الأميركيون ينزحون جنوباً نحو المكسيك بعد أزمة سوق العقارات

تبعا لحركة الهجرة المعاكسة لدول شمال أوروبا

TT

بعد فترة من انتعاش سوق العقارات الأميركية راح هذا السوق يعاني خلال العام الماضي من ركود أخاف الجميع. وأكثر من خاف هي البنوك العقارية التي أصبحت تتردد كثيراً في منح قروض لشراء المنازل في الولايات المتحدة، كما أن هبوط سعر هذه العقارات وإمكانية استمرار هبوطها خلال العام الجاري دفعا كثيراً من الأميركيين إلى التطلع إلى خارج حدود بلادهم للبحث عن عقارات رخيصة وجميلة وتقع في بلد خدماته معقولة وقريبة من بلدهم.

ويستطيع الأميركيون النزوح براً إما نحو الشمال أو الجنوب. وبما أن النزوح شمالاً يعني مزيداً من البرد والجليد، فإن الخيار الطبيعي كان النزوح جنوباً نحو المكسيك وما دونها. كثيرا ما تتحدد أسعار العقارات حسب هجرة البشر من بلد الى آخر، وأيضا حسب نزوحهم من منطقة الى أخرى داخل البلد نفسه. وعلى مدى عهود طويلة عرف العالم حركة المهاجرين من المناطق الفقيرة الى المناطق الغنية - لأسباب مفهومة بالطبع. وفي كل مرة من هذه المرات يتجه المهاجرون نحو المدن الغنية يتزاحمون عليها ومن ثم يرفعون أسعار عقاراتها. ولكن منذ استقرار أوروبا السياسي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع انتعاشتها الاقتصادية التدريجية، تطورت حركة الهجرة في الاتجاه المعاكس- أي من الدول الغنية الى الدول الأقل ثراء بحثاً عن الدفء والطقس الحسن، غير أنهما لم يعودا السبب الوحيد في حركة الهجرة.

فهناك سبب جديد وسّع حركة الهجرة المعاكسة بشدة (من الشمال الى الجنوب)، وهذا السبب هو انخفاض تكلفة المعيشة في الدول المستضيفة.

فقد كانت هجرة الغربيين الى الدول ذات الطقس الجميل مقصورة على طبقة الأثرياء الذين يستطيعون شراء عقارات يعتبرونها منازل وفيلات صيفية، ولكن الكثيرين من أبناء الطبقة المتوسطة وهي الطبقة الأكثر عددا في الدول الغربية اكتشفوا أنهم يستطيعون التقاعد في دولٍ تنخفض فيها تكلفة المعيشة مقارنة بدولهم الغنية. كما أن تحسن مستوى الخدمات العامة والمباني، شجعا الغربيين على الاستقرار في هذه الدول بعد أن كانوا يزورونها في العطلات الصيفية فقط.

ومع ازدياد الهجرة المعاكسة ازدادت هجرة رؤوس الأموال جنوباً، ومن ثم ازدادت قيمة العقارات - المستفيد الأول عادة من أي هجرة لرأس المال.

ومثلما اتجه الأوروبيون جنوبا نحو إسبانيا واليونان على البحر الأبيض المتوسط، راح الأميركيون يتجهون جنوباً نحو المكسيك ودول أميركا اللاتنية الأخرى. وعلى سبيل المثال، فقد شهدت بلدة «سان ميغول» التي تقع على تلٍ صغير يبعد ثلاث ساعات الى شمال مدينة المكسيك، اقبالا كبيرا من الاميركيين الموظفين والمهنيين ومتوسطي الدخل، بحيث أصبحت المطاعم وغالبية الخدمات العامة تتعامل باللغة الانجليزية كلغة أولى. وأشار جواني بركيل، وهو أميركي من كاليفورنيا انتقل الى المكسيك منذ 17 عاما ويعمل فيها كسمسار عقاري، إنه لا تُوجد احصاءات رسمية أميركية أو مكسيكية حول عدد المهاجرين الأميركيين الى تلك البلدة، لكنه متأكد من أن الأعداد قد تضاعفت بمعدلات عالية خلال العامين الماضيين، وربما تكون وصلت الآن الى نصف مليون شخص. ويضيف أن هؤلاء الأميركيين لم ينزحوا الى المكسيك بحثا عن الشمس، لأنهم يستطيعون الحصول عليها في ولاية فلوريدا أو أريزونا داخل الولايات المتحدة. لكنهم جاءوا الى هنا لأنهم وجدوا أن مدخراتهم أو دخلهم الشهري سيمنحهم حياة أفضل بكثير من تلك التي سيحصلون عليها اذا عاشوا داخل الولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال فإن مبلغ 220 ألف دولار كاف لشراء منزل ضخم في تلك البلدة، رغم أن هذا الرقم نفسه يُعتبر مبالغاً فيه مقارنة بالأسعار التي كانت متوفرة في نفس البلدة قبل عامين أو ثلاثة. لذا فقد راح المهاجرون الجدد من الأميركيين يخرجون الى ضواحي «سان ميغول» والبلدات المشابهة الأخرى، وهكذا تتسع رقعة النزوح جنوباً. وقد تواصل هذا الاتساع خارج المكسيك نفسها التي يفضلها الأميركيون لأن لها حدودا برية مع بلادهم ليصل الى دول أميركا الوسطى مثل هندوراس وكوستاريكا ونيكاراغوا وبنما. وفي هذه الدول يستطيع الأميركيون المهاجرون شراء فيلات إما على شواطئ المحيط الأطلسي شرقا أو المحيط الهادي غرباً، بأقل من نصف سعر المنزل في بلدة «سان ميغول» المكسيكية. غير أن كثيرا من الأميركيين يخشى عدم الاستقرار السياسي في هذه الدول وتخلف مستوى خدماتها العامة، رغم جمال طبيعتها الخلاب ورخص تكلفة معيشتها.

