تركيا.. سوق عقاري وجسر ثقافي واعد بين الشرق والغرب

لحسن شواطئها وخدماتها السياحية.. وفتح آفاقها للمستثمرين

الشواطئ والخدمات السياحية التركية تكسبها سمعة جيدة في أوروبا («الشرق الأوسط»)
TT

استبشر العديد من المستثمرين العقاريين في تركيا، بعد زيارة كوستاس كارامنليس، رئيس الوزراء اليوناني التاريخية منذ 50 عاما، آملين ان تتحول بلادهم الى قبلة أوروبا الحديثة، فستصبح ـ بعد انضمامها إلى أوروبا ـ ثاني أكبر تعداد سكاني بعد ألمانيا، إذ يفوق عدد سكانها 70 مليوناً.

وتزامن مع زيارة كارامنليس منح البنوك التركية قروضاً عقارية للمستثمرين الأجانب. كما أن أسعار العقارات التركية ارتفعت ما بين 15 إلى 20 في المائة خلال العام الماضي، وهي نسبة عالية مقارنة بمعظم دول الاتحاد الأوروبي.

وتغري الأسعار المنخفضة واعتدال الطقس، المستثمرين الأجانب بشراء عقارات في المدن التركية مثل إسطنبول وكاس، بعد ان تحولت تركيا الى أكبر سوق عقاري يستثمر فيه الأوروبيون، والبريطانيون على وجه الخصوص في السنوات الأخيرة، إذ يُقدر عدد الذين اشتروا عقارات هناك في السنوات الخمس الأخيرة بنحو 18 ألف بريطاني، بحيث أصبحت المباني البريطانية تغطي أميالاً عديدة من سواحل تركيا. ويعزى هذا الازدهار في سوق العقارات في تركيا إلى عدة عوامل، أهمها الأسعار الرخيصة. وتقدم الدولة التي تعتبر أرخص بكثير من إسبانيا وكرواتيا، بديلاً ملحوظاً للأسعار المغرية في بلغاريا، فيتراوح سعر شقة بغرفة نوم واحدة في حي «ألتينكوم» حوالي 35 ألف دولار فقط، بينما تكلف شقة في منطقة «بودرام» نحو 100 ألف دولار، وفيلا في «كالكان» نحو 200 ألف دولار. وكانت قد صدرت قوانين جديدة قبل عامين، سمحت للأجانب بتملك عقارات تصل إلى 2.4 هكتار نحو 6 أفدنة، غير أن المستثمر الأجنبي يضطر الى دفع ضريبة تصل إلى 30 في المائة في حال باع العقار خلال الخمس سنوات الأولى من تاريخ الشراء، كما أن حوادث الإرهاب التي وقعت أخيرا في بعض المدن الكبرى أثرت سلباً على اقبال المستثمرين الأجانب في سوق العقارات.

الأمر الذي انعكس بدوره على الأسعار، لكن في المقابل فإن الرحلات الجوية الرخيصة وتوفرها بكثرة بين تركيا والدول الأوروبية يعتبر عاملا أساسيا في صالح سوق العقارات. من جهة أخرى فإن العائد المتوقع من الإيجار جيد بشكل عام، لكن من الممكن أن تؤدي كثرة مشاريع المباني إلى خفض الإيجارات. ويتركز ازدهار سوق العقارات في المنتجعات الساحلية على طول البحر المتوسط، خاصة في شبه جزيرة بودرام، ودالامان، وفيثيا، وأيضاً المدن الساحلية مثل كاس وكالكان، وألتينكوم. وتعطي الوفرة في المباني الجديدة فرصاً متزايدة للمشترين، كما أنها تؤدي إلى انخفاض الأسعار فيما يتعلق بالبيع أو الإيجار. ويأمل المستثمرون في أن تساعد شركات الطيران التي توفر رحلات رخيصة في تطوير ودعم سوق العقارات.

وتعرض وكالة العقارات اللندنية «بروبرتي ريبابليك» شققاً في حدود 70 ألف دولار في بناية «يالكافاك» الحديثة الفاخرة التي تبعد حوالي عشرة دقائق عن «بودرام». والاهتمام بتركيا لم يأت فجأة أو من فراغ، بل إن شواطئها وخدماتها السياحية ظلت تكتسب سمعة حسنة في أوروبا خلال عقد التسعينات حتى أصبحت الآن قبلة معروفة لدى غالبية الأوروبيين. ويقول أليس كروسيك، من شركة عقارات «ريدي تو أنفست» التي تتخصص في بيع العقارات في مدينة إسطنبول، إن المدينة توفر فرصة استثمارية لا مثيل لها ـ أولاً لأنها تعاني من نقص في المساكن يُقدر بنحو 500،000 وحدة سكنية، وثانياً لأنها راحت تشهد إقبالا من المستثمرين الأوروبيين منذ أن بدأت تركيا مفاوضاتها الأخيرة بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وأضاف أن المستثمرين، في العقارات وفي غيرها، دائماً يسبقون الآخرين في الدخول الى بلد ما كلما علموا أن تحولاً كبيراً على وشك أن يحدث في ذلك البلد، لذا توقع أن تصبح تركيا لاعباً كبيراً في سوق الاستثمارات العقارية في المستقبل القريب. إسطنبول: وقد شجع الإصلاح الاقتصادي الناجح الذي قامت به الحكومة المستثمرين الأجانب والسياح الذين ارتفع عددهم بنسبة 25 في المائة في العام الماضي، على القدوم إلى تركيا، على الرغم من أنها لن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي قبل عشر سنوات فإن دافيد كوكس، مدير وكالة «بروبرتي فرونتير» العقارية، يعتقد أن تركيا سوق ممتاز ومن الممكن لها أن تصبح قبلة جديدة في أوروبا، إذ إنها تملك كل المتطلبات كالطقس الممتاز والأسعار المعقولة. وفي حال انضمت تركيا الى الاتحاد الأوروبي يتوقع سكان إسطنبول، باعتبارها أكبر المدن التركية وأكثرها حيوية، أن تصبح مدينتهم ليس جسراًً ثقافيا فحسب بل مركزاً ماليا كبيراً يربط التجارة بين القارتين. فجزءٌ من مدينة إسطنبول يقع في أوروبا والجزء الآخر في آسيا، وربما لهذه الأسباب والوعود راح تجار العقارات يعدون للمستقبل ويقبلون على الاستثمار في عقارات المدينة التاريخية.

غير أن موجة المستثمرين تأتي هذه المرة من الغرب ودول الاتحاد الأوروبي. وكما هو الحال دائما فإن أفضل المؤشرات على وجود هجمة أجنبية على مدينة ما هو توسع رحلات الطيران الى تلك المدينة. فشركات الطيران لا تدخل بلدا جديدا أو تتوسع في عدد رحلاتها إليه الا اذا شعرت أن هناك طلبا من المسافرين الى هذا البلد. ومن جانبها تهيئ إسطنبول نفسها للمكانة الجديدة التي تتوقع أن تتبوأها في المستقبل، فالمدينة، التي يبلغ سكانها نحو 10 ملايين شخص، تخلصت من غالبية المصانع التي كانت تحيط بها واستبدلتها بمبان سكنية وتجارية وشركات للخدمات. كما تجدد وسط المدينة بمجموعة من الأبراج العالية، فضلا عن البدء في تنفيذ شبكة ضخمة لقطارات الانفاق تغطي المدينة كلها وستغيّر وجه الحياة فيها عندما تكتمل. هذا الكم والنوع من الاستثمار في البنية التحتية لأي مدينة لا بد أن ينعش سوقها العقاري. اضف الى ذلك ان اسطنبول تأخذ ادعاءها بأنها ستصبح مركزا تجارياً ومالياً مهماً مأخذ الجد، إذ إن سوق أوراقها المالية نما بسرعة بحيث أصبحت 320 شركة تتداول أسهمها فيه. وفي أقوى دعم لمستقبل سوق العقارات في إسطنبول أشار المعهد الملكي البريطاني لمسّاحي العقارات، الذي يرصد حركة سوق العقارات في كثير من بلدان العالم، إلى ان تحسن الأداء الاقتصادي في تركيا يجعل سوق العقارات في إسطنبول مغرياً للمستثمرين الأوروبيين على المدى القريب والبعيد. أما بالنسبة للأسعار فهي تبدأ من نحو 50 ألف دولار للحصول على شقة صغيرة حديثة البناء في موقع ثانوي من المدينة ومن دون مكان مخصص لصف السيارة. ولكن اذا أنفقت 100 ألف دولار فستستطيع شراء شقة أوسع في موقع مميز قريب من وسط المدينة ومن أسواقها الكبيرة ومراكز التسوّق الحديثة. كما أن هذا النوع من الشقق يكون سهل الايجار كاستثمار في الأوقات التي لا تكون فيها ساكناً في العقار. وتبدأ الشقق الفاخرة الكبيرة من سعر 175 ألف دولار، بينما تكلف الفيلات في الأحياء الراقية التي تبعد عن وسط المدينة بنحو ربع ساعة فقط، أكثر من 350 ألف دولار.

ورغم كل عناصر الجذب نحو الاستثمار العقاري في إسطنبول فهناك من يشير إلى ارتفاع درجة المخاطر بسبب تاريخ الزلازل في المدينة. فإسطنبول مبنية قرب تصدع الأناضول الشمالي وهو مسؤول عن العديد من الزلازل المدمرة عبر التاريخ. وتقع المدينة على مضيق البوسفور وتحيط بالميناء المعروف بالقرن الذهبي. والعديد من الدراسات يشير إلى احتمال حدوث مزيد من الزلازل الكبيرة خلال العقدين المقبلين. كما أن قرب المدينة من بحر مرمرة يزيد من خطر نشوء تسونامي الذي قد يتسبب في خسائر بشرية فادحة وفي المباني السيئة البناء المنتشرة في إسطنبول القديمة. وبالطبع فإن هذه المخاوف تؤدي إلى ارتفاع أسعار التأمين على المباني. لكن تجار العقارات يحذرون من المبالغة في خطر الزلازل، ويشيرون إلى حقيقة أن إسطنبول مدينة تاريخية ظلت تنمو وتنتعش عبر قرون وقرون رغم أنها لم تغيّر موقعها الجغرافي. وأضافوا أن المباني التي تتأثر بالزلازل هي عادة المباني القديمة، بينما تراعي المباني الحديثة معايير الأمان الهندسي الذي يأخذ الزلازل في الاعتبار. وأشاروا في هذا الصدد الى اليابان التي أيضا تعاني من الزلازل بينما يعتبر سوقها العقاري الأغلى في العالم.

يذكر أن إسطنبول كانت عاصمة تركيا، ولكن بعد قيام الجمهورية التركية في عام 1923 نقل مكان العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة، ومن ثم ضعف الاهتمام بإسطنبول. وهاجر العديد من الجاليات اليونانية والرومانية إلى اليونان خلال الخمسينات وانخفضت الجاليات الأرمنية واليهودية بشكل كبير نتيجة الهجرة الكثيفة. وفي عام 1960 أرادت حكومة عدنان مينديرس تطوير البلاد وقامت بشق الشوارع العريضة وسط المدينة، لكنها تسببت في خراب العديد من المباني التاريخية وشوّهت منظر المدينة القديمة. كما قامت ببناء العديد من المصانع على أطراف إسطنبول مما حفز في السبعينات أهل الأناضول على الهجرة للعمل في هذه المصانع والاستقرار في المدينة. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع هائل ومفاجئ في عدد سكان المدينة مما نتج عنه بناء العديد من البنايات التي تعتبر غالبيتها من النوعية الرديئة، الأمر الذي أدى بدوره إلى انهيارها في الزلازل التي ضربت إسطنبول عدة مرات. وخلال الثلاثين سنة الماضية انضم العديد من القرى النائية المحيطة بالمدينة لتصبح جزءا من إسطنبول الكبرى التي نراها اليوم.