تقدم لهم فرصا افضل. وحتى الطبقة المتوسطة التي كانت تعمل في المدينة كانت تسكن في الضواحي البعيدة وتأتي الى غلاسكو للعمل فقط ثم ترحل بعد نهاية الدوام الى الضواحي والمدن المجاورة. ولكن بعد المهرجان الثقافي الذي عقد فيها عاد اهل غلاسكو للسكن مرة اخرى في وسط المدينة وارتفعت اسعار العقارات تباعا.

وكانت هذه الثقة المحلية من اهل غلاسكو اكبر تأثيرا من السمعة الخارجية في احياء المدينة مرة اخرى ورفع جاذبيتها للزوار من البريطانيين والاجانب على السواء.

وكانت غلاسكو سباقة في اكتشاف ان الثقافة يمكنها ان تنعكس ايجابيا على الحياة الاجتماعية والمكاسب المالية للمدينة. ونجحت المدينة في مزج الثقافة بجذورها الاسكتلندية لكي تسوق نفسها على انها المدينة التي تقدم اسلوب الحياة الاسكتلندي الاصيل. ويعرف الكثير من الاسكتلنديين الآن ان لغلاسكو اسلوبا خاصا بها، وبها فنانون اشتهروا في الماضي بتصميمات تقتصر عليهم مثل ماكنتوش الذي كان على قمة حركة ثورية للتصميم المعماري الداخلي في بداية القرن الماضي. عقارات غلاسكو: ومن الناحية العقارية، تقول شركات ابحاث العقار في المدينة ان هناك نحو 122 مشروعا معماريا جديدا في الطريق سيوفر للمدينة نحو 23 الف وحدة عقارية. وبسبب ارتفاع اسعار الاراضي في وسط المدينة تركز كافة المشروعات على عقارات ضخمة الحجم تتكون من اكبر عدد ممكن من الشقق ذات الغرفتين. وتعتقد بعض شركات تسويق العقار ان عدد الشقق التي بنيت حتى الآن داخل المدينة يكفي الطلب على هذا النوع من العقار وان على الشركات تنويع العقارات التي تبنيها لكي تناسب اذواقا اخرى وتلبي الطلب لمختلف احجام العائلات والافراد الذين يعيشون بمفردهم. وهناك العديد من صعوبات استكمال بعض المشروعات حاليا بسبب التحولات في اسواق التمويل وتراجع اسعار العقار وبالتالي تردد العديد من المشترين في الاقدام على قرار الشراء حاليا. ويصل متوسط ثمن العقار الجديد في غلاسكو حاليا الى حوالي 195 الف جنيه استرليني (380 ألف دولار)، بينما لا يزيد متوسط الايجار الشهري على 559 جنيها (1090 دولارا)، الامر الذي يعني ان متوسط العائد الايجاري حاليا لا يزيد على 3.4 في المائة، وهي نسبة متدنية لن ترتفع إلا اذا انخفض ثمن العقار قليلا.

وهذا هو بالضبط ما يحدث فعلا في مناطق كثيرة من اسكتلندا منذ الربع الاخير من العام الماضي. وفي غلاسكو نفسها استمرت اسعار العقار في الارتفاع خلال هذه الفترة بنسبة 5.4 في المائة، وهي نسبة اقل مما كانت عليه في الربع الاسبق حينما بلغ النمو ستة في المائة. وكانت نسبة النمو في الفترة نفسها من العام الماضي 11.4 في المائة. وفيما يتعلق بالعقارات القديمة في المدينة، يبلغ متوسط السعر حوالي 151 الف جنيه استرليني مع شقق بغرفة واحدة تبدأ من حوالي 100 الف استرليني. وكانت المنطقة الجنوبية من المدينة هي الافضل في نسب النمو في العام الماضي. ولكن هناك علامات واضحة ان السوق يمر بمرحلة هبوط في الوقت الحاضر، وفقا لرأي استاذة عمارة في جامعة غلاسكو. وهم يرفضون احتمال وقوع انهيار عقاري في المدينة ويعتقدون ان المسألة لا تتعدى «هبوطا ناعما» مثل ذلك الذي تشهده بقية انحاء بريطانيا. ومن مظاهر التراجع ان فترات بيع العقار الان اطول مما كانت عليه في الماضي. وهو تيار يعتقد الرأي العام في سوق العقار انه سيستمر ويتعزز في المستقبل بسبب الظروف الراهنة. ولكن سمعة المدينة الثقافية والفنية واسلوب الحياة الذي ابتكرته لنفسها يساعدها الآن على تخطي المرحلة الصعبة. وتأمل المدينة في استمرار موجة الانتعاش والتجديد فيها، خصوصا بعد ان فازت اخيرا بفرصة تنظيم دورة العاب الكومنولث في عام 2014. وهي تكتسب الان بعض الخبرة من مدينة مانشستر الانجليزية التي نظمت بنجاح دورة الكومنولث في عام 2002، والتي انعشت سوق العقار في المدينة بصورة ملحوظة. فقبل دورة الكومنولث في مانشستر بحوالي خمس سنوات كان متوسط ثمن العقار فيها لا يزيد عن 48 الف جنيه استرليني، اي اقل بنسبة 23 في المائة من متوسط الاسعار في منطقة شمال انجلترا. وبعد نهاية الدورة وصل متوسط سعر العقار في المدينة الى 98 الف جنيه استرليني، بزيادة حوالي 2.5 في المائة عن منطقة شمال انجلترا. وكانت اكثر المناطق ارتفاعا في الاسعار تلك القريبة من القرى الرياضية التي استضافت اللاعبين والاداريين الاجانب.

وهذا الانتعاش المرتبط باحداث ثقافية او رياضية رئيسية معروف في اوساط العقار وسبق رصده في مدينة سيدني الاسترالية التي ارتفعت فيها الاسعار بجوار الدورة الاولمبية في عام 2000 بنسبة 70 في المائة وبنسبة 50 في المائة في بقية انحاء المدينة.

وستقع القرية الرياضية في غلاسكو شرق المدينة على نهر كلايد بالقرب من ملاعب نادي سيلتيك لكرة القدم. وتشهد هذه المنطقة حاليا عملية بناء عقارية هائلة يبلغ حجمها حوالي 1500 عقار ستباع الاغلبية منها للقطاع الخاص للاستثمار قبل بداية دورة الكومنولث. وتعرف سلطات المدينة ان العقارات وحدها لا تكفي لتجديد المدينة وتؤكد ان جهود اعادة نهضة المدن تستغرق احيانا 20 عاما حتى تأتي بنتائج مثلما كان الحال في منطقة دوكلاند شرق لندن. ولكن المدن العصرية تحاول ربط نهضتها باحداث لافتة للنظر مثل الدورات الرياضية او المهرجانات الفنية. واختيار مدينة كعاصمة ثقافة اوروبية يعتبر تصويتا بالثقة فيها واعترافا بتاريخها واثرها في النهضة الاوروبية. وهو ما يجعل كل المدن الاوروبية متحمسة للحصول على هذا الشرف. ومثل هذا الانجاز يمكن ان يتكرر عربيا لو كان للقب «عاصمة الثقافة العربية» قيمة معنوية حقيقية وتسويق ماهر وابتعاد عن مساوئ وتأثيرات السياسة التي يمكن ان تجعل اللقب مجرد شرف اسمي لا يعني الكثير. وبالمناسبة، هل يعلم كثيرون ان دمشق هي عاصمة الثقافة العربية في عام 2008؟.