وكانت ظاهرة هجرة الأميركيين الى المكسيك وشراء المنازل هناك قد بدأت أصلا بالأثرياء ثم انضم اليهم المتقاعدون ثم توسعت الهجرة حالياً لتشمل هؤلاء الذين لا تفرض عليهم أعمالهم الذهاب الى المكتب كل صباح ويستطيعوا العمل من منازلهم – فهؤلاء اصبحوا يقضون نصف العام تقريبا في المكسيك والنصف الآخر في الولايات المتحدة. وهم بذلك يعملون في الشمال حيث يحصلون على أجور عالية، ويعيشون في الجنوب حيث التكلفة المتدنية ومتسع من الوقت للاستمتاع بحياتهم الاجتماعية. وأكد بركيل أن هذه الظاهرة الجديدة تشبه في الواقع ظاهرة قديمة جدا عاشتها الدول الغربية داخل حدودها، وهي أن يعمل الكثيرون في المدن لكنهم يسكنون في الريف حيث يفضلون الحياة لأنها أرخص وأجمل وتوفر لهم فيلات واسعة بنفس المبلغ الذي يشتري لهم شقة صغيرة في المدينة. وبالطبع فقد سمح لهم نظام المواصلات المتقدم من طرق وقطارات سريعة القيام بذلك بسهولة ووقت أقل. أما اليوم فإن نفس الظاهرة تتسع في رقعتها الجغرافية لتشمل الحياة المريحة حتى ولو كانت خارج حدود بلدهم. ومرة أخرى فقد سمحت التغيرات التكنولوجية والاقتصادية كانخفاض أسعار السفر جواً، ورفع القيود على حركة رأس المال بالعيش في المكسيك والعمل في كاليفورنيا. لكن كثيرا من الأميركيين يعتقد ان هناك سبباً إضافيا يمكن ان يفضي الى موجة ضخمة من الهجرة نحو المكسيك ودول أميركا اللاتينية الأخرى، وهو تعديل القانون الأميركي الخاص بالتأمين الصحي. ففي الوقت الراهن لا يسمح القانون بنقل التأمين الصحي الى خارج الولايات المتحدة، لكن هناك جدلا ومحاولات مكثفة لتعديله بحيث يمّكن المواطن الأميركي من استخدام تأمينه الصحي في الدول الأجنبية ـ أي أن تدفع له شركة التأمين نفقات علاجه أينما كان.

ويقدر المدافعون عن هذا الرأي أن التعديل سيوفر في الواقع كثيرا من النفقات لشركات التأمين الصحي نظرا الى أن تكلفة العلاج تقل في تلك الدول عن الولايات المتحدة. واذا حدث ذلك بالفعل فتتوقع شركات العقارات أن تشهد دول اميركا الجنوبية توسعا كبيرا في هجرة الأميركيين النازحين من الشمال، ومن ثم في انتعاش أسعار العقارات وصناعة الانشاءات والمطاعم والاقتصاد بشكل عام. أما عبر المحيط الاطلسي، فقد شهدت أوروبا حركة الهجرة المعاكسة وتأثيرها على اسعار العقارات منذ فترة أبعد من الولايات المتحدة. فقد راح أيضا البريطانيون والألمان ومواطنو الدول الإسكندنافية الغنية والباردة يهربون الى الأراضي الإسبانية واليونانية والايطالية، بل حتى قبرص وتركيا أصبحتا قبلة للأوروبيين الشماليين. ولم تقتصر الهجرة الأوروبية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، بل شملت أيضا الأحياء الجبلية والريفية في بلدان الجنوب الأوروبي. غير أن الدافع الأساسي في أوروبا لا يزال البحث عن الطقس الجيد أكثر من كونه بحثاً عن المعيشة الرخيصة.

فالدول الأوروبية تتقارب في مستوى معيشتها، خصوصا بعد قيام الاتحاد الأوربي والعملة الموّحدة (اليورو) رغم انه لا تزال هناك فوارق في تكلفة المعيشة. لكن هذه الفوارق قد لا تكون بنفس الدرجة في حالة الولايات المتحدة مع المكسيك ودول أميركا الجنوبية التي تقل تكلفة عقاراتها ومعيشتها كثيرا عن الولايات المتحدة. ويتوقع تجار العقارات الأميركيون والمكسيكيون أن تشهد سوق العقارات في المكسيك طفرة شبيهة بتلك التي حدثت في أسبانيا خلال السنوات العشر الماضية، باعتبارها أكبر قبلة للأوروبيين الشماليين النازحين، وهي بالتالي أكثر الأسواق العقارية في اوروبا ارتفاعا خلال العقد الماضي.