عودة «إخلاء الملكية» للمنازل في أسواق العقار

مصائب قوم عند قوم فوائد.. وأرباح

TT

كادت كلمة «إخلاء الملكية» ان تختفي من قاموس اسواق العقار في السنوات العشر الاخيرة، لان الاحوال كانت على ما يرام. الاسعار في ارتفاع دائم والصفقات مربحة على طول الخط والبائع يضع شروطه والمشتري يقترض بسهولة، ولكن دوام الاحوال من المحال.

البداية كانت في الولايات المتحدة بفضيحة الرهن العقاري التي لم تصل أبعادها بعد، حيث يطلقون هناك لفظ (Foreclosure) على عملية اخلاء الملكية. وبعدها وصلت عمليات الاخلاء الى بريطانيا ايضا حيث تعرف هنا بلفظ اخر هو (Repossession). والكلمة غير معروفة في قاموس سوق العقار العربي لانها نادرا ما تطبق لاسباب اخلاقية. فهي تعني ببساطة طرد العائلات من مساكنها لعجزها عن دفع اقساط الرهن العقاري المترتب عليها. ونظرا لان الحكومات العربية تجد بعض الاحراج في مثل هذه الممارسات، ظلت عمليات الاقراض العقاري في الاسواق العربية متواضعة وتقدمها البنوك لفترات قصيرة وبضمانات متعددة، حتى تضمن الا يضعها العميل في موقف تضطر معه الى الاخلاء، وبالتالي التعرض الى مشاكل قانونية واجتماعية قد تسيء لسمعة البنك. وفي العادة لا تفضل البنوك اللجوء الى مثل هذا الاسلوب في الدول الغربية ايضا، ليس من باب الانسانية ولا التعاطف مع المتعثرين، وانما لانها في اغلب الاحوال تخسر نسبة من اموال قروضها في عمليات بيع متسرعة، معظمها يجري عبر المزادات العلنية لعقارات، في سوق متراجعة قد لا تغطي في قيمتها الاجمالية تكلفة القروض المترتبة عليها. ولذلك تبدأ الخطوات في العادة بعمليات تفاوض لإعادة هيكلة القروض وترتيب الدفع على فترات زمنية اطول. وفي حالات فقدان الوظائف لفترات طويلة او عدم رغبة المقترض الاستمرار في التزامه العقاري، تضطر البنوك الى الاستيلاء على العقارات باعتبارها ضمانات القروض وعرضها في السوق لاستعادة ما يمكن استعادته من اصل القرض. وفي الاحوال النادرة التي تحقق فيها العقارات أسعارا أعلى من القروض، تعود الفوائض الى المالك السابق الذي فقد عقاره.

تبقى الاشارة الى ان «إخلاء العقار» بالمعنى الغربي لا يعني بالضرورة تشرد مالك العقار واسرته في الشوارع، لان هناك العديد من الضمانات الاجتماعية التي توفر للاسر منازل مؤقتة وتعينها بتعويضات معيشية الى حين تتحسن احوالها. ولكن التعرض لاخلاء العقار يعتبر بالتأكيد أزمة هائلة لأي اسرة يمكن ان تقوض استقرارها وتعرض مستقبلها للضياع مهما كانت التعويضات. الوضع الحالي في بريطانيا يشير بوضوح الى ان هناك اكثر من مليون مقترض يعانون من متاعب تعرضهم في الوقت الحاضر لفقدان عقاراتهم. وحذرت اكثر من جهة ائتمانية هذا الاسبوع من ان الوضع يتجه نحو الاسوأ، في حين اشارت احصاءات هيئة الخدمات المالية البريطانية الى ان ثلث المقترضين منذ عام 2005، وعددهم حوالي 5.7 مليون مقترض يعانون من تأخر دفع اقساط العقار. ويواجه 1.4 مليون مقترض زيادة في اقساط القرض العقاري هذا العام بسبب انتهاء فترات قروض رخيصة كانت بأسعار فائدة ثابتة او مخفضة تم التعاقد عليها قبل عامين او ثلاثة اعوام. وتأتي هذه التطورات متزامنة مع احصاءات تؤكد تراجع الاسعار العقارية شهرا بعد شهر، والمحصلة النهائية لمثل هذا الوضع هي توقعات بزيادة حالات الاخلاء العقاري هذا العام الى الضعف، او بمعنى آخر الاستيلاء على 45 الف عقار وطرد مالكيها المتعثرين.

ولكن مصائب قوم عند قوم فوائد، فان الوضع ليس سلبيا بالمرة لكل اطراف السوق، فهناك العديد الذين يحومون حول الاسواق مثل الطيور الجارحة التي تنتظر موت فريسة لكي تنقض على عقارات خالية من اصحابها وتشتريها بأسعار تقل احيانا بنسبة 20 في المائة عن قيمة السوق.

بعض هؤلاء من المشترين الجدد الذين طال انتظارهم لفرصة دخول سوق العقار بملكية اول عقار في حياتهم. والبعض الاخر هم من مستثمري العقار الذين يشترون بغرض التأجير او اعادة البيع بعد حين بأرباح. وهناك بعض شركات العقار الصغيرة التي نشأت لغرض شراء العقارات التي استولت عليها البنوك لاعادتها الى السوق في صورة افضل وباسعار اعلى. وأكد احد المستثمرين ان الوضع الحالي في السوق يتيح بعض العقارات بأسعار تقل عما كانت عليه قبل اسابيع بحوالي 18 في المائة، مضيفا ان بعض المشترين لا يفضل هذا النوع من العقار لانهم يجدونه في العادة في حالة متردية وبارد من عدم التدفئة واحيانا تكون الادوات الصحية فيه لا تعمل بشكل جيد، والكهرباء مقطوعة.

وهناك بعض المهارات المكتسبة في هذا المجال للمشترين المحترفين، فهم يبنون شبكة علاقات في السوق من اجل معرفة العقارات التي تطرح للبيع احيانا من قبل طباعة اوصافها للمشترين او لبيوت المزاد. كما يتعهد هؤلاء للبنوك بسرعة اتمام الصفقات، وهو جانب مهم من اهتمام البنوك اكثر احيانا من الثمن المباعة به العقارات. وعلى الرغم من ان القانون يحتم البيع بأعلى الاسعار الممكنة الا ان الصفقات السريعة، والعلاقات الوثيقة احيانا تربح الصفقات على حساب من يعرض اسعارا افضل. ولكن العامل الحاسم في المعادلة هو الحرص على مشاهدة العقار على الطبيعة قبل الشراء وتقييمه بما يمكن تحقيق ارباح عند اعادة البيع. وفي العديد من الحالات تتعرض العقارات التي يتم اخلاؤها بالقوة الى عمليات تخريب من السكان المغادرين حيث تنزع ادوات المطبخ والحمام وتكسر النوافذ والابواب وتترك في حالة لا تصلح للاستخدام الآدمي الا بعد التجديد الشامل لها.

وتقول القاعدة العامة في السوق ان البائع الذي يبيع عقاره بنفسه يحقق فيه اعلى الاسعار الممكنة. ولو قام البنك بالمهمة لحساب صاحب العقار، مثل حالات الاستيلاء على العقار للوفاء بالديون، فان الاسعار في هذا الحالة تنخفض بنسبة عشرة في المائة، اما اذا عرض العقار في المزاد العلني فان الاسعار تنخفض مرة اخرى بنسبة عشرة في المائة اضافية. ويعتمد الامر في النهاية على موقع العقار وحالته، وبالطبع على احوال السوق السائدة.

ومع زيادة تدهور الاحوال المالية وازمة الاقراض، تتراجع اسعار العقارات ويزداد عدد المصادر منها في المزادات. ويقول بيت مزاد مشهور في لندن ان العقارات التي كان يتم الاستيلاء عليها في الفترة نفسها من العام الماضي كانت تباع من خلال شركات العقار بقيمتها السوقية، اما الان فإن نسبة كبيرة منها تأتي الى صالات المزاد من اجل البيع الفوري. وتقوم بيوت المزاد بصفة روتينية بتخفيض قيمة العقارات المعروضة في المزاد بنسبة 20 في المائة عن قيمتها السوقية من اجل جذب المزيد من المشترين الى قاعات المزاد. ولكن حتى مع هذه النسبة من الخفض تبقى بعض العقارات غير مباعة مما يعني ان نسبة من المستثمرين تنتظر المزيد من انخفاض الاسعار. وتبيع شركات المزاد حاليا نسبة 60 الى 65 في المائة من العقارات المعروضة فيها مقارنة بنسبة 85 في المائة في زمن الانتعاش.

وتصل نسبة الاستيلاء على العقارات حاليا معدلات لم تصلها السوق منذ منتصف التسعينات اثناء فترة النهوض من الكساد العقاري السابق في بداية التسعينات. ولكنها لم تصل بعد الى معدل الـ80 الف عقار التي تم الاستيلاء عليها في ذروة الكساد العقاري في بداية التسعينات. وكانت العقارات حينذاك تباع بأسعار بخسة وحقق مشتروها ارباحا هائلة خلال العقد التالي من الارتفاع المستمر في الاسعار.

وما زالت اركان السوق متفقة على ان كساد بداية التسعينات لن يتكرر في اسواق عقار 2008، حيث اسوأ التوقعات المتاحة نشرتها شركة «كابيتال ايكونوميكس» وقالت فيها ان الاسعار سوف تنخفض بنسبة خمسة في المائة هذا العام. وهذه النسبة ينظر اليها البعض على انها غير كافية، بينما يتحفز البعض الاخر لاقتناص الفرص المتاحة.

من ناحية اخرى يرفض البعض شراء العقارات المصادرة من اصحابها على اساس ان ذلك عمل غير اخلاقي واستفادة من مصائب الاخرين، ولكن اصحاب هذه المبادئ السامية ما زالوا في الاقلية بينما تسعى الاغلبية للربح من دون اي اعتبارات اخرى.

* حقائق وأرقام حول سوق العقار البريطاني في زمن الكساد

* فيما يستعرض بعض المستثمرين مهاراتهم في اقتناص الفرص وشراء العقارات الرخيصة التي انتزعت من اصحابها وتحقيق الارباح باعادة بيعها في السوق باسعار اعلى، فان السوق مليئة بالاحصاءات والحقائق التي ترسم صورة قاتمة في معظمها لحجم المعاناة من الوضع الاقتصادي السائد حاليا. من هذه الارقام:

ـ هناك 170 الف اسرة سوف تتعثر في دفع اقساط قروضها العقارية في بريطانيا خلال عام 2008 لاكثر من ثلاثة اشهر، مما يعرضها لفقدان عقاراتها.

ـ بلغ عدد الاسر التي تراكمت عليها اقساط عقارية تزيد عن ثلاثة اشهر في العام الماضي حوالي 121 الف اسرة، وتم الاستيلاء على نحو 23 الف عقار خلال العام الماضي.

ـ العقارات التي يبيعها اصحابها تكون اسعارها في العادة اعلى من تلك التي تم الاستيلاء عليها لبيعها لصالح البنك.

ـ معظم البنوك تفضل عدم اللجوء للاستيلاء على العقار بسبب تأخير الدفع، وتحاول مساعدة المتعثرين عبر اعادة جدولة الديون.

ـ يتعين على البنك قانونيا ان يبيع العقارات التي استولى عليها بأعلى سعر متاح في السوق، ولكن البنوك تسعى ايضا الى سرعة انجاز الصفقات وتهدف الى التخلص من العقارات المصادرة في غضون ثلاثة اشهر.

ـ يستمر المقترض المتعثر في تحمل اعباء القرض العقاري حتى بعد فقدان العقار واخلائه، وعليه ايضا دفع تكاليف شركة بيع العقار ورسوم المحامين.

* أحوال السوق تنعكس إيجابيا على معدل الإيجارات

* مع تأجيل قرارات الشراء حتى تستقر الاسواق، وربما توقعا لمزيد من هبوط الاسعار، يلجأ قطاع كبير من المشترين في اسواق العقار حاليا الى الايجار كحل مؤقت حتى تتضح الصورة. وانعكس هذا ايجابيا على معدلات الايجار السائدة مع ارتفاع الطلب وثبات حجم المتاح من العقارات. وتلاحظ شركات العقار في العاصمة لندن ومنطقة الجنوب الشرقي ارتفاع نشاط سوق الايجار بنسبة 25 في المائة منذ بداية هذا العام. والعديد من الشركات لديها لوائح انتظار من المستأجرين، ولا تستغرق عملية تأجير عقارات جديدة سوى عدة ايام بعد تسويقها. وتستأجر الشركات احيانا العقارات لصالح العاملين فيها، خصوصا القادمين من مناطق اخرى داخل بريطانيا. وتشمل عمليات الايجار العاملين الاجانب في بريطانيا المعارين من شركاتهم للبقاء لفترات تتراوح بين عامين وخمسة اعوام، فهؤلاء لا يشترون عقارات في الوقت الحاضر ويفضلون الايجار. كما يلجأ الى الايجار قطاع اخر من اصحاب العقارات الذين باعوا عقاراتهم خلال النصف الثاني من العام الماضي ويستأجرون عقارات حاليا حتى يأتي موعد الشراء المناسب لهم مع اتضاح معالم السوق.

وارتفعت ايضا معدلات الايجار الى درجة ان المستأجرين يفضلون حاليا الحصول على تعاقدات طويلة الاجل تضمن لهم بقاء الايجار ثابتا او الارتفاع بنسب صغيرة. وتتوقع شركات العقار ان تخف حدة الارتفاعات في الايجارات قريبا، خصوصا بعد خفض سعر الفائدة السائد بربع في المائة، مما قد يشجع البعض على اتخاذ قرار الشراء. وتتراوح توقعات زيادة الايجارات لهذا العام بين أربعة وخمسة في المائة، بعد زيادة بلغت 15 في المائة في العام الماضي. وتمثل هذه التحولات فرصة ثمينة للمشترين بغرض الاستثمار، خصوصا وان بيوت المزاد توفر المزيد من العقارات المتاحة التي تم الاستيلاء عليها لصالح البنوك. ويحتاج المشتري الى مقدم شراء للعقارات في حدود 10 الى 15 في المائة تشترطها البنوك في الوقت الحاضر لتقديم قروض باسعار فائدة تنافسية